حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (2)



*بدأت "الاتحاد" يوم الجمعة الأخير بنشر هذه الذكريات النضالية التي خطّها الرفيق والقائد الشيوعي توفيق كناعنة، على حلقات، لتقدّم بذلك وتسلّط الضوء على فصول هامة من مسيرة نضالية طويلة انخرط فيها الكاتب الى جانب رفاقه وشعبه، ضمن المعركة المُنيرة على البقاء والصمود والتطوّر في وطننا الذي لا وطن لنا سواه، ومن أجل السلام العادل والعيش الكريم بمساواة تامة. وتكتسب هذه الذكريات أهمية خاصة كون نشرها يأتي في السنة التي يحيي فيها حزبنا الشيوعي الذكرى التسعين لانطلاقته في بلادنا ("الإتحاد")*


في تلك الفترة ايضا وقع حدث اخر ذو اهمية بالنسبة لي وهو ان اخويّ يوسف واسعد كانا يذهبان الى سهل البطوف من اجل قطف السمسم من حقلنا المحاذي لقرية العزير المحتلة في ذلك الوقت، وخلال عملهما هناك داهمتهما قوة عسكرية اسرائيلية وعندما رآهم اخي يوسف من بعيد يقتربون نحوهم، قال لأخي اسعد "اهرب بسرعة يوجد يهود"، وركض يوسف الذي كان في ذلك الوقت شابا في مقتبل العمر ولم يتجاوز السادسة عشرة عاما وكان مشهورا بالركض السريع، ولم يستطيعوا اللحاق به بالرغم من انهم بدأوا باطلاق النار عليه وملاحقته بسيارة الجيب العسكرية ولكنه استطاع ان يتوارى في الذرة التي كانت مزروعة في البطوف، والتي كانت غلالا كما يقولون ونبتتها عالية تواري الرجل. لذلك فلم يستطيعوا اللحاق به واستطاع الافلات من ايديهم، وخلال مروره قرب بعض السكان البدو من عرب الهيب نادوه من اجل التوقف عندهم ولكنه رفض وقال لهم "انتم خون، تريدون تسليمي لليهود". ولكنهم استطاعوا الامساك بأخي اسعد الذي كان اصغر سنا من يوسف ولم يكن قد تجاوز الرابعة عشر من عمره في ذلك الوقت، وعندما امسكوا به واخذوه معهم الى قرية العزير جاء احد السكان هناك الذي تربطه بوالدي علاقات صداقة قديمة، قال لقائد هذه القوة ان هذا الصبي صغير وهو يعمل عندي ولذلك اطلب تركه وفعلا تركوه مع هذا الشخص.
بعد هذا الحادث والذي كان من الممكن ان يقتل او يعتقل فيه اخي يوسف، منعه ابي من الذهاب للحقل خوفا عليه. بعدها طلب مني مرافقة اخي اسعد لمساعدته في قطف السمسم وكنت ذلك الوقت لم اتجاوز الحادية عشرة من عمري وطلب والدي منا ان لا نذهب في النهار بل ان نذهب في الليل فقط، وعلى اساس هذا الطلب كنا نذهب بعد الساعة العاشرة ليلا حتى نتمكن من العودة قبل طلوع الفجر حتى لا تتمكن من رؤيتنا القوات الاسرائيلية. خلال ذهابنا الى الحقل كنا نمرّ اولا من المنطقة التي ترابط فيها قوات "جيش الانقاذ" في الطرف الشمالي من السهل أي على "جبل غيث"، بينما القوات الاسرائيلية ترابط في رمانية والعزير أي على الطرف الجنوبي من سهل البطوف وكان علينا جني ثلاثة أحمال من السمسم كل ليلة والعودة كما قلت قبل طلوع الفجر. وفي تلك الفترة بدأت تصل الى قريتنا الاخبار عن رحيل عدد كبير من سكان القرى العربية خوفا من ارتكاب المذابح بحقهم لأنهم ايضا بدأوا يسمعون عن الاعمال الاجرامية التي كانت تقوم بها القوات الاسرائيلية بحق سكان القرى العربية، وعن المجازر التي ارتُكبت بحق السكان الآمنين مثل أهالي دير ياسين والرملة وغيرهما من القرى التي رحل اهلها وهربوا خوفا على ارواحهم وارواح اطفالهم. في تلك الفترة بالذات اذكر عندما رأيت اعدادا كبيرة من اهالي صفورية الذين رحلوا عن قريتهم والقسم الاكبر منهم عبر عن طريق عرابة البطوف الى لبنان. واذكر ان احدى العائلات قد مكثت عندنا في البيت لمدة اكثر من اسبوع وبعدها قيل انهم ايضا هاجروا الى لبنان.
  رأيت كل هذه المآسي وهذه الاحداث التي كانت اكبر بكثير من ان يستوعبها صبي في جيلي خاصة وان قرانا في ذلك الوقت لم يكن يصلها صحفا الا نادرا ولا توجد اجهزة راديو، ربما كان جهاز واحد في بيت احد أعيان البلد. كل هذه الاحداث أدت بي الى ان أبدأ التفكير في الحياة وبما يجري حولي مبكرا، ولكني لم استطع الخروج بنتيجة واضحة في ذلك الوقت. وفي خلال هذه الفترة أيضا اذكر انه بعد وفاة اخي محمد بأشهر قليلة رأيت والدي الذي كان يتمتع بحس وطني، يُنزل صورة كانت معلقة في صدر الديوان عندنا للحاج امين الحسيني ويمزقها غضبا، وبحب الاستطلاع الطفولي سألت والدي "لماذا تمزقها وهي صورة زعيم العرب" كما كنت افهم الامر في ذلك الوقت، فقال لي والدي والحزن والاسف يبدو عليه "يا ابني: ان هذه الزعامات قد خانت شعبنا وباعته مع الحكام العرب الذين تآمروا على شعبنا الفلسطيني المسكين الذي سلمهم القيادة ولكنهم يعملون على تسليم هذا الشعب". واذكر انه بعد هذا الحادث بعدة اشهر، عقد اجتماع كبير لكبار القرية جميعًا وفيه قرروا رفع الرايات البيضاء على اسطح المنازل من اجل الاستسلام للقوات الاسرائيلية، وخلال هذا الاجتماع طالبوا بعضهم بعضا بعدم الخيانة وعدم التعامل مع هذه القوات وان يبقوا موحدين. وبعد هذا الاجتماع استسلمت سخنين وعرابة وديرحنا بدون أي مقاومة للقوات الاسرائيلية التي دخلت هذه القرى. وكان ذلك على ما اذكر في اواخر شهر تشرين اول من سنة 1948. وبعد دخول القوات الى القرية دعا ناطور القرية الرجال الى التجمع في منطقة معينة من القرية (أي في الموقع الذي يقوم عليه اليوم صندوق المرضى العام) بأمر من قائد هذه القوات. في هذا اليوم لم يجري أي عمل غير عادي من قبل هذه القوات ولكن بعد يوم او يومين فرض منع التجول في القرية وطالبوا الاهالي بالتجمع في نفس المكان وعندها جرى اعتقال عدد من شباب القرية. وخلال تجولهم في القرية وجدوا في منطقة "المحط" احد الشباب طريح الفراش مريضا، فقالوا له "لماذا لم تتقيد بالأوامر وتذهب الى المكان المطلوب؟" وحاول افهامهم انه مريض ولكنهم، كما ادعوا، "فكروا" انه جريح حرب فأطلقوا عليه الرصاص في الفراش وأردوه قتيلا وحسب ما عرفت فيما بعد انه احد الشباب الذين لجأوا الى عرابة من قرية ميعار المجاورة ويدعى رشيد صالح ميعاري، وهنا عمليا بدأت مرحلة جديدة تعيشها قرانا في ظروف احتلال جديد وفي وضع من الخوف والرعب والقلق على المستقبل وعلى ما جرى لشعبنا من قتل وتشريد وتهجير، وفي ظل مثل هذا الحكم الجديد الذي فرض على الجماهير العربية الفلسطينية التي بقيت في وطنها مثل "الايتام على موائد اللئام"، كان قد فرض عليها نظام الحكم العسكري البغيض الذي يعني تحديد الاقامة والتنقل على كل هذه الجماهير اصحاب البلاد والارض الشرعيين والاصليين، والذي يعني ايضا ان أي انسان من العرب المقيمين داخل اسرائيل يريد التنقل من منطقة الى اخرى او الذهاب الى أي مدينة يجب عليه الذهاب الى مكتب الحاكم العسكري في شفاعمرو من اجل التزود بتصريح من اجل هذا الهدف. وسوف نتحدث فيما بعد عن الاساليب الوحشية واللاانسانية التي كان يتعامل بها هؤلاء الحكام العسكريين وأعوانهم في مدننا وقرانا.
 هناك حدث اخر أثر أيضًا على مجرى حياتي الخاصة، وهذا الحدث كان في اوائل سنة 1948، عندما كنت طالبا في الصف الثاني الابتدائي، وفي الصف كنت دائما اجلس في المقعد الاول امام طاولة المعلم وفي احد الايام بينما كنت جالسا واستمع بانتباه مع باقي الطلاب لدرس الدين الذي كان يلقيه علينا الشيخ المعلم الذي كان يعلمنا دروس الدين - وخلال هذا الدرس كنت أضع امامي على طاولتي قلمي الذي استعمله للكتابة وهو من نوع "الكوبيا" الذي كان يستعمل في ذلك الوقت وكان يعتبر من الانواع الجيدة نسبيا وكان قد أهداني اياه اخي سليم الذي كان قد عاد الى القرية بإذن حيث كان كما ذكرت سابقا يعمل عسكريا في قوة حدود شرق الاردن - وفي الوقت الذي كنت فيه كلي انتباه للدرس الذي يلقيه علينا، واذا بالشيخ يمسك القلم من امامي ويسأل لمن هذا القلم فقلت له هذا قلمي يا استاذ، عندها فاجأني بسؤال غريب حيث قال لي "كيف سرقت هذا القلم مني؟" وعندها لم استوعب ما يقول، وفي اللحظات الاولى فكرت في انه يحاول ان يداعبني، خاصة وانني كنت من المواظبين على درس الدين، ولكن بعدها أفقت من هذا، عندما أصر وقال لي "انني اكلمك بجد، كيف سرقته؟" فأجبته "لا يا استاذ، انا لست بسارق ولم اسرقه منك بل هذا القلم أهداني اياه اخي سليم" ولم ينفع ولم يشفع لي كل الحديث والتأكيد على انني لم أسرقه بل هو ملكي الشخصي وانني اخذته من اخي ويشهد على ذلك ابن عمي شريف الذي كان موجودا عندنا في الوقت الذي أعطاني اياه اخي، "ولو كنت سرقته منك هل يعقل ان أضعه امامك يا استاذ؟".. لكن كل هذا لم يقنع الشيخ الذي كان معروفا بظلمه للطلاب، وبالرغم من كل ذلك أمر بعض الطلاب ان يربطوا رجلي وأخذ يضربني بقسوة على رجلي من اجل ان اعترف انني سرقته منه، وكيف يمكن ان اعترف بشيء لم افعله، وأصريت على موقفي لان موقفي هو الصحيح، وانا اعتز وافتخر بالتربية التي رباني بها والدي حيث انني لم اسرق أي شيء من احد بالرغم من ان العديد من اجيالي في ذلك الوقت كانوا يذهبون خصيصا لسرقة بعض الاشياء مثل التين والعنب واللوز والدجاج وغيره، وفعلا نتيجة لتربية والدي كنت اخاف ان اقوم بمثل هذه الاعمال وكان دائما ينبهني انا واخوتي من سرقة أي شيء او أكل أي شيء حرام، هكذا كانت تربيته لنا.
 ان هذا الحادث أثر كثيرا على مجرى حياتي الخاصة وبدأت اتساءل واستغرب كيف يمكن ان يكون رجل دين ظالما بهذا الشكل العنيف ويسعى لفرض أمر على طفل بهذه القسوة اللاانسانية. ونتيجة لذلك اصبحت انظر لجميع رجال الدين من كل الطوائف نظرة شك وريب وانظر اليهم بشكل سلبي وأرى فيهم انهم اناس قساة لا يرحمون حتى الاطفال ولا يهمهم الا مصلحتهم الذاتية، ولكن هذا الموقف بدأ يتغير بعض الشيء خاصة بعد ان اصبح لي علاقة مع بعض رجال الدين الطيبين والوطنيين من مختلف الاديان، والذين يقفون مواقف جريئة وثورية في مصلحة قضايا شعبهم وهؤلاء أجلهم وأحترمهم. ولكن من الواضح ان هناك العديد من رجال الدين الذين يستغلون الدين بكل قسوة من اجل مصالحهم الأنانية، وهذا التغيير في المفاهيم جاء بعد ان تعلمت انه لا يمكن ان يكون تعميم في مثل هذه القضايا وغيرها، وانما يجب النظر لكل قضية ولكل شخص بشكل عيني ورؤية كل قضية بوضوح اكثر وتحليلها وبعد ذلك يجري الحكم على الاشياء. وعمليا، كل هذه الاحداث جاءت خلال مراحل طفولتي التي أثرت على نفسيتي الطفولية ووجهتها فيما بعد، وكل هذه الاحداث كانت في مجال التفكير البسيط لطفل بدأ السير في دروب الحياة الاولى.

(عرابة البطوف)
 (يتبع)

توفيق كناعنة*
الثلاثاء 4/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع