ثمة نفر في مجتمعنا يطعمون أنفسهم جوزًا فارغًا ، ويحمّلون أنفسهم ما لا طاقة لهم به . الكبرياء الجوفاء سَــداهم ولحمتهم ، والادعاء مبتدأهم وخبرهم . فمن مدع بالعلم وهو ما زال يحبو في فهم المقروء ، ومن متطاول في ميدان ما وهو لم يعلم الهمزباء فيه ، وقس على ذلك في الصناعة والسياسة والدين والفنون .....
ومجتمعنا يترك لهم المِقود من غير أن يتجرأ أن يقول للأعوج " أعوج " ، وكله عند العرب
" مسح لحى " ، حتى بلغ بنا الأمر ألا نجرؤ على الذهاب إلى محكمة لندين ظالمًا ظلم ، وسكتنا في وقت وجب فيه أن نتكلم ، واختلط علينا الأمر، أو الشحم بالورم - على رأي المتنبي .
وهؤلاء الذين في شحمهم ورم يتسلقون ويتسنمون مناصب ليسوا أهلاً لها ، وذلك بتفويض من السلطة العادلة جدًا جدًا – التي تدَع الرجل المناسب لاصقًا في المكان المناسب ، وهذه السلطة لا تتلاعب أبدًا بمقدراتنا ، ولا تستهزئ بمؤهلاتنا !!
ونحن إزاء ذلك غايتنا تبرر كل وسيلة ، فمن وصل بـفَهلوية – على حد تعبير صادق جلال العظم – لا يخلد إلى السكينة ، بل يشرع في التطاول على من هو أقدر منه ......
وهذا المغبون حقه أن يكرر :
" ضعيف يقاويني قصير يطاول " ،
ولكن من يسمع ؟!
وأنى توجهت تجد منتفخًا هنا ، ومتسلقًا هناك ، حتى اختلط الحابل بالنابل، والقارئ بالجــارئ .
والأدهى والأمرّ أن تجد بعض هؤلاء الفارغين ، وهم بمظهر الادعاء والأستاذية والتعالم ، مع أن الإنسان المملوء حكمة وخبرة يكون متواضعًا بطبعه ، أنيسًا إلى القلوب والعقول .
وما زلت أذكر درسًا تعلمته في قراءة السكاكيني " الجديد " يروي أن رجلاً صحب ابنه إلى حقل فيه سنابل . لاحظ الصغير أن بعض السنابل قد خفضت رأسها ، وأن البعض الآخر شامخ إلى الأعلى .
سأل الصغير أباه عن سر ذلك ، فشرح له بأن من يمتلئ رأسه بالعلم يخفض رأسه تواضعًا ، تمامًا كالسنبلة الممتلئة حبًا ، ومن هو فارغ يشمخ إلى الأعلى .
وبعد ذلك بسنين وجدت المعنى في بيت شعر :
ملأى السنابل تنحنـــي بتواضـــع
والفارغات رؤوسهن شوامـــخ
كذلك يقول البحتري في أحد ممدوحيه بهذا المعنى :
تواضع من مجد له وتكرّم
وكل عظيم لا يحب التعظــما
* * *
ومن جهة أخرى فإن الترفع عن هؤلاء المتعجرفين وعن مجالستهم ضرورة هامة للحؤول دون استمرارهم في غلوائهم ، وفي ممارساتهم السيئة ، وقد روي عن علي عليه السلام في نهج البلاغة :
" إن التكبر على ذوي التكبر خضوع عند الله " .
إن هؤلاء المنتفخين / المتسلقين عندما يصابون بالــعُجب يصبحون آفة ، وذلك لأنهم يتطاولون على من وصل وسبقهم في ميدان المعرفة ، وهذا التطاول لا يتيح لهم حسن الاستماع حتى يُقبلوا على مائدة العلم ، بل يولّدون بغضاء وعداوة من غير أدنى ضرورة ، ولا يعلم إلا الله مــآلها .
وعن هؤلاء المصابين بداء " الـعـُـجْب " يقول ابن دُريد في مقصورته :
من ناط بالعُجب عُـرا أخلاقــه
نـيطت عُرا المقــت إلى تلك العُــرا
من طال فوق منتهى بسطـــته
أعجزه نيل الدُّنا بــلْــهَ القُــصا
ويشرح الشارح هذين البيتين ، فيقول :
" إن من امتلأ عُجْــبًا بنفسه أو عمله أو ماله وما إلى ذلك ...فقد غرس في قلوب الخلق مقته ، وألّبهم عليه من حيث يشعر ولا يشعر . والعُجب من أمراض القلوب ونقص العقول ، إذ يجر إلى التهاون والاستخفاف بغيره ، فيترك واجبهم ، فيقابل بالمثل أو أنكى وأشد .
كذلك من رفع نفسه فوق قدرها ، وتمدد أطول من قامته وغاية بسطته لينال ما لا لا يناله مثله ، ويطلب ما لا يرتفع له قدره ، فقد كلف نفسه أمرًا إدّا ، وكان كجُعَل يريد أن يسابق في تسلق الأشجار قردًا ، أو كعصفورة أرادت أن تبيض بيض النعامة " .
وبعد ،
ولرب سائل يسأل : وما العمل إزاء هؤلاء ؟!
والجواب بعبارة فذة : أن نعمل ، وأن نعمل !
ملاحظات : د . فاروق مواسي
الأحد 2/3/2008