عن القنافذ والخفافيش



مرة اخرى تخرج القنافذ من جحورها.. في طرعان، وذلك لأن القنافذ موجودة وللأسف الشديد في كل مكان.. وسلفا نلتمس العذر من القنافذ.
المقصود هنا قيام قوى الظلام الدينية في طرعان ببث الشائعات الخرقاء عن كفر احد معلمي المدرسة الافاضل وازدرائه بالدين، الامر الذي ادى الى فصله من المدرسة. الحقيقة هي قيام المعلم بتدريس احدى القصائد الموجودة اصلا في المناهج التعليمية وتطرقه لآراء وافكار الشاعر نفسه وليست افكار وآراء المعلم.
المضحك المبكي انه عندما يقوم المعلم بواجبه على اكمل وجه تكون مكافأته بفصله، وهذا يذكرني بموقف خفافيش الليل في مصر، عندما حاربوا المطرب محمد عبد الوهاب عندما غنى "جايين الدنيا ما نعرف ليه" وهي بالاساس موجهة الى العشاق وليس لأمر آخر كما اعتقدوا، الموجود في بلادنا انه بدل ان يكافأ من يتقن عمله نقوم بفصله ومطاردته وهذا هو التناقض بعينه.
لم يكن مستهجنا ولست مستغربا من افعال قوى الظلام، هذه بضاعتهم وليس لديهم ما يقدمون، في مصر يقومون باغتيال وملاحقة المثقفين والفنانين (فرج فودة، طه حسين، نجيب محفوظ...) في قطاع غزة يعتقل الادباء والكتاب والمعلمون (الغول..) في الناصرة يلاحق ويضرب الشيوعيون (رغيد حداد)، ويكسرون الحوانيت ويقومون بتخريب البلد.. المشترك لكل هذه الافعال انها تحارب الغير ولا تعترف به وتحاول ضرب كل ما هو علمي تقدمي لا يأتي ضمن السياق الديني الرجعي المؤطر ضمن رواية تاريخية معينة ورؤية دينية غيبية لقصة الخلق والخالق وكل من يحاول الخروج من هذا السياق يعد كافرا وزنديقا وشيوعيا يجب محاربته.
حاربوا طه حسين لأنه حاول وبنجاح حسب رأيي المتواضع ان يحدد ويؤصل ادبا عربيا اصيلا عندما وجد تناقضا رهيبا للرواية التاريخية الاسلامية عن الادب العربي ولذلك هاجموه وهذه المحاولات أتت قبل ذلك بمئات السنين عندما قاموا بقتل الفيلسوف العربي السُّهروردي لأنه حاول ان يفك طلاسم الجدل الابدي بين التسيير والتخيير وهناك مئات من الامثلة، وواضح ايضا في نفس السياق ابن رشد والكثير الكثير..
ونقول هنا وبشكل واضح ان القرآن الكريم لم يحسم بشكل قاطع قضية التسيير والتخيير، أي هل الانسان مسيّر ام مخيّر فتجد آيات تدل على ان الانسان مسير وآيات اخرى تدل على ان الانسان مخير، اصل هذا التناقض حسب رأيي هو الجدل الازلي الابدي منذ ارسطو وافلاطون حتى اليوم في هذه القضية والتي ايضا وفي نفس السياق وجد النبي محمد (ص) نفسه يخوض في هذه القضية، ولم يستطع حسمها لأن هذه القضية فلسفية ولكل فيلسوف رأيه وتوجهه وتبريراته وتحليلاته لهذه القضية الحساسة.

 

*عن الخلق والخالق*

اذا كانت حجة خفافيش الليل في طرعان ان المعلم شكك في وجود الخالق ولنفترض مثلا انه فعل كذلك، فأنا اتحدى أيا منهم "عالما"، "شيخا" ام صبيا اثبات وجود الخالق اثباتا علميا، يبرهن وجود خالق ما لهذا الكون. الانسانية منذ الازل مشغولة بهذا السؤال وعلماء الرياضيات والفيزياء في اعرق جامعات العالم حتى الآن لم يحسموا هذه القضية.
هناك مقولة خاطئة والتي هي عبارة عن سؤال استنكاري: من الذي خلق الكون؟ وما دمنا لا نملك اجابة قاطعة على ذلك فان السذج من خفافيش الليل يعتبرون ذلك دليلا على وجود الخالق وهذا هو خطأ منهجي، لأنه اذا ادعى احد وجود شيء ما فاثبات وجود هذا الشيء يقع على عاتق هذا الشخص وحده.
طريقة السؤال الاستنكاري أي الاثبات بالطريقة السلبية (حسب علماء الرياضيات) لا تكون ناجعة وليست صحيحة في هذا الموضع لأن الطريقة السلبية في الاثبات تكون بعد مرحلة البديهيات وليست قبلها، ومن يريد الخوض في اثبات البديهيات او السؤال عن وجود هذه البديهيات الاثبات والبرهان يكون بشكل معقد وعلمي، اشك ان يكون احد هؤلاء الاقزام قادرا على الخوض في هذه المسألة (مع احترامنا للاقزام جسمانيا)، لذلك فان طريقة السؤال الاستنكاري تعد بمثابة هروب من الخوض بهذه المسألة وهو الهروب بعينه، الخوض في مسألة البديهيات هو اختصاص اكبر علماء الكون في الرياضيات والفيزياء واين خفافيش الليل من هؤلاء.
اثبات وجود خالق هو مسألة تقع على صاحب من يدعي وجود خالق وليس العكس، أي انه ليس علي ان ابرهن مصدر وجود الكون وفي حال عجزت عن ذلك هذا ليس اثباتا على الاطلاق على وجود خالق، فقط الساذج الأمي من يعتقد ذلك، وفي نهاية هذه الجزئية سألقي بمهمة صغيرة على هؤلاء الخفافيش: اذا كان هناك خالق ما لهذا الكون وانتم تدعون انه عادل فانا اتحدى أيا منكم ان يأتيني بيوم واحد في هذا التاريخ الذي كان فيه عدل في الكون!!!

 

*علاقة العلم والايمان*

أصل المشكلة التي حدثت في طرعان هو التناقض بين العلم والايمان لأن اساس العلم هو السؤال، اذا لم يكن هناك سؤال ما لا يكون هناك علم وهذا بالضبط ما قام به معلمنا الفاضل في طرعان وهذا واجبه، ونحن نشد على يديه في الاستمرار في النهج نفسه والاسلوب نفسه، اما الايمان عند خفافيش الليل فهو عدم السؤال: "لا تناقش ولا تجادل يا اخ علي لأنك ستقع في المحظور"، أي لا تسأل ايها المؤمن لكي لا تقع في المحظور وهنا بالضبط يكمن التناقض بين العلم والدين لأنه لا محظور في العلم او بعبارة ادق على العلم ان يخوض في المحظور، وهذا صحيح في كل العلوم الاجتماعية والانسانية، اساسا اذا لم يخض العالم في المحظور اجتماعيا لن يكون هناك علم اجتماع واذا لم يخض المؤرخ في المحظور تاريخيا أي في الرواية التاريخية لسياق ما لن يكون هناك مؤرخون ولن يكون هناك علم للتاريخ.

 

*الموقف السياسي*

اذا كانت امريكا واسرائيل مسؤولة عن فصل المعلم في طرعان فمن البديهي ان نحارب ذلك ونمنعه، ولكن اذا كانت هذه القنافذ مسؤولة فهل نصمت؟؟ ونفس الموقف السياسي الذي يُستنبط هنا يكون ضد "حماس" في السياق الفلسطيني وضد "الاخوان المسلمون" في السياق العربي، وهذا هو الموقف السياسي الوحيد الصحيح الذي يُشتق من هذه المعادلة.
"اذا كان لا بد من بتر احد اعضاء الجسد من اجل الحفاظ على الجسم كله فافعل"، وفي النهاية لا ألوم القنافذ في طرعان اذا ارادت ان تخرج من جحورها وتسرق لحظة من النور، ولكني الوم الاسد لأنه نائم ولا يقوم بواجبه كما يجب، كي تعود القنافذ الى جحورها والخفافيش الى اوكارها... وكلي أمل ان يصحو من غفوته...

(كابول- جامعة حيفا)

محمد جمل
السبت 1/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع