حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (3)



* خلال اول زيارة لفرقة كبيرة من الصبايا والشبان اليهود والعرب معا لقريتنا، عرابة، أكملوا مشوارهم الى سخنين حيث رافقتهم الى هناك ايضا، وخلال تجوالهم في سخنين حاول بعض عملاء السلطة هناك التصدي لهم واستفزازهم حيث ارسلوا ناطور القرية يحمل ورقة عليها حرف "ن" وهو يصيح "نون، نون"، فرد عليه احد الرفاق اليهود وقال له "نون مجنون، بل صوّت قاف ولا تخاف". فهؤلاء الشبان والصبايا واجهوا هؤلاء العملاء بجرأة وأفشلوا استفزازهم. ان هذه الزيارة بالاضافة الى الزيارات التي كان يقوم بها الرفاق الاخرين الى بيتنا وحضوري معهم مثل هذه الجلسات، جعلتني افهم بشكل أوضح بعض الامور وأفكر: "كيف يمكن ان يعيش عرب ويهود في تنظيم شبابي واحد في ظل العداء بين اليهود والعرب؟"*

*توفيق كناعنة*

هناك حدث اخر ادى بي الى الانتقال من السير في دروب الحياة الاولى الى السير في معترك هذه الحياة الصعبة التي نعيشها وأدى بي الى بداية فهم الواقع الذي نعيشه وتعيشه جماهير شعبنا العربي الفلسطيني بشكل عام وجماهير شعبنا التي بقيت في داخل الوطن ومتمسكة به، وبالرغم من هذا الفهم الذي لم يكن متكاملا بعد، ان هذا الحدث جاء في اواخر سنة 1950 أي بعد نكبة شعبنا التي حلت به وبعد قيام دولة اسرائيل بسنتين تقريبا، حيث استيقظت من نومي في صباح احد ايام تلك السنة، وكانت السماء ماطرة في ذلك اليوم واذا بشاب يجلس على الكرسي في ديوان والدي ويضع على ركبته مجموعة من الجرائد ويتحدث مع والدي واخي سليم، وجلست لأستمع له وأعجبني حديثه وعرفت فيما بعد ان هذا الشاب هو لطفي سليم زريق من قرية عيلبون المجاورة لقريتنا، وعرفت فيما بعد انه عضو في الحزب الشيوعي، وألقيَتْ عليه مهمة ايصال جريدة "الاتحاد" من قبل الحزب الى القرى المجاورة لقرية عيلبون وكذلك كان يقع على عاتقه من قبل منطقة الناصرة للحزب الشيوعي العمل من اجل اقامة فروع للحزب الشيوعي في هذه القرى. وفي احدى زياراته الى بيتنا جلست لأستمع لحديثه عن مساوئ نظام الحكم العسكري ونظام المخترة في قرانا في ذلك الوقت وعن الظلم الذي لحق بشعبنا العربي الفلسطيني والمأساة التي حلت به، وكيف أنه علينا ان ننتظم بشكل صحيح من اجل مجابهة هذا الظلم ومقاومته. وفعلا، أعجبني هذا الحديث الواضح والصريح، وكان هو أول شيوعي عرفته؛ وبعده بفترة قصيرة عرفت شيوعيا آخر؛ إنسان فلاح طيب كان يملك جرار (تراكتور) جنزير ويحرث الأرض في سهل البطوف مقابل أجر يتلقاه من أصحاب الأرض. وفي أحد الأيام مطلع سنة 1951 وجدته يبيت عندنا لأنه كان قد حرث أرضنا وكان قد تعرف على أخي سليم، الذي كان قد بدأ مشواره مع الشيوعيين قبل فترة، خاصة وأن هذا الرفيق هو من الشيوعيين الأوائل في طرعان وهو الرفيق طيب الذكر أمين سمعان الذي إستمرت علاقتي الشخصية معه حتى أيامه الأخيرة، وحتى الآن تربطني بعائلته وأولاده علاقات رفاقية طيبة.
  ومنذ ذلك الوقت بدأ مشواري مع جريدة "الاتحاد" والتي كما قلت سابقا انها مدرستي الاساسية، ومن ثم في صفوف ابناء الكادحين والشبيبة الشيوعية ومن بعدها شرف العضوية في صفوف الحزب الشيوعي، هذا المشوار الذي لم ينقطع منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا والذي سوف لن ينقطع لانني ربيت ابنائي على حب هذه المبادئ واصبحت عندهم القناعة السياسية والفكرية الكاملة من اجل الاستمرار في هذا المشوار الشريف والمشرف. وانني اعتز وافتخر انه بالرغم من كل العواصف والظروف الصعبة التي مرت بها الحركة الشيوعية العالمية وحزبنا الشيوعي في هذه البلاد، لم تهتز قناعاتي الفكرية والسياسية في صحة وصدق المبادئ الشيوعية، هذه المبادئ الاكثر انسانية والاكثر تقدمية من كل النظريات الفلسفية الاخرى التي ظهرت، مهما حاول الذين هربوا من السفينة، والاعداء لهذه المبادئ، تشويهها ومعاداتها لكنها في النهاية وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهتها تبقى هذه المبادئ هي المستقبل الافضل للانسانية جمعاء في عالمنا المشوه في هذه الايام.
في تلك الفترة كان اخي سليم الذي يكبرني بحوالي تسع سنوات قد وثق علاقاته مع الرفيق لطفي زريق الذي واظب على زيارتنا اسبوعيا تقريبا، وبدأ باعطاء اخي عدة اعداد من جريدة "الاتحاد" من اجل توزيعها في القرية وخاصة على بعض الاشخاص الذين اعتقلوا بعد الاحتلال وهناك في المعتقل تعرفوا على الشيوعيين. وبدأ اخي يعطيني قائمة بأسماء عدد من الاشخاص من اجل ايصالها الى بيوتهم وذلك منذ اوائل سنة 1951. وفي احدى المرات وخلال توزيعي لـ "الاتحاد" نهشني كلب في موقع صعب في جسمي وعندما عدت الى البيت ورأتني والدتي وعرفت ما حدث طلبت من اخي اسعد الذهاب بسرعة الى دار القاضي، اصحاب الكلب من اجل احضار عجينة من عندهم مدهونة بالزيت من اجل معالجتي، فهكذا كانوا يعتقدون، وهكذا عالجتني والدتي، والحمد لله كل شيء بقي على ما يرام.
كذلك بدأ العمل من اجل اقامة فرع لمؤتمر العمال العرب كمنظمة نقابية للعمال التي يقودها الشيوعيون في ذلك الوقت والعمل عن طريق هذه المنظمة العمالية لاجل ايجاد اماكن عمل للعمال، واستطاع عدد غير قليل من الشباب العمل عن طريق مؤتمر العمال العرب والتي كانت معروفة كمنظمة عمالية يسارية، وقسم من الشباب ذهب للعمل في الرملة وهناك ايضا كانوا ينامون في نادي الحزب الشيوعي وهذا ادى الى تقرب عدد من الشباب للحزب الشيوعي ولمؤتمر العمال العرب. في تلك السنة وفي اواخر شهر آب جرت انتخابات الكنيست الاسرائيلية الثانية والتي اشتركت بها قريتنا لأول مرة، وفي هذه الاثناء بدأ عدد آخر من الشيوعيين المسؤولين في منطقة الناصرة بزيارة قريتنا، منهم طيبي الذكر الرفاق فؤاد خوري ومنعم جرجورة من اجل الدعاية للحزب ومن اجل اقامة فروع للحزب في عرابة وسخنين وديرحنا، وخلال العمل من اجل الدعاية للحزب وقبل الانتخابات بأسابيع حضر الى القرية مجموعة كبيرة من الصبايا والشباب اليهود والعرب بقيادة الرفيقين بنيامين غونين وطيب الذكر الرفيق جورج طوبي، وتجمهر حولهم عدد من شبان القرية وكان ذلك عند باب الجامع (او بالتحديد باب المجلس المحلي اليوم) حيث وضعوا مكبر الصوت وتكلم هناك الرفيقان بنيامين وجورج عن دور الحزب الشيوعي واهمية التصويت له في هذه الانتخابات المقبلة، وهذه عمليا كانت اول زيارة لفرقة كبيرة من الصبايا والشبان اليهود والعرب معا لقريتنا، وبعد ان قاموا بواجبهم في عرابة أكملوا مشوارهم الى سخنين حيث رافقتهم الى هناك ايضا، وخلال تجوالهم في سخنين حاول بعض عملاء السلطة هناك التصدي لهم واستفزازهم حيث ارسلوا ناطور القرية يحمل ورقة عليها حرف "ن" وهو يصيح "نون، نون"، فرد عليه احد الرفاق اليهود وقال له "نون مجنون، بل صوّت قاف ولا تخاف". فهؤلاء الشبان والصبايا واجهوا هؤلاء العملاء بجرأة وأفشلوا استفزازهم. ان هذه الزيارة للصبايا والشبان اليهود والعرب معا بالاضافة الى الزيارات التي كان يقوم بها الرفاق الاخرين الى بيتنا وحضوري معهم مثل هذه الجلسات، جعلتني افهم بشكل اوضح بعض الامور وأفكر: "كيف يمكن ان يعيش عرب ويهود في تنظيم شبابي واحد في ظل العداء بين اليهود والعرب؟".
بدأت اسأل نفسي اسئلة كثيرة وكذلك اسأل الاخرين من الرفاق الذين يزوروننا من اجل ان افهم هذا اللغز الذي حيرني في ذلك الوقت، وبعد انتخابات الكنيست التي جرت في اواخر شهر آب سنة 1951 بأشهر قليلة أقيم فرع الحزب الشيوعي في عرابة وكان ذلك في اوائل سنة 1952 ومن ثم وفي نفس السنة أقيم فرع الشبيبة الشيوعية ايضا في عرابة، وكل هذا كان في نادي الحزب الشيوعي والذي كان في بيت طيب الذكر الرفيق ابراهيم زيدان عاصلة. وقد كنت متواجدا في النادي عندما عقد اول اجتماع لفرع الشبيبة الشيوعية والذي انتخبت فيه اول لجنة محلية للفرع وكذلك سكرتيرا لفرع الشبيبة وفي حينه انتخب الرفيق ابراهيم شكري شمشوم سكرتيرا لهذا الفرع. ان هذا التحول كله جرى بعد انتخابات الكنيست الثانية والتي جرى فيها اعتداء من قبل اعوان السلطة في عرابة على لطفي زريق واخي سليم حيث كانا ممثلي الحزب في صناديق الاقتراع، ولكن هذا الاعتداء ادى الى رد فعل عكسي إيجابي من قبل عدد من الناس الطيبين والشباب المتحمس وصوتوا لصالح الحزب الشيوعي حيث حصل الحزب في ذلك الوقت على نسبة 14% (أي 146 صوتا) من الاصوات، وهكذا من الناحية العملية فان هذه الانتخابات ونتائجها كانت قد عجلت في اقامة فرع الحزب ومن ثم فرع الشبيبة الشيوعية، وهذا يعني بدءَ العمل المنظم للحزب والشبيبة في عرابة والبدء بالقيام بنشاطات سياسية واجتماعية ونقابية واعطاء محاضرات سياسية وفكرية، وهذا ادى بي من الناحية العملية الى البدء في حل اللغز الذي تحدثت عنه قبل ذلك أي عن التنظيم اليهودي العربي الذي يضم الشباب من كلا الشعبين.
ان هذا العمل والنشاط المثابر والمنظم الذي بدأ يعمل فيه فرعا الحزب والشبيبة في عرابة بعد اقامتهما، ادى الى اصابة السلطة بالجنون، فبدأت المجابهة والمقاومة الشديدة من قبل اجهزة السلطة والحكم العسكري بتوجيه اعوانها المحليين وبشكل خاص المخاتير وبعض ابنائهم من اجل مقاومة هذا التنظيم الجديد حيث انهم رأوا وبحق ان نجاح الحزب الشيوعي وتقويته سوف تكون بداية النهاية لتسلطهم في القرية، وفضح اساليبهم السيئة وتعاملهم مع سلطات الحكم العسكري ضد جماهير قريتهم بشكل خاص وجماهير شعبهم بشكل عام.
كانت هناك مجابهات عديدة في بداية هذا الطريق مع مثل هؤلاء. لقد كانت اول مجابهات فرع الحزب والشبيبة في عرابة مع السلطة، هي ضد سياسة سلب منتوج الزيتون من الفلاحين حيث كانت السلطات تضع في موسم الزيتون مراقبين في معاصر الزيت بهدف حصر الانتاج في القرى العربية واخذ نسبة معينة من هذا الانتاج من كل فلاح لصالح السلطة ويبقون نسبة قليلة للفلاح. وفي بعض الحالات كانت تصل بهم الوقاحة حدّ الدخول لبيوت الفلاحين بحجة انهم اخذوا من الانتاج اكثر مما يستحقون (!) وعلى هذا الاساس يأخذون هذا الزيت من البيوت. وفي احد الايام في اواخر سنة 1952 جاء الضابط الذي كان يسمى "شويلي" مع عدد من افراد الشرطة من اجل سلب براميل الزيت من بيت امرأة ارملة وتعيل اطفالا صغارا وهي ارملة المرحوم علي عوض نصار، وقد طلب هذا الضابط من بعض الشباب الذين  تواجدوا بالقرب من المكان مرافقته من اجل نقل براميل الزيت من عند هذه الارملة الى بيت المختار فرفض هؤلاء الشبان هذا الامر، وكانوا بالذات اخويّ يوسف واسعد، فرفضا طلبه وأجاباه: اننا لن نساعدكم على سلب لقمة عيش هذه المرأة واطفالها الصغار، فانهم أولى بهذا الزيت منكم. عندها حاول الضابط فرض أمره بالقوة ونتيجة لذلك جرى صدام معه ومع افراد الشرطة المرافقين له واعتقل اخواي لانهما رفضا تنفيذ هذه الاوامر الجائرة. وعندما رأيت عملية اعتقال اخويّ  بدأت بالقاء الحجارة على رجال الشرطة، فسحب الضابط المسدس من جانبه ووجهه نحوي، وعندها هربت ولم يعتقلوني في ذلك الوقت لأني كنت لم اتعدّ الخامس عشرة بعد، وفي هذه الفترة كان اخي سليم ايضا في المعتقل لانه تصادم مع الحاكم العسكري في شفاعمرو عندما ذهب لأخذ تصريح للعمل، وفي نفس الفترة ايضا قاد فرع الحزب الشيوعي في عرابة نضالا طبقيا هاما حيث قاد اضرابا لعمال وعاملات الزيتون من عرابة الذين كانوا يذهبون للعمل في بعض القرى المجاورة التي تملك كمية كبيرة من اشجار الزيتون مثل المغار والرامة، من اجل قطف الزيتون هناك، وكان الملاكون الكبار في هذه القرى يرفضون تحديد اجرة العمال والعاملات الا بعد الانتهاء من العمل وجني المحصول بشكل كامل وبعدها يقررون الأجر الذي يريدونه بعد ان يصبح محصولهم في داخل بيوتهم. وعلى هذا الاساس كانوا دائما يقررون أجرة ضئيلة قياسًا بالتعب والكدّ والمجهود الذي يقوم به العمال والعاملات، ومن اجل هذا الهدف جرى الاضراب، أي من اجل تحديد الاجور وساعات العمل قبل البدء به. في البداية رفض الملاكون هذا الامر ولكنهم في النهاية رضخوا للأمر الواقع وبدأت المفاوضات معهم وجرى اتفاق حول الأجر بين مندوبي العمال والعاملات والملاكين وبناء عليه عادوا للعمل وبذلك نجح الاضراب في تحقيق اهداف العاملين العادلة، وعندها شعر العمال بأهمية وحدتهم وان هذه الوحدة هي القوة التي فرضت على الملاكين مطالبهم وانه بالنضال المنظم يستطيعون تحقيق اشياء كثيرة، ورأوا ان الحزب هو الذي بادر الى العمل من اجل قيام هذا الاضراب وانجاحه ونتيجة لذلك ادى الأمر الى زيادة الالتفاف حول الحزب واخذت جذوره تترسخ اكثر واكثر بين جماهير عرابة البطوف.

(عرابة البطوف)
(يتبع)

 

فكرة كتابة ذكرياتي


في الحلقة الأولى التي نُشرت يوم الجمعة الماضي، سقطت سهوًا المقدمة التالية التي وضعها الكاتب:
ان فكرة كتابة ذكرياتي راودتني منذ زمن بعيد وفي أوائل سنة 2000 عندما طلب الرفيق احمد سعد رئيس تحرير الإتحاد من الرفاق القدامى ان يكتبوا ترسخت هذه الفكرة أكثر وعندها كتبت مقالاً بهذا الإتجاه ولكني لم أكمل العمل وتوقفت نتيجة لأنشغالي في ذلك الوقت. وبعد ان خرجت للتقاعد في العام 2004 قررت ان أبدأ بهذا العمل من جديد.
كان بشكل خاص يدور في رأسي قضية أحداث أول أيار في العام 1958 ولكن عندما بدأت أسمع بعض الأشخاص يدعون بأن التاريخ بدأ بهم قررت أن أكتب هذه الذكريات حيث أنها جميعها مرتبطة بالحزب وبنشاطي الحزبي وخاصة أنني رافقت وعملت مع الشيوعيين الأوائل الذين عبدوا الطريق من أجل جيلي والأجيال التي بعدي وهذه الطريق تبقى هي الأساس وكما قال القائد توفيق زياد أن الذين يكرجون اليوم بعجلاتهم بكل هذه السهولة إنما يفعلون ذلك نتيجةً لتعبيد هذه الطريق من قبل الشيوعيين الأوائل.
وعلى هذا الأساس اليوم وبعد خروجي للتقاعد أصبح لدي الوقت الكافي من أجل إنجاز هذه المهمة والتي أبدأ الآن بنشرها من البداية في صحيفة الإتحاد وآمل ان أستطيع إكمالها حتى النهاية.

الجمعة 7/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع