سْتير وجدّتي ندى؛ أو: بروليتاريا "جورة الزيتون"



*"هل كانت هنا مرّة بروليتاريا عربية- يهوديّة حقيقية؟ هل ساد مرّة وضعٌ نقيّ من علاقات السيادة والهيمنة؟ لربما أن هذا كان ذات مرّة، بل استمرّ الى أن جرى إخضاع الجليل تحت حربة التهويد الطلائعي. يومها، يبدو لي، إنطفأت أيضًا رنّة الإسم الفلسطيني للسيدة سْتير.* بعد عقود على تلك السنوات في العمل مع سْتير، اعتادت جدتي مقارنة كافة أحداث حياتها تقريبًا بتلك السنة التي "احتلّ اليهود" فيها. أعتقد أن جدتي لم تكن تقصد سْتير بكلمة/تهمة "إحتلّ". ومن يعلم، فلربما أن سْتير، اليهودية إبنة البلاد، كانت تحنّ دومًا للتنافس على الزيتون مع العربيّة ندى*

- "ما هذا الإسم، سْتير؟".
- إستر.
- يعني أنها كانت يهودية؟
- "نعم، يهودية ويبدو لي أنها كانت من صفد"، يردّ والدي مضيفًا هوامش ببلوغرافية للقصة التي حكاها لي للتوّ، فيما هو يواصل مَشق الزيتون فوق السلّم الخشبيّ.
هنا "جورة الزيتون"، إسم عتيق لتلك القطعة الجليلية الممتدة من البروة وحتى عين الزيتون المهجّرتين، والتي يُقال إنها تضمّ أعتقَ زيتون في البلاد. الآن، في ختام يوم عمل آخر، نقف مستندَين على سور معدنيّ أكل بعضه الصّدأ ونحن نطلّ على مشهدٍ عامر بالزيتون الممتدّ من الأفق الى الأفق. الإسم الطاغي حاليًا على المكان، هو شارع عكا-صفد؛ إسمٌ يتخطّى المكان مكتفيًا بالإشارة الى طرفيه بإختزالٍ مثير للرّيبة. وكأنّ كل ما بين طرفيه، ما كان فيه وما بقي، قد انعدَم بواسطة مادّة لغويّة عجيبة قادرة على تذويب الأمكنة والفضاءات.
مرّة، عملتْ هنا جدّتي لدى أحد الاقطاعيين. لا يذكر والدي اسمَه، ولربما أن جدتي أيضًا لم تتذكره بل لم تعرفه أصلا. لقد كان مجرّد "الأفندي"؛ إسمٌ في سلالة ما يُسمّى بالأفنديّة الأتراك، ممن سيطروا على الزيتون والناس والمكان، وسبقوا ذلك الإستعمار المسمّى اليوم "تهويد الجليل"، بنحو قرن.

**

في حيفا أيضًا هناك شارع صغير إسمه (بترجمة حرّة من العبرية) "جورة الزيتون". قبل سنوات سكنت فوقه ببضعة شوارع تحت الكرمل. حينذاك كنتُ استأجرتُ دارًا مع صديقي أحمد، الذي طالما بحثتُ وإيّاه عن معنى لسؤال "معنى الحياة"، لاجئين الى العديد من نصوص الفلسفة، خلال جلساتنا الليلية الطويلة في شرفة ضيّقة محشورة بين جدران مقشورة الدّهان.
حتى الآن لا أزال أشعر بذلك التأهّب المرتجِف الذي رافق بحثنا المشوب بالهوَس خلف المعاني؛ ذلك الشعور الفارِق للعشرينيات الأولى المتمرّدة. أذكر ذلك بنوع من حنين يُرجِف الجسد، فالحنين مادة نادرة، غنيّة ومثرية، تكاد تضاهي اليورانيوم المخصّب قيمةً.
تعلّمنا أحمد وأنا معًا، واعتدنا السفر مرة كل (كذا) أسابيع الى قريتينا الواقعتين في جزئيّ الجليل، فوق شارع عكا-صفد وتحته. مرّةً، كنت عائدًا للمدينة عصرَ يوم سبت. كانت الفترة صيفًا تقريبًا. مطلعُ صيف أو نهاية صيف، من الصّعب التذكُّر. فالذاكرة، خلافًا لما يفعله شارع عكا-صفد، تلتقط أطرافًا غير واضحة متمحورةً في المضمون، الشعور الصّيفيّ. مفهوما البداية والنهاية يصبحان متماثلين، مُضَلّلين.
نزلت من سيارة الأجرة في الهَدار، مشيتُ شارع "الأنبياء" ورحت أصعد في شارع "جورة الزيتون". قُبيل نهايته التقطتهُ عيناي: يجلسُ على الرصيف، عند مدخل حديقة عامة صارت اليوم مكانًا يبعث على التوجُّس لو مررت فيها. إنها اسرائيل 2007.
حين وصلت بمحاذاته بالضبط، انتبهتُ الى أنه ينظر إليّ. لم تكن نظرته تائهة، بل كانت مركّزة وملفوفة بابتسامة عريضة شعّت باتّجاهي لدرجة يمكن للمرء ملامستها.
أشارَ بتردّد الى زجاجة "فودكا" بجانبه.
أجبتُ بحركة من رأسي موافقًا ومبتسمًا. حرّرت كتفيّ من عبء الحقيبة الكبيرة وجلستُ عليها. تبادلنا التحيات المبتسمة ثانية. لم نتحدّث. فهو لا يعرف من العبريّة شيئًا، ولا من العربية طبعًا. صبّ لي كأسًا خلطه مع عصير حمضيات وكنت قد تعلمت القول: "لزدَروفيا" (صحّة، بالروسيّة) وضحكنا. قضينا نحو ساعة في خليط من الحَرج، الصمت، والتمتمات، ولكن في تقاربٍ إنسانيّ أتصوّره  كذلك الذي يجمع لاجئين في غُربة، الى أن ودّعته وأنا أهزّ رأسي قاصدًا التعبير عن أقصى ما يمكن من امتنان، وبأقلّ ما يمكن من ألفاظ مفهومة مُتاحة.
حتى اليوم لم ألتقيه ثانية.

**

في الجورة الجليليّة، "جورة الزيتون"، يملك أهلي قطعة زيتون. لم يرثوها من "الكيرن كييمت"، طبعًا.. في السنة الماضية قضيت أيامًا قليلة في القطف. كنتُ جديًا ونشيطًا أعملُ بتركيز لافت. حتى أنني بالكاد أخذت لنفسي استراحات. لم أكن أدخّن من السيجارة سوى نصفها.
الحقيقة، أنني في الماضي لم أكن أحبّ العمل في الزيتون، على الرّغم من أنني دومًا أحببتُ الزيتون، مذاقه، والأكثر: معناه وما يرمز اليه. كان حبًا نظريًا، كأنه حبّ مثقّفين.. فقطف الزيتون عمل مضنِ، كحرفة النّمل. يجب البحث عن كلّ حبّة حتى الأخيرة منها. آلاف الحبّات، عشرات الآلاف ربما. حينذاك، لكثرة البحث عن المعنى الكونيّ للأشياء، كدتُ أفقدُ مَحَطَّ قدميّ.
آه يا سيزيف! كنتُ أهتفُ لنفسي بخفوت، وأنا أتأسّف على تضييع الوقت الثمين بعيدًا عن النقاشات السياسية والمناقشات الفكرية الساخنة. ذلك النوع من الثورية التي اشتعلت فيّ، جعلَ من توزيع المنشور أكثر الأفعال انطواءً على معنى. أما قطف الزيتون فكان مجرد انشغال هامشي بالتفاصيل.
في السنوات الأخيرة يبدو أن انقلابًا قد وقع. فوقه هامت ذكرى جدتي ندى. كانت امرأة ملتزمة بالأرض بقوّة. لم تُشغل نفسها بشتّى معاني عبارة "أمّنا الأرض". لا أذكر يومًا أنها أدخلت نفسها في مسألة الإشكاليّة النسويّة المترتبة على خلق تماثلِ بين الأرض والمرأة والأمّة؛ تلك العبارة التي فرضها "الأب" الرمزيّ الأكبر القديم. بل أنها، وببساطة شديدة، أدّت عملها في الأرض بالضبط كما كانت تؤدي صلواتها. كانت سيّدة شديدة التديّن، بالأحرى، كانت شديدة الايمان. إيمان جمع الديني بالدنيوي حين كان تجسّدُه هو الأرض. لا زلت أشعر بالدهشة كلما استعدت كيف تعاطتْ مع الأرض بشكل مُطلق، من غير أن تحتاج لأية كلمة أو شعار.
في العطلة الصيفية ("الفرصة الكبيرة") كنت أرافقها، حاملا بيديّ النحيفتين وعاءين من الماء، لإسقاء شجيرتيّ عنب وتين غضّتين في "الصعبنيّة"، تلك الأرض الصخريّة غربيّ القرية؛ موقعٌ خلاّب على مبعدة مسيرٍ غير قصير من طرف القرية، يُمكن للمرء في يوم صافٍ أن يرى منه قمم جبال لبنان.
"بَسْ يا قبّاري، بسْ"، كانت تقول مضيفةً: "حرام، بتختنق هيك"، في إشارة الى العنبة الصغيرة. "إسقي هاي" كانت تقول، و "هاي" هي شجيرة قاتل طفلة، لا تزال حُمرة جذعها في بداياتها. لقد بنت جدّتي علاقات جيرة رائعة بين العنب والقاتل. بين شجرة الثّمر وشجرة البَرّ.
لطالما أحببتُ استعادة هذه الذكرى أكثر من أيّ ذكرى أخرى. ففي التسعينيات الأولى، حين كنتُ أجادل الزّاعمين بأن "العرب يحرقون أحراش الجليل"، كنتُ أمتشقُ حجّة جيرة العنب والقاتل كسَيف يابانيّ، أقطع به كافة مزاعم إدانة العرب بتدمير خُضرة جليلهم. كنت أشعر دائمًا أنني أخرج منتصرًا بقصّة جدتي. أما هي فلم تنشغل ولو مرّة بكل هذا. فقد كان تنافسها مع "اليهود" مختلفًا، محدّدًا، عمليًا، بل إنه تنافس ضمنَ تضامن بين المتنافسين أنفسهم. كان تنافسًا يجري في خندق واحد. كان تنافسها مع سْتير، إسترْ.
عملت سْتير معها لدى الإقطاعي. يقول والدي إنها اعتادت أن تذكرها كأهمّ متنافسة معها على شُغل الزيتون. ليس أيّ شغل، بل "جول" الزيتون، جمع تلك الثمار الصغيرة السوداء من بين الحجارة وبقايا الأشواك حول الجذوع الخشنة المشقّقة المنغرسة في الأرض الحمراء القاسية.
مستعيدًا كل ذلك، فجأة، في حركة بهلوانية غريبة عن الفضاء الذي تتفاعل فيه هذي الكلمات، يحُطّ عليّ بوقاحة سؤال شقيّ:
"هل كانت هنا مرّة بروليتاريا عربية – يهوديّة حقيقية؟ هل ساد مرّة وضعٌ نقيّ من علاقات السيادة والهيمنة؟
لربما أن هذا كان ذات مرّة، بل استمرّ الى أن جرى إخضاع الجليل تحت حربة التهويد الطلائعي. يومها، يبدو لي، إنطفأت أيضًا رنّة الإسم الفلسطيني للسيدة سْتير.
للذاكرة شأنها، وهي تنتقل من حكاية لأخرى:
بعد عقود على تلك السنوات في العمل مع سْتير، اعتادت جدتي مقارنة كافة أحداث حياتها تقريبًا بتلك السنة التي "احتلّ اليهود" فيها. أعتقد أن جدتي لم تكن تقصد سْتير بكلمة/تهمة "إحتلّ". ومن يعلم، فلربما أن سْتير، اليهودية إبنة البلاد، كانت تحنّ دومًا للتنافس على الزيتون مع العربيّة ندى.
فجأة، تنقطع التساؤلات والاستعادات والتأملات.
"جيب كيس حبيبي"، يشعّ صوت والدتي الذي يغمر القلب. أقفز نحوها ممسكًا بالكيس المفتوح وأروح أعدّ مع والدتي – واحد، اثنان، ثلاثة... حتى عشرة دلاء من الزيتون الأسود اليانع. أربط الكيس، أضعه بجانب غلّة اليوم، وأعود لمتابعة العمل.
أردت كتابة أن قطف الزيتون هو "خدمة الإحتياط" التي يؤديها الفلسطينيون هنا. لكنني، عملاً بمشورة صديق ذكيّ، عدلتُ عن الفكرة. فسيكون بشعًا حقًا، ولو كان الأمر لضرورة مناكفة سياسة الإستعلاء الاسرائيلية، فرضَ سياقٍ من العَسكرة على الزيتون. إذًا فلربما نعرّفه كالتالي: إنه الربط الأكثر تطوّرًا للفعلي بالرّمزي لدى أولئك الذين بقيوا في وطنهم كشوكة حادّة، مؤلمة وجارحة في حلوق جميع الترانسفيريين بشتى أشكالهم وعلى امتداد مختلف أزمنتهم.
أما سْتير، إبنة البلاد، فلتبقَ ذكراها عطرة، كذكرى جدتي ندى.

هشام نفاع*
السبت 8/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع