تحت القصف !



* أصغر شهداء العالم:

لم تصب في الخروج من الرحم، ولماذا استجبتَ لليقظة، وتركتَ رحلة البياض ؟، أصرتَ مشتاقاً للرجوع إليها، صغيراً ما زلت على البحثِ عن تابوت طولهِ بعضٌ من السنتيمترات، وأين سنجدهُ؟، وكيف سنوفرهُ لكَ تحت هذا الحِصار؟.
رُبَّما يهديه لنا بعضٌ من علماء الإحصاء، لتدخل كتاب " جينيس " للأرقام القياسيَّة ( أول شهيد بعمرِ يومين )، أو ربَّما يهديه لنا بعض الأشقاء المارّين في طريقهِم إلى القِمة ( كلّ الشهداء بعمر الصَّمتِ ).
أيها الذبيحة المدلاة من العنقِ، إبْحَث عن ضاحِية أخرى لإسكان الموتى، فليس هناكَ متسعٌ لقلبكَ المحرِج أمام الله، ستقول : كنتُ عندهم يَومين .. يَومين فقط !، فأعادني الهوى والجوى عصفورا إليك.    

 

* جديلة شعر:

جديلة شعرٍ ترتبها أم عائِشة، لِكي لا تبعثرها الرِّيح في الطريق إلى المدرسة، تربت بيديها على مَلمَسها الناعِم، تطمئن على لونها الذهبيّ من الجارات الحاسدات، وتدسها تحت مريولها الأزرق، " اذهبي باتجاه الرِّيح وليس بعكسِها، لتحافظي عَلى جمالِها "، تقول الأم.


تسير عائِشة وظلها، وجديلتها، وطائرات تزمجر مِن فوقِها تقصفُ جديلتها، ينتبهُ سائِق الإسعاف في طريق نقل المُصابين يقترب إليها... ما زالت الرّوح ثاوية عندَ الجَّديلة، تومئ لهُ عائِشة بإصبعِها على جديلتها لِكي يُزيل عنها بُقع الدماء، فهِيَ تحبُّ أن تنفذ وصايا أمها...حتى في ظل الرياح العاتيات.

 

* "حبيبي يمّا يا مجاهد":

من لم يرها لم ير شيئا تحت القصفِ ..، أمٌ على مشارف السَّبعين، على وجهها خارطة مليئة بحكايا التاريخ، تحت العينينِ نكبَة، على الوجنتين نكسَة، عند الجبهة تهجيرٌ ومنفى ..، أما الآن فانتهت الحكاية، ولم يَعد متسعا في وجهها لنقش آخر من الأحزان، إنفطر قلبي ..!، إنفطر وهي تخرج خطبة الوداع الأخيرة من فمها : " حبيبي يمّا يا مجاهد "، لا مفرّ، لا مفرّ أيتها الأم العجوز، وإن أحسَن الله ختامكِ بأن تعودي صبية وتطلقي زغاريد الشهادة، فمجاهد لم يَعد، ولم تعد زوجته وأبناؤه وبيتهِ .. ذهب وحيدكِ، وذهب معه تعبكِ، وسنين عمرك، وخوفك عليهِ، ودهشتِكِ حين عادَ مرةً مِن المدرسة يخبرك بأنه سيترك الدراسة، ليُساعدك على شظف الحياة، فرحتِ بأنهُ صارَ شابا، وفرحتِ أنه أسَّس بيتا وأنجب أحفادا لكِ، لكن ّ الحزن ترصَّد لكِ عند آخر العمر، سامحينا أم مجاهد.

 

قميص أبيض:

قميص أبيض على حبل غسيل يزهو ببياضهِ ويرفرف مطمئنا تحتَ مشاجب صاحبة المنزل بأن الحَياة ما زالت مُعافاة، تكتفي غارة من فوقهِ بإصابة نسيجهِ الناعم لتنفرط كل معالم صورتهِ، لكنهُ يأبى إلا أن يصير قِماشا أبيض يُسجَّى بهِ الشهداء، ليشارك في عملية الصعود إلى السَّماء، ويُخبر الحاضرين في عالم البرزخ عن استماتتهِ في الدفاع عن حقهِ في أن يرفرف فوق حبل غسيلٍ بأمان.

مها فتحي *
الأثنين 10/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع