أبو اليرموك: شيخ الشباب من الناصرة



عاش الراحل احمد بكر زعبي- أبو اليرموك، ما عاش من عمره، محبا لكل ما هو نصراوي وابن بلد أصيل، كان يقلقه ما يقلق أبناء مدينته ويرضيه ما يرضيهم، لا يرضى إلا بالتواصل معهم، وبالإعلان عن محبة لا تزول بزوال الأيام وتبقى ما بقيت.
الشيخ، وهذا هو اللقب الذي تردد كلما ورد لأبي اليرموك ذكر، تردد أمامنا، نحن أبناء المدينة، طوال أيامنا، ابتداءً من تفتح عيوننا على الدنيا، وانتهاء باليوم المثير لمكامن شوق ما فتئت تعلن عن نفسها، كلما دنت منها لحظة كمون، يوم الجمعة الماضي، حينما انطلق في الناصرة صوت النعي ناقلا خبر رحيله.
ولد المرحوم لواحدة من اعرق العائلات العربية في البلاد وربما أكثرها عددا، عائلة الزعبي، عام 1932 في قرية الدحي، في مرج ابن عامر، تنسم هواءها العليل، وأتخيله في طفولته يركض في أحيائها مع أتراب له، يريد أن يقبض على غيمة هاربة، وربما لم يتمكن من القبض عليها هناك، ليس لأسرها وإنما للقيلولة في ظلها، فحالفته الظروف لتنتقل عائلته للإقامة في الناصرة، حيث تابع ركضه وراء الغيمة ذاتها، كانت تلك غيمة المحبة، عرف هذا فيما بعد، يوم ابتدأ وعيه في التبلور، وفي مزيد من النزوع التي تلك الغيمة البعيدة السابحة في فضاء حياتنا.
لا اعرف الكثير من المعلومات عن الفترة، الواقعة بين بداياته الأولى، حتى فترة الصبا والفتوة، غير أنني اعرف الكثير الكثير عن فترة الشباب، وما تلاها من فترات، وصولا إلى أيامه الأخيرة، وهذا ما سأحاول أن ارويه لكم فيما يلي.
ابتدأ اسم الشيخ في التردد أمامنا وعلى مسامعنا، نحن فتيان المدينة وأحبائها المغرمين، حتى التعالي، خاصة أنا الفتى الحالم، المولود في الناصرة لعائلة شردتها النكبة في عامها، من قريتها غير البعيدة عن قرية الدحي، قرية الشيخ، واقصد بها قرية سيرين، ومن لا يعرف اسمها الذي اقترن باسم ابرز من فسر الأحلام في تاريخنا العربي، ابن سيرين صاحب كتاب"تفسير الأحلام"، وكان اسم الشيخ أول ما ترد في أواسط الستينيات، مرتبطا بحركة الأرض القومية العربية الناصرية، وباسم رجلنا الصالح من الناصرة، منصور كردوش، طابت ذكراه وزكت.
 رايته أول ما رايته هناك في مقهى كان افتتحه منصور، في محلات تقع على الشارع المفضي الى السوق القديم في الناصرة، كان الشيخ يمتلك جاذبية خاصة، وابتسامة لا تتردد في فرض نفسها على محياه، حتى في أصعب الظروف وأشدها قسوة، وكنت أرى إليه والى رهط من أصدقائه في حركة الأرض، كيف يتحدثون عن القومية العربية والناصرية، والأمل القادم في عودة عصر الفخار للأمة العربية، فاشعر أنني بين أناس، لا يمكن إلا أن يكونوا أهلي، حتى لو لم تربطني باي منهم قرابة ونسب.
كان هذا أول عهدي بالشيخ، الشاب آنذاك، بعده بات صديقا قريبا جدا، مهما بَعـُد، ورغم أن علاقتنا توقفت على تبادل التحيات والابتسامات المتضامنة، فقد شعرت أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون إلا صديقا للجميع، فمن يحمل كل تلك الآمال، من ركض وراء غيمة وما زال، لا يمكن له إلا أن يكون كذلك.
وهذا ما تبين لي فيما بعد، فقد ربطته علاقات صداقة بأبرز رجالات الناصرة ومنطقتها أيضا، وكان العديد من هؤلاء يترددون على مطعمه، مطعم الشيخ، القائم حتى اليوم، في عمارة عواد عفيفي في الناصرة، ليبدؤوا أصباحهم بلقاء الشيخ وابتسامته المرحبة، وليتناولوا حمصه المميز، واذكر من هؤلاء العزيز الراحل قبل سنوات محمد احمد أبو حسين (أبو علي) من قرية رمانة، فقد كان هذا الصديق الرائع، كلما عصف به الشوق إلى قومه وناسه، يعرج على الناصرة، ليتناول الحمص من مطعم الصداقة لبلدياته الصديق الكريم مصطفى أسعيد( أبو نضال) أو عند الشيخ، وقد تناولت هذا الحمص برفقته هناك أكثر من مرة، وتبين لي فيما بعد أن أبناء العمومة من إخواننا اليهود مشاركينا في حب مدينتنا، يـُقبلون على حمص الشيخ بحماس لا يقل عن حماسنا، حتى أنني قرأت في مطبوعة سياحية كتبت بالعبرية وخصصت لهؤلاء الإخوان اليهود من زوار المدينة كلاما مفاده: انك إذا زرت الناصرة ولم تتناول الحمص عند الشيخ، فانك لم تزرها في الواقع.
غير أن دائرة الصداقة للحياة والآخرين لم تتوقف على ذاك المطعم الصغير في عمارة عواد عفيفي، وإنما تجاوزتها لتشمل المدينة بأسرها، ولتتسع بالتالي لكل ما هو تقدمي وإنساني في العالم الواسع المترامي الأطراف حولنا.
من هذه الزاوية بإمكاننا أن ننظر إلى الانجاز الحياتي الثري الذي طبعه الشيخ على حياة ناصرته، فكان واحدا من أبنائها الخـُلـّص الذين وضعوا مصلحتـَها كمدينة فوق كل مصلحة، وأرسلوا أنظارهم إلى المستقبل مصرين أن يجعلوه أفضل، لهذا بالضبط قدم نموذجا للتعايش بين الإخوة مختلفي الانتماءات الدينية من أبناء المدينة الواحدة، فارتبط بامرأة فاضلة من ديانة مختلفة، وعاش إلى جانبها تاركا لها الحرية في انتمائها الديني ولسان حاله يقول: كل على دينه الله يعينه، لهذا أيضا تمرد على سلطة العائلة، أيام لم يكن التمرد عليها سهلا في أواسط السبعينيات وكان يكلف الكثير، فجرى وراء غيمته التي تمثلت في تلك الفترة بجبهة الناصرة الديمقراطية، الوليدة الواعدة حينها للتو، انتمى إليها في مواجهة العائلة التي لم تكن مواجهتها آنذاك أمرا يسيرا، ووقف إلى جانب صديقه الراحل توفيق زياد، مساندا ومعاضدا، ولم يتركه إلا بعد أن سلمه هو وجمهور حاشد من أمثاله مقاليد بلدية الناصرة، ممكنين إياه من المضي قدما في حياة المدينة التي أحبوها مجتمعين.
احمد بكر زعبي، أبو اليرموك، الشيخ، شيخ الشباب من الناصرة، أو سمه ما أردت من الأسماء الموحية المعبرة، مع هذا كله، فضـّل، لأسباب لا يدريها إلا هو، أن يكون جنديا مجهولا في حياة أهله على انتماءاتهم المختلفة في  الناصرة، وأهله في العالم العربي المحيط بنا، وحتى أهله في العالم، لهذا آلمه ما المهم، فسعي للإصلاح بينهم كلما انتابتهم حمية عربية، ما زال جمرها متوهجا تحت الرماد، وأفرحه ما أفرحهم، فلم يغمض له جفن إلا بعد أن يطمئن على  ان جيرانه ناموا بخير ولسان حاله يردد ما رددته أمهاتنا وجداتنا" نام يا جاري بخير تنام أنا وإياك".
برحيل أبي اليرموك، تنطوى صفحة أخرى في كتاب تاريخ الناصرة، صفحة سيذكرها له محبوه، وسيهرعون كلما تاقت أرواحهم المشرئبة بأعناقها إلى المستقبل ليقرؤوها، وليتعلموا منها كيف تكون الإخوة بين الأهل والأحباء، بل كيف تكون الحياة.

بقلم: ناجي ظاهر
الأحد 2/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع