45 سنة على انتحارها:
يوميات سيلفيا بلاث ونُذر الشتاء



في مجموعتها الأولى «التمثال» تميز شعر بلاث بالبراعة الأسلوبية والاجتهاد في توليد الصور والاستعارات، أما قصائد «أرييل» فكُتبت بسرعة هائلة دفعة واحدة وكأن الشاعرة تستعد لسفر لا عودة منه

قبل سنوات ظهرت اليوميات شبه الكاملة للشاعرة الأميركية المنتحرة سيلفيا بلاث بعد أن منع زوجها الشاعر البريطاني الراحل تيد هيوز نشر طبعة موسعة من هذه اليوميات قائلا إنه «لا يريد لابنه وابنته أن يطلعا على هذه اليوميات» التي تعطي صورة مروعة عن حالة بلاث النفسية قبل إقدامها على الانتحار في 11 شباط (فبراير) من عام 1963.
الطبعة الوحيدة التي ظهرت من هذه اليوميات نشرت في أميركا عام 1982 بإشراف تيد هيوز نفسه الذي شارك في تحرير اليوميات واقتطع أجزاء كاشفة منها عن الوضع النفسي الذي كانت الشاعرة الأميركية تعاني منه منذ وفاة والدها وهي في الثامنة من عمرها.
ابنتها فريدا، التي كانت في الثالثة من عمرها تقريبا، وابنها نيكولاس الذي كان تجاوز سنته الأولى بشهر واحد تقريبا، سمحا لدار «نشر فيبر أند فيبر» (في لندن) بطبع المادة التي عثرا عليها من يوميات والدتهما وذلك بعد وفاة والدهما تيد هيوز في 28 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1998.
تتألف اليوميات (يوميات سيلفيا بلاث: 1950 - 1962)، التي حررتها كارين كوكيل، من 730 صفحة تكشف عن الميول الانتحارية لسيلفيا بلاث ورغبتها العارمة في الموت الذي وصفته في واحدة من قصائدها بأنه شيء يشبه الفن: «الموت فن...» كما تسرد وقائع احتجازها في مصحة للأمراض النفسية ومحاولتها الانتحار وهي في العشرين من عمرها قبل أن تتعرف إلى تيد هيوز، أثناء دراستهما معا في جامعة كمبريدج البريطانية، وتصبح زوجة له.

* "إلهي، أهذا هو كل شيء؟"
تقول بلاث في إحدى هذه اليوميات: «العيش مع تيد شبيه بالاستماع إلى حكاية سرمدية. إن عقله لامع وخياله عظيم». (22 تموز/ يوليو 1956)
لكنها بعد يوم واحد تكتب: «أشعر أنني وحيدة… الألم يعتصرني حادا مثل سكين، والدم الأسود يصرخ في داخلي». وتصف في يومية أخرى علاقتها بهيوز قائلة: «نحن الاثنان غريبان لا يكلم أحدهما الآخر. وعندما نعود من نزهتنا القصيرة أشعر بالمرض ينمو ويكبر، بنومنا وحيدين، وبالاستيقاظ ذي الطعم الحامض». كما تكتب في اليوميات: «إلهي، أهذا هو كل شيء، ترددُ صدى الضحكات والدموع المنسكبة في الدهليز؟ تبجيلُ الذات والاشمئزاز منها؟ التألق والشعور بالقرف؟».
وتوضح المقاطع السابقة من يوميات سيلفيا بلاث الحال النفسية غير المستقرة التي كانت تعاني منها، كما تكشف في الوقت نفسه عن الظلم الذي لحق بهيوز إثر وفاتها منتحرة بالغاز عام 1963، مما ألّب عليه عددا من الجمعيات النسوية والنسويات والنسويين الذين اتهموه بأنه كان سببا في انتحارها، وتظاهروا ضده في الكثير من الأمسيات الشعرية التي كان يقيمها، كما قاموا بمحو اسمه عن قبرها أكثر من مرة.
لقد أصبحت سيلفيا بلاث مثالا للمرأة – الضحية، فيما أصبح تيد هيوز مثالا للرجل - المضطهد غير الوفي وكاره النساء. ومع أن هيوز آثر طوال 35 عاما (1963 - 1998) الصمت حيال الاتهامات التي وجهتها له المؤسسة الأدبية البريطانية، وكذلك الأوساط النسوية، في ما يتعلق بوفاة بلاث، إلا أنه خرج عن صمته في العام الأخير من حياته حين نشر مجموعته الشعرية التي كرسها لذكرى سيلفيا بلاث. في إحدى قصائد «رسائل عيد الميلاد» (1998) يتذكر هيوز سيلفيا بلاث بوصفها عروسا خجولة:
«بثوبك الصوفي الزهري اللون / وقبل أن يلطخ أيُ شيء أيَ شيء / وقفتِ على المذبح / وكان شكلك مختلفا / ذاتَ قوام أنحف، جديدةً وعارية، / غصنا مزهرا مترنحا من الليلك الريّان / كنت ترتجفين وتبكين من البهجة، / كنت بعمق المحيطات / يحرسك الله».
وفي قصيدة أخرى من «رسائل عيد الميلاد» يكتب هيوز عن لقائه الأول بسيلفيا بلاث:
«كنت نحيلة ولينة الأعطاف وناعمة كسمكة / كنت عالما جديدا، عالمي الجديد / إذا هذه هي أميركا، فصرخت مندهشا: / أميركا، أميركا، ما أجملك».

* دور هيوز في انتحارها
لقد غيّرت مجموعة هيوز «رسائل عيد الميلاد» صورة العلاقة بين هيوز وبلاث، فبعد أن كان موقف الكثيرين من النقاد سلبيا تجاه طبيعة دور هيوز في واقعة انتحار سيلفيا، جاءت رسائله الشعرية المكرسة لذكراها لتعدل من المزاج الثقافي البريطاني العام في ما يتعلق بالصورة «الكلاسيكية» لكل من هيوز وبلاث. فبدلا من صورة الرجل المضطهد كاره النساء حلّت صورة الرجل المحب، الذي يحن إلى ذكرى امرأة فقدها منذ 35 عاما.
جاءت يوميات بلاث لتشدد على الطبيعة العصابية للشاعرة، وعلى تقلب حالها النفسية وسوداوية نظرتها إلى الحياة، ما أودى بها إلى الانتحار عام 1963.
ولدت سيلفيا بلاث عام 1932 في بوسطن، ماساتشوسيتس، لأب ألماني وأم نمسوية. وقد توفي والدها وهي في الثامنة من عمرها، حيث ترك موته آثارا نفسية لا تمحى دفعتها إلى محاولة الانتحار أكثر من مرة، وكادت تنجح في إحداها وهي في العشرين من عمرها.
كانت سيلفيا بلاث طفلة لامعة الذكاء لكنها غريبة الأطوار. في سن السابعة عشرة نشرت قصيدتها الأولى كما نشرت قصتها القصيرة الأولى. وفي تلك الفترة تدهورت حالها النفسية ودخلت مستشفى للأمراض النفسية لمتابعة حالها العصبية المتدهورة. وقد وصفت هذه الفترة في عملها الروائي الوحيد «جرّة الناقوس» (1963)، الذي يعد بمثابة سيرتها الذاتية، وقد نشرته باسم مستعار (فكتوريا لوكاس). وكانت الشاعرة حصلت على منحة من «كلية سميث» الأميركية التي تخرجت فيها لتحصل عام 1955 على منحة أخرى من جامعة كمبريدج البريطانية التي منحتها درجة الماجستير عام 1957. وقد التقت في جامعة كمبريدج الشاعر البريطاني الشاب تيد هيوز حيث نشأت بينهما علاقة حب جارف انتهت بزواجهما عام 1956.

* فوضى التجربة الإنسانية
لم تنشر سيلفيا بلاث سوى القليل من الشعر خلال حياتها القصيرة. فقد نشرت مجموعتها الشعرية الأولى «التمثال»، التي قوبلت بالاستحسان والإعجاب، عام 1960، حيث بدأت العمل في الفترة التي تلتها على قصائدها التي ظهرت في مجموعتها الشعرية «أرييل» (1965).
في مجموعتها الشعرية الأولى «التمثال»، اتسم أسلوب بلاث بالكد والاجتهاد في توليد الصور والاستعارات، كما تميز شعرها بالبراعة الأسلوبية. أما في «أرييل» فقد كُتبت قصائد المجموعة بسرعة هائلة دفعة واحدة وكأن بلاث ترغب في إفراغ كل ما لديها استعدادا لسفر لا عودة منه. وعكست تلك القصائد إحساس الشاعرة العميق بفوضى التجربة الإنسانية، واحتشدت برؤاها المروعة للعنف والرعب.
إضافة إلى المجموعة الشعرية السابقة، التي نشرت بعد وفاة بلاث، نشرت لها ثلاث مجموعات شعرية أخرى هي: «الأشعار غير المجموعة» (1965)، و «اجتياز الماء» (1971)، و «أشجار الشتاء» (1972)، وهي تكشف بوضوح عن الصراع العنيف الذي كان يدور داخل الشاعرة التي كان العالم بالنسبة اليها «حلما مزعجا». تتضافر مادة الأشعار واليوميات لتوضح الأسباب الفعلية لانتحارها باستنشاق الغاز، فلم تكن علاقة هيوز بامرأة أخرى (تدعى آسيا ويفيل) هي التي دفعتها إلى الانتحار، بل كانت بنيتها النفسية الانتحارية، وتهيؤها الطويل لمغادرة هذا العالم، ما جعلها تنهي حياتها وهي بعد في الثلاثين.

* ناقد أردني (عن "الحياة" اللندنية)

* * *

 

قصيدتان
سيلفيا بلاث

 

// إستعارات

أنا أحجية من تسعة مقاطع،
فيلٌ، بيتٌ مثير للضجر،
بطيخة تتمشى على ساقين من النبات المعرّش.
آه أيتها الفاكهة الحمراء، العاجية، بنسيجها الرقيق!
هذا الرغيف كبير بفقاعة الخميرة البارزة منه.
وكذلك الأوراق المالية الجديدة في هذه المحفظة السمينة.
لست سوى وسيلة، مرحلة، بقرة في القطيع.
لقد التهمت حقيبة مملوءة بالتفاحات الخضر،
وركبت القطار ولن أهبط منه.

 

// وصول صندوق النحل

أنا من أوصى بإحضار هذا الصندوق الخشب النظيف
مربع الشكل، مثل كرسي، والثقيل جدا، إلى حد ما.
يمكنني القول إنه كان نعشا لقزم
أو لطفل رضيع مربع الشكل
فلا جلبة تسمع من داخل الصندوق.
كان الصندوق مغلقا، وينذر بالخطر.
كانت عليّ أن أتعايش معه طوال الليل
ولم يكن في مقدوري الابتعاد منه.
لم تكن له نوافذ، ولم أكن قادرة على رؤية ما في داخله.
كانت هناك صفيحة معدنية مثقّبة، ولا مخرج.
نظرت من خلال الصفيحة المعدنية المثقبة.
وكان الظلام دامسا.
الشعور باندفاعة أيد إفريقية، وصوت النحل يلازمني،
أيدٍ صغيرة ومنكمشة جاهزة للتصدير،
أسود على أسود يندفع متسلقا بغضب.
كيف بإمكاني إطلاقها؟
إنها الضجة التي ترعبني أكثر من أي شيء آخر،
المقاطع اللفظية غير المفهومة.
إنها تشبه جمعا من الرعاع الرومان، الصغار
الذين يقادون واحدا واحدا، ولكن يا إلهي، معا!
قربت أذني فسمعت كلاما لاتينيا غاضبا.
لست أحد القياصرة.
لقد أوصيت ببساطة على صندوق محتشد بالمهووسين.
يمكنني إعادتهم إلى المصدر.
يمكنهم الموت، ولست بحاجة أن أطعمهم أي شي، فأنا المالك.
أتساءل إلى أي درجة هم جائعون.
أتساءل إن كان في مقدورهم نسياني
إن فتحت المغاليق ووقفت هناك في الخلف وتحولت إلى شجرة.
هناك نبات القوطيسوس بسيقانه الشقراء،
والتنانير الكرزية اللون.
قد يتجاهلونني في الحال
بملابسي القمرية وحجاب الجنازة.
لست مصدرا للعسل
فلماذا يقاومونني؟
غدا سأتصرف كرمز عطوف وأحررهم.
إن الصندوق مجرد شيء موقت.

فخري صالح
السبت 1/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع