حماقة استعماريّة إسرائيلية



من الصعب أن يـُقنع عاقلاً القول: إن ما أقدم عليه الجهاز السياسي/الاحتلالي الاسرائيلي من عدوان مجزري على قطاع غزة، في الأيام الأخيرة، كان مدفوعًا بالغرائز الوحشية فقط. فهذا عدوان جرى تخطيطه وتنفيذه، ليس بدوافع الانتقام وحدها، وإنما بغية تحقيق أهداف ونتائج سياسية. الوسيلة المعتمدة هي قتل المدنيين وضربهم في منازلهم، "على أمل" تأليبهم ضد السلطة التي تحكم غزة. ليس هذا تقديرًا، بلا ما ردده متحدثو حكومة أولمرت مرارًا. وإلا فما الذي يعنيه "تقويض سلطة حماس"؟
بالمناسبة، تلك هي الترجمة الرسمية والمعتمدة وفق القانون الدولي ومختلف معاجم وأدبيات العلوم السياسية، لمفهوم الإرهاب: إنه الاعتداء على مدنيين بغية تحقيق مكاسب سياسيّة. في هذه الحالة، اسرائيل هي دولة تستحق لقب الإرهاب بجدارة.
رغم كل الوحشيّة، وربما بسببها، اكتشف ساسة اسرائيل سريعًا أن المخطط لا يعود بالنتائج المرجوّة، بل بالعكس تمامًا. فالسلطة الفلسطينية لم تجد أمامها سوى تعليق المفاوضات، وبدأت الأوضاع تشتعل في الضفة الغربية التي انطلقت فيها مسيرات ومظاهرات موحّدة. وبعد مرور فترة طويلة، عادت أعلام فتح وحماس لتتعانق معًا ضد الاحتلال. أي أن المخطط الذي سعى لتأليب الشعب على سلطة حماس، أدى الى توحيد القطاع والضفة معًا ضد العدوان الاحتلالي.
لا يعني هذا أن العدوان سيتراجع بالضرورة، أو أنه لن يصل مستقبلا ذروة أبشع تتجسّد في اجتياح دموي شامل. فالحديث متزايد عن هذا السيناريو. لكن حاليًا، يمكن القول رغم كافة الفظاعات إن حكومة أولمرت جنت خسائر. فحتى هدف امتصاص إحباط الشارع الاسرائيلي من فشل الحكومة والجيش بوقف "صواريخ" القسام، لم يتحقق. ورغم الاعتداءات المجزرية لم تتوقف "الصواريخ" بل اتسع مداها ليشمل بلدات اسرائيلية جديدة.
هناك عقلية سياسية حمقاء تحكم حكومات اسرائيل، وكأن استعمال المزيد من قوة البطش ستُرعب أو تُخضِع. مع أن الدروس أمامهم كثيرة، الفلسطينية منها واللبنانية. في كل مرة شدّدوا من وحشيتهم تبلورت قوى أكثر اصرارًا على مقاومتهم. مصادر الحماقة متعددة. منها الجُبن في مواجهة قوى داخلية فاشية، كالمستوطنين مثلا. ومنها الايمان العنصري بأن "العرب لا يفهمون سوى القوة". مع أن التاريخ يثبت ان اسرائيل هي من لا تفهم، ولا تتحدث، سوى لغة القوة.
لكن المصدر الأعمق لهذه الحماقة هو الاستعلاء الاستعماري. حكّام اسرائيل يجرون حساباتهم بمفردات الربح والخسارة شبه التجارية. يظنون أن تشديد قمع الفلسطيني سيجعل منه عميلا، مفترضين أنه سيفكر بمفاهيم الربح والخسارة الفرديَّين. إنهم لا يفهمون معنى وشعور الكرامة الوطنية والانسانية لديه، كما لدى كل الشعوب. ربما لأنه لم يتبلور في اسرائيل شعب، بل مجرد مجتمع لمجموعات مهاجرين تفوق تناقضاتها الطبقية والاجتماعية والثقافية وحدتها الوهمية خلف آلهة الحرب.
لقد خرجت المشاريع الاستعمارية على الدوام من منطلقات السعي نحو الهيمنة والنهب المادي. من يملك هذه العقلية يظن أن ضحاياه سيسلكون مثله. لكن الشعوب تملك حسابات تفوق هذه المعادلة الميكانيكية الضيقة. للشعوب ذاكرة وأحلام وكرامة وطنية، ولا توجد تهدئات ولا اتفاقيات ولا معاهدات يمكن أن تتحقق بدون احترام كرامتها ومصالحها الوطنية. لطالما ردّدنا وسنظلّ: إن سلام الشعوب بحقّ الشعوب..

الثلاثاء 4/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع