مفهوم الشلة الحاكمة



تبدو الأجواء في "القرية" خلال السنين الأخيرة أو حتى في هذه المرحلة الانتقالية (مرحلة ما قبل الانتخابات البلدية)، غائمة مرتبكة، وكأنها حيال موسم لتقسيم "الكعكة" وفق القواعد الراسخة في "ثقافتنا" الشعبية الحالية النابعة من الداخل أحيانا، بدءاً بقاعدة "الغايب مالوش نايب"، مرورا بنظرية "طباخ السم لازم يذوقه"، وصولاً إلى قانون "شيلني وأشيلك" و "حارة كل مين ايدو الو".
ومن ثقافة "التشييل" هذه يتبلور مفهوم "الشلة"، كأحد أهم وأقوى الكيانات الأكثر حضورا وتأثيرا في حياتنا الخاصة والعامة، بحيث يمتد دورها إلى كافة أنشطة الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وغيرها.
في هذا المضمار لا بد لي من الإشارة إلى تضاعف شراسة "الشلة" كلما كبرت اللعبة وازداد حجم الغنيمة، فمثلاً لا أجد لما يجري الآن تفسيرا لتلك الحملات، الضارية أحيانا، التي تشنها بعض الصحف (واليوم نضيف أيضا، المواقع الإلكترونية) على مسؤولين وحتى فرق موسيقية. لكن وبقليل من التأمل والاستقصاء، سنكتشف أن وراء هذه المعركة رغبة جامحة بإبرازهم كشلة مارقة أو تحفز للانقضاض على قطعة من "التورتة" والمغانم.
وكم يتعاظم دور الشلة داخل المجتمع إلى حد تبدو معه صراعات بعض أقطابه كأنها خصومة فاجرة، وخصوصا بين أطياف مجتمعنا من فلسطينيي الداخل. فعلى سبيل المثال، "المثقفون" منا و"الوطنيون" والإسلاميون أصبحوا مجموعات متشرذمة من "الشلل"، لا تجمعها أو تفرقها خصومات فكرية وسياسية بالضرورة، بل صراعات شخصية تعبر عن نفسها من خلال "الشلة"، التي تتوافق مصالح أعضائها.
إنها "الشلة" إذا، التي تجاوزت دور المؤسسات، غير الموجودة أصلاً، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها باتت تحل مكان منطق التآخي والوطن، فهذا الأخير وقد تحول إلى "صنم مقدس"، لم يعد قادرا على تلبية طموحات الجيل الجديد من اللاعبين على الساحات المختلفة. وبالتالي صنع هؤلاء الطامحون كيانات موازية هي "الشلل"، التي قد تمتطي ظهر الوطن والقومية حينا، وتتجاوزه أحيانا، ولكنها، وفي نهاية المطاف، لا تخدم إلا أعضاءها الذين يتبعون قواعد غير مدوّنة وصارمة، تشبه الأجواء الماسونية في سريتها وتنفذها، وفي النهاية يكونون أول الفارين من الوطن ليسكنوا القصور في المهجر.
إنّ أسطورة الشلة، هي الرمز المبين للمستنفذين من رجال السياسة وأصحاب الأفكار النرجسية الذين يتقمصون دور القادة التي تحرص، في الظاهر، على هموم شعبها، ولكنها تحرص على مصالحها الشخصية وإغراق المقرّبين بالماديات، وأما الفقراء فلهم البشارة المجرّدة فقط وبضع من الفوائد الفانية بيدَ أنّه في سنين مضت كان للبشارة دور هام في بلورة العزيمة وشد أزرها بواسطة نشر استحقاقاتها بهمّة وبموضوعية والاهتمام بشؤون الفرد والشعب، منها الحياتية ومنها العامة.
بالإضافة إلى ذلك، ففي كل عناصر "المجتمع الشللي" نكتشف نفوذ "الشلة" كلما اقتربت من مركز تلك الدوائر، ولن يكون بوسع الفرد إنجاز أدنى تقدم قي حال لم يكن فاعلاً في واحدة من تلك الشلل. حتى في الشركات الخاصة، هناك "شلل" تحاصر صنّاع القرار من ملاك الشركة ومديريها وهناك أيضا شلل عابرة للقارات مثل شلل "الإخوانجية" أو "القومجية"، لأنّه لا يتطلب الأمر أن يتفق أعضاء الشلة في توجهاتهم الفكرية، بل يكفي أن تتفق مصالحهم في هذه اللحظة. وخلافا للمؤسسات التقليدية، فإن مؤسسة "الشلة" تبدو أكثر مرونة، فهي تقبل أعضاء جددا أو تستغني عن قدامى انتهت الحاجة إليهم، لكنها أكثر صرامة في التزام كل الأعضاء بأهداف الشلة غير المكتوبة والتي تتمثل باختصار في ترضية الرفاق ودعمهم. كذلك، فانّ الشلة ليست كيانا مؤبدا، فربما تنقسم إلى اثنتين أو أكثر وخاصةً حينما يجد الرفاق مصالحهم قد تعارضت، فينقلبون ويسعون لاستقطاب العناصر الأكثر أهمية في الشلة الأم، مما يؤدي إلى اندلاع معارك صامتة حينا (وصاخبة أحيانا) ويقع المساكين خارج منظومة الشلة في ارتباك بالغ لعدم فهم حقيقة ملابسات ما يجري، ولا يجدون تفسيرا لانقلاب الأصدقاء على بعضهم.
في أوساط جزء من الجمعيات الأهلية والإعلام مثلاً، انتشرت "الشللية" لدرجة ربما لا يجد معها من لا يحظى بالانتماء إلى "شلة ما" أي فرصة للتنفس، ناهيك عن الصعود والارتقاء، فهذا يجلب لرفيق شلته فرصة عمل "طرية" وذاك يفتح أبواب "الفضائيات" لرفاقه، وهم بدورهم يكتبون أنه الأعظم والأعمق، والأنصع موهبة وكل ما تجود به صيغة التهليل من معانٍ.
لأول وهلة نقول: البشارة الصادقة تبقى ولكن الشلة مع زعيمها تغدو، ومن يتناسى ذلك ويتحذلق في شعارات رنّانة ونارية تأسر القلوب دون العقول، يأخذ صاحبها إلى الأضواء، ولكن  ُمستمعيها في الأشواك تائهون. لكن، وللأسف أصبحت "الشلة" الآن هي البديل الأكثر فعالية، وقد أفرزته ظروف الفوضى العارمة التي تضرب كافة مناحي الحياة، سواء في السياسة والثقافة والصحافة والفن والجامعة والدين وكل مكان، وشخصيا فقد استأذنت شلتي في الأمر، قبل أن أقدم على كتابة هذه السطور!

( الجديدة)

جواد كريّم سكس*
الخميس 13/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع