صور من الماضي: صنـدوق العـجب!!...



كانت الحياة في القرية في تلك الايام، رتيبة هادئة تكاد تخلو من الحركة وكان كل حدث مهما كان صغيرا أو عديم الأهمية يثير فيها الفضول والأمل المنشود، بكسر طوق العزلة المفروض حولها والانعزال المضروب عليها نتيجة تقطع السبل في حياتها!!...
فكان منادي القرية وبائع القرمش وبائع الزعرور وغيرهم كثيرون، يكسرون حجاب الصمت وهم يسيرون في أزقتها يصيحون بأعلى أصواتهم، يروجون لبضاعتهم... كان مجرد سماع أصواتهم يبعث شيئا من الحياة في هذا الجسد النائم الذي كان يغط في سبات عميق كل آلاء الليل وآناء النهار... لا بل في كل نهار إلى أن يأتي من يحركه من سكونه ويوقظه من نومه...
لم تكن السينما وصناعة الأفلام وغيرها من وسائل الاعلام المرئية قد غزت عالمنا بعد واحتلت قرانا الوادعة!!... ولم تكن الفضائيات بأنواعها المختلفة قد احتلت أديم الأرض وغطت الفضاء والسماء!!... أذكر أننا شاهدنا أول فيلم "صامت"، مصري الصنع، عام 1940 وكانت شخصياته تتحرك بسرعة دون أن تتكلم!!... وكان بالأسود والأبيض إلى أن تطورت هذه الصناعة وأصبحت الأفلام بالألوان وتنطق بكل لغة ولسان وبكل أنواع الكلام!!...
وفتحت دور السينما أبوابها في المدن الكبرى وكان الذهاب إليها ترفا لا يرقى إليه الكثيرون!!... ويا ليتنا بقينا على دور السينما التي أغلقت أبوابها، إلى غير رجعة، فقد اقتحم التلفزيون منازلنا وهدم حياتنا العائلية والاجتماعية وأصبحت الأقراص "المدمجة" تحوي من كل ما هب ودب، وشيئا كان وشيئا ما كان، تحملها إلى كل مكان...
كان صندوق العجب والحالة كهذه "فرجة" ينتظر أطفال القرية قدومه بفارغ الصبر... ولا أبالغ إذ أقول انه كان بالنسبة لنا من عجائب الدنيا السبع!!...
كان يضع صندوقه في وسط القرية وفي ساحتها العامة... صندوق خشبي مستطيل الشكل وقد طلاه بلون مزركش يجلسه على مقعد ويضع أمامه كرسيا صغيرا يجلس عليه "المشاهد الكريم" المتلهف لرؤية هذه "العجائب" التي يحويها هذا الصندوق... كان يثبت في فتحة في وسطه عدسة مكبرة (كبّارة) تطل على صور ورقية قديمة لمشاهير الرجال والأبطال في شرقنا الحبيب... صور لرجال من الأساطير الشعبية لا يزال يرددها شعبنا وفي كثير من الحالات لا يزال "يجترها" حتى يومنا هذا... ومعظمها من نسج الخيال أو يكاد!!... وقد لفها الزمن بأسمال الخيال، طوقا فوق طاق، حتى أصبحت أشبه بالحقيقة منها بالخيال!!... ولما كان السكون والخمول والجمود من الصفات اللازمة التي تسيطر على جو القرية في تلك الأيام فكان صندوق العجب هذا يخرجها عن طورها بكل تأكيد...
وان كانت الحياة عديمة الحركة فان المال كان نادر الوجود... كان وجود صندوق العجب في القرية يدفعنا لا بل يشدنا إلى رؤية هذه المشاهد الغريبة المثيرة لإعجابنا، ولكن من أين لنا النقود ننفح بها صاحب هذا الصندوق العجيب؟!... وقد جاء إلى هذه البلدة سعيا للرزق... لم يكن هناك من خيار!!... كنا نقفز من أماكننا على قارعة الطريق لدى سماع صوته ونركض مسرعين نحو بيوتنا ملاذنا الآمن الوحيد؟!... وهل يوجد لنا من ملاذ سواه نستعين به لقضاء الحاجات وتذليل الصعوبات!!...
وماذا يمكنك أن تجد في بيت الفلاح؟!... وقد يصح تسميته ببيت "للمؤونة" أكثر من كونه بيتا للسكن، وقد خلا من كل أثاث بما فيها الكراسي والطاولات، اللهمّ إلا من طبق الخبز وصحن الزيت التي كانت تعتبر من أعمدة البيت!!...
كنا نخطف رغيفا أو رغيفين ونسرع إلى "صندوق العجب" نقايض بهما تلك الجلسة الشائقة على ذلك الكرسي الذي طالما تشوقنا للجلوس عليه وان لم يتيسر لنا رغيف خبز، وربما يكون الخبز قد نفد من البيت، فلا ضير من بيضة أو بيضتين وقد امتلأ القنّ بالبيض!!...
كان صوته جريئا واضحا وهو واقف إلى جانب صندوقه يدير تلك الخشبة بيده وقد ربط عليها عشرات الصور القديمة فتمر أمام العدسة فتبدو فخمة مضخمة تحيطها هالات من الجلال والوقار...
كان يصيح بأعلى صوته الجهوري: "أما تتفرّج يا سلام على عجايب الزمان"!!... نعم كانت هذه بالنسبة لنا عجايب الزمان وهل كان يتاح لنا رؤية غيرها؟!...
وتمر الصور مرا بطيئا من أمام أعيننا وصاحب الصندوق يصيح كلما مر على صورة من الصور معرفا على صاحبها معددا بطولاته وخصائله وفضائله التي ما زلنا نتغنى بها حتى يومنا هذا!!...
لا أذكر أسماء كل الأبطال الذين كان يمر على ذكرهم، كانت القائمة طويلة وقد غاب معظمها في غياهب النسيان... فهذا أبو زيد الهلالي سلامة!!... ثم يمر على ذكر الزير وعنترة بن شداد وغيرهم من الأبطال ولا ينسى أن يذكر جساسا وهماما ونحن جالسون على هذا الكرسي الصغير مشدودون مشدوهون، نطل بعيننا المفتوحة، ونلتهم تلك الصور التهاما...
ولعل من أطرف ما في هذه "الفرجة" أننا كنا ونحن في "وسط الطريق" نطلب منه أن يتوقف قليلا لكي يفسح المجال لأحد اخوتنا الصغار أن يحظى برؤية ولو مقطع قصير من هذه العجائب على حساب الثمن المدفوع سلفا ولربما لتوفير رغيف آخر ثمنا للفرجة من جديد!!...
ملاحظة: لسنا بحاجة إلى "صندوق عجب" في هذه الأيام فالدنيا كلها أصبحت صندوق عجب واحد كبير وما يجري فيها يعتبر من عجايب الزمان!!... ولكننا بكل تأكيد بحاجة ماسة لمن ينادي: "تعال اتفرج يا سلام على عجايب الزمان"!!...

(شفاعمرو)

الياس جبور جبور *
الأربعاء 12/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع