مُعادلةُ الكلاب في مهرجانِ الغرائز



وعوْدٌ على بَدْء.. الحَربُ مفتوحةٌ والأفقُ مُغلق.

في لغة الحرب تقديمٌ للغريزيّ على الثّقافي، وتغليبٌ للوحشيّ على الجماليّ. في لغة الحرب يخطُبُ الموتُ جاهراً فيما الحياةُ تصْمِتُ. فماذا أنت فاعلٌ أيّها المثقّف؟ ماذا أنت فاعلٌ أيّها الإنسان؟

*

مشهدٌ من الحرب السّابقة:


مجموعةٌ من البالغين فاغرين عيونهم أمام شاشة التلفزيون، يتراكضون بين القنوات، يعلّقون على الأخبار التي باتت كلّها عاجلة، يتحقّقون من مدى قربهم أو ابتعادهم عن الموت، يتجادلون أحياناً. يصمتون أحياناً أخرى. ويلوكون عجزهم مع الفواكه التي يحدث مضغُها ضجيجاً مُزعِجاً.
فتاةٌ صغيرة في السابعة من عمرها، جلست مع كتابٍ ملوّنٍ صغير بين أرجل البالغين تراقب سلوكهم وتبحث في أعينهم عن معنى هذا الكتاب المُعاش الذي بات رماديّاً مبهماً. فجأة سألت: مع من نحن؟!
وثارت عاصفة من النقاش بين البالغين. أما الطفلةُ فانسحبت بصمت دون أن ينتبه إليها أحد وفي عينيها خوفٌ ثقيل.
أما أنا، فلحقتُ بها الى الغرفة المجاورة. قرأنا الكتاب الملوّن معاً مُرافِقين القراءة بعزفٍ تصويريٍّ على البيانو.
*

استنتاج: الرّجاء إغلاق الحرب وفتح الأفق.

*
ليس مهمّاً أن تفهم في السياسة لكي تناقشها، خاصّةً حين نتحدّث عن السياسات المرتبطة بالشرق الأوسط. يكفي أن تمتلك أفقاً للتفكير وبوصلةً للعيش لكي تفهم أي من السياسات يصبّ في مصلحة الإنسان وأيها لا.
في الماضي كانت هناك أمريكا أميركا دوايت ايزنهاور وجون كنيدي؛ كانت هناك أميركا مشروع مارشال والنقطة الرابعة؛ أميركا التي تنادي بحريات الشعوب في وجه الاستعمار الأوروبي.
اليوم هناك أميركا بوش/ تشيني، أو أمريكا التي تشكّل الخطر الأكبر على حرية الإنسان.
ومن جهةٍ ثانية، فإنك حين تريد أن تدافع عن "وطنك" أمام القوّة الغبيّة (التي لا تملك أفقاً إنسانيّاً) المتمثّلة في سياسات أمريكا وتطلّعات إسرائيل العنصريّة/ المُغلقة، فإنّك لا تجد الوطن الذي تريد الدّفاع عنه سوى في فكرتك عنه، لا في الواقع، أو تجده، بين حين وآخر، في جثث الأطفال المتفحّمة!
بين هذا وذاك، لم يتبقّى لنا سوى إنسانيّتنا ندافع بها عنها أمام جميع القوى التي تهددها، ومن أجل حاضرنا الذي نستحق أن نعيشه بكرامة، ومن أجل المستقبل الذي نمهده لأطفالنا وأبنائنا.


لقد ورثنا من آبائنا هَزيمَةً ونكبةً.. ماذا سنورث أبناءنا؟

*
ليس ضروريّاً، أيّها المواطن، أن تفهم في السياسة! لأنّ أمريكا العظيمة التي تفهم في السياسة أكثر مما يجب قد خسرت معظم الحروب التي خاضتها في العقود الأخيرة من التاريخ. المهم، أيّها المواطن أن لا تفقد البوصلة التي توجّه نحو الإنسان فيك: الإنسان الذي لا تملي عليه الكلاب طريقة عيشه، ولا ينبح، ناسياً إنسانيّته، وسط لجّة النُّباح. العنصريّة تجرّ العنصريّة. الجهل يجرّ الجهل. التعصّب يجرّ التعصّب. ضيق الأفق يجرّ ضيق الأفق. السّطحيّة في تحليل الواقع ـ واقعنا جميعاً، هي عدوّتنا.
الإنسان فوق الدّين. الإنسان فوق القوميّات. الإنسان فوق الطوائف والملل والحصريّات.
فمع من أنت، أيّها المواطن الإنسان، في هذه الحرب التي لا تتوقّف!؟

*

جثث الأطفال تعيد قضيّة فلسطين الى جوهرها الذي ضاع في معمعة العنصريات والتحزّبات والإنقسامات، جوهرها الإنساني: قضيّة حريّة الإنسان أمام تخلّف وغباء السياسات الإسرائيليّة الأمريكيّة.
معاناة الأب والأم والأخ والجار تحيل القضيّة الفلسطينيّة الى صميمها الإنساني كقضيّة البشريّة الحرّة (البشريّة المتعالية على الدين والقوميّة والعرق والإنتماءات الضيّقة) في مواجهة الظلم العشوائي وفي مواجهة القوّة الغبيّة العمياء التي تفتقد الى الرؤية والرؤيا، تفتقد الأفق والبوصلة.

من يستعمل القوّة والعنف غير الضّعيف؟

*
علينا أن نحافظ على صوتنا وسلوكنا الإنسانيين، وألاّ ننبح في مواجهة الكلاب التي تعوي! فالحرب ليست سوى مهرجان من الغرائز، لا ينتصر فيها إلا من يصمد أمام هذا الإنزلاق الغرائزي ولا يكون جزءاً من معادلة الكلاب!
إن قتل الآلة العسكريّة الإسرائيليّة للطفل الفلسطيني جريمة بحق إنسانيّ اليهودي قبل كلّ شيء.

إنّ حرق المقدّسات المسيحيّة في غزّة جريمة بحقّ المُسلم قبل كلّ شيء.


*
الحرب ليست قادمة لأنها موجودة أصلاً، موجودة فينا وفيمن يسعون الى خندقتنا في خنادقهم الخاصّة.
حين كتب شكسبير "هاملت"، رسم لنا صورةً لبطلٍ يجدر بنا أن نستلهم منه صورتَنا: الإنسان الذي يموت في سبيل أن يبقى إنساناً في أكثر الظروف لا إنسانيّة.
*

مشهدٌ من الحرب القادمة:


مجموعةٌ من البالغين أمام شاشة التلفزيون...  ويلوكون عجزهم...
فتاةٌ صغيرة في التاسعة أو العاشرة من عمرها، صامتة. استمعت الى نشرة الأخبار، ولاذت الى البيانو تؤلّف سوناتا الوقت، وتدفنها بذرةً في تراب المستقبل.

بقلم: وسام م. جبران
الأثنين 3/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع