سجن فلسطين الهائل!



في مقالات عدة سابقة في موقع "الانتفاضة الإلكترونية"، زعمت أن إسرائيل تنفذ سياسة مذابح ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بينما تواصل سياسة التطهير العرقي في الضفة الغربية.
وقد أكدت ان سياسة المذابح هذه نابعة من عدم وجود استراتيجية. وكان جدالي:  بما أن النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية لا تعرف كيف تتعامل مع قطاع غزة، فقد لجأت إلى خيار الرد الأوتوماتيكي عبر مذابح واسعة ضد المدنيين، كلما حاول الفلسطينيون في القطاع الاحتجاج بالقوة على خنقهم وسجنهم.
والنتيجة حتى الآن هي تصاعد في القتل العشوائي للفلسطينيين. أكثر من مائة قتيل في الأيام الأولى من آذار، بحيث يمكن للأسف لي ولغيري من الذين لهم علاقة بهذه السياسة أن يصفوها بأنها "مذابحية". لكنها ليست استراتيجية بعد.
مع ذلك، فإن استراتيجية إسرائيلية جديدة تجاه قطاع غزة بدأت تظهر، وهي جزء من التفكير الأشمل حول كيف يمكن التعامل مع المناطق المحتلة عموما. وهي في جوهرها، تعديل لسياسة الحل من جانب واحد، التي تم تبنيها من قبل إسرائيل منذ فشل "محادثات سلام" كامب ديفيد في صيف عام 2000.
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وكاديما حزبه، وخليفته إيهود أولمرت، أوضحوا ماذا تعني هذه السياسة: إسرائيل ستضم خمسين في المائة من الضفة الغربية، تشمل مساحة المستوطنات، طرق الأبارتهايد، ومساحة القواعد العسكرية، و "المحميات الوطنية الطبيعية" (التي هي مناطق ممنوع على الفلسطينيين دخولها).
وقد تم تطبيق هذا الأمر، بهذا القدر أو ذاك، خلال السنوات الماضية. فالمناطق اليهودية الخالصة تقطع الضفة الغربية إلى أحد عشر كانتونا صغيرا، أو أصغر منه. وكلها مفصولة عن بعضها عضا بمجمعات من المستوطنات اليهودية. وأكثر هذه المجمعات أهمية هو مجمع القدس الكبيرة، الذي يقسم الضفة الغربية إلى منطقتين لا رابط أرضيا بينهما.
لهذا قد امتد الجدار، الذي تناسخ بأشكال متعددة، في كل أنحاء الضفة الغربية، مطوقا في بعض الأحيان قرى، ضواح أو مدنا.
والصورة التوضيحية لهذا البناء تعطي معلومة عن الاستراتيجية الجديدة تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة: الدولة اليهودية توشك على أن تنتهي من بناء سجنين هائلين، بل الأكبر من نوعهما في التاريخ البشري.
وهما مختلفان في شكلهما: سجن الضفة الغربية مكون من غيتوهات صغيرة، وسجن غزة غيتو واحد ضخم. وهناك فرق آخر: قطاع غزة الآن، في المفهوم المتحول للإسرائيليين، هو المكان الذي يوضع فيه (أكثر المجرمين خطورة). الضفة الغربية، من ناحية أخرى، ما زالت تدار ضمن مجمع سجون مفتوح، يأخذ شكل مدن وقرى بينها صلات ومراقبة بسلطة سجون تمتلك قوة عسكرية وقوة عنف هائلة.
وفي ما يخص الإسرائيليين، يمكن لهذا السجن الضخم في الضفة ان يسمى دولة. وقد دعا السيد ياسر عبد ربه، مستشار الرئيس عباس، متأثرا بما جرى في كوسوفو إلى إعلان الاستقلال من جانب واحد. وعلى كل حال، لا يبدو ان أحدا في الجانب الإسرائيلي يعارض هذه الفكرة جديا. وهذه في الواقع، إلى هذا الحد أو ذاك، هي الرسالة التي تلقاها أحمد قريع، الذي عينه عباس كمفاوض فلسطيني، من تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية، عندما اتصل بها ليخبرها أن ياسر عبد ربه لا يتحدث باسم السلطة الفلسطينية. وكان الانطباع الذي حصل عليه معاكسا: فقلقها الرئيسي كان هو أن لا توافق السلطة على تسمية السجن الكبير دولة في المستقبل القريب.
عدم القبول هذا، بالتوافق مع مقاومة حماس لنظام السجن الكبير بحرب التحرير، أرغم إسرائيل على إعادة التفكير في استراتيجيتها تجاه قطاع غزة. فقد توصلت إلى أنه حتى أكثر العناصر تعاونا في السلطة الفلسطينية لا تقبل أخذ السجن الكبير على أنه "سلام" أو على انه "حل الدولتين". أما حماس والجهاد الإسلامي فقد ترجمتا رفضهما إلى صواريخ قسام على إسرائيل. وهكذا، فقد تطور مفهوم المكان الأكثر خطورة: فالقيادة الاستراتيجية في الجيش والحكومة يعدون أنفسهم لـ"إدارة" طويلة المدى للسجن الذي بنوه، بينما يظلون يعلنون الالتزام ب "عملية سلام" فارغة، التي لا يبدي العالم اهتماما بها، لكن مع العمل ضدها من داخلها.
ينظر إلى قطاع غزة الآن كأخطر قسم في المجمع، والذي يجب أن تطبق عليه أشد العقوبات قسوة. قتل (السجناء الخطرين) بالهجمات بالطائرات أو بالقصف المدفعي، أو بالعقوبات الاقتصادية، هو نتاجا لا مفر منه للرد الذي اختير، بل هو أمر مرغوب فيه.
قصف سديروت بالصواريخ، هو نتاج حتمي لهذه الاستراتيجية. وهو لا مفر منه، لأن العقاب لا يمكن له أن يدمر المقاومة، بل إنه يستثير الثأر دائما. والثأر بدوره يوفر القاعدة المنطقية لتبرير العقاب القادم، إذا شكا شك أحد في الرأي العام المحلي في حكمة السياسة الجديدة.
وفي المستقبل القريب، فإن أي مقاومة تبدى في السجن الكبير في الضفة سيتم التعامل معها بنفس الطريقة. وهذه المقاومة ستظهر طريقها قريبا. وفي الحقيقة فإن الانتفاضة الثالثة قادمة، وأن رد إسرائيل سيكون بتوسيع نظام السجن. تخفيض عدد "الخطرين" في السجنين الكبيرين سيكون على رأس الأولويات في هذه الاستراتيجية عن طريق التطهير العرقي، والقتل المنظم، والعقوبات الاقتصادية.
لكن هناك عقبات تمنع ماكنة التدمير من الحركة. إذ يبدو أن عددا متزايد من اليهود في إسرائيل يريدون من حكومتهم ان تبدأ المفاوضات مع حماس (الأغلبية حسب استطلاع حديث للسي إن إن). السجن الكبير ممتاز، لكن إذا كانت مناطق الحراس ستتعرض للصواريخ فإن النظام سيفشل.
وللأسف، فأنا أشك ان استطلاع رأي" السي إن إن" يمثل المزاج الإسرائيلي الحالي. لكنني أعتقد أنه يشير إلى اتجاه يثير الأمل، ويبرر إصرار حماس على ان الإسرائيليين لا يفهمون إلا لغة القوة. لكن هذا لن يكون كافيا، مع استمرار نظام السجن الكبير بالعمل من دون مواجهة، ومع إجراءات إدارته التي تحصد كل يوم المزيد من الأطفال والنساء والرجال في قطاع غزة.
وكما هو الحال دوما، فإن علينا ان نذكّر بأن الغرب بإمكانه أن يوقف هذه اللاإنسانية وهذا الإجرام غير المسبوق، غدا. لكن هذا لا يحصل حتى الآن. ومع ان الجهود ماضية لجعل إسرائيل دولة خارجة على القانون ما تزال مستمرة، فإنها تأثيرها ما يزال عند حدود المجتمع المدني. والأمل أن تتحول هذه الطاقة يوما ما إلى سياسة حكومية على الأرض.
نستطيع فقط الآن أن نصلي كي لا يكون الوقت متأخرا جدا لضحايا الاختراع الصهيوني المرعب الجديد: السجن الهائل في فلسطين.

* الكاتب رئيس قسم التاريخ في جامعة إكسيتر (نُشر هذا المقال في موقع "الانتفاضة الإلكترونية" باللغة الانجليزية، عرّبه: زكريا محمد)

د. إيلان بابه
الأثنين 10/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع