حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (1)



*تبدأ "الاتحاد" بنشر هذه الذكريات النضالية التي خطّها الرفيق والقائد الشيوعي توفيق كناعنة، على حلقات، لتقدّم بذلك وتسلّط الضوء على فصول هامة من مسيرة نضالية طويلة انخرط فيها الكاتب الى جانب رفاقه وشعبه، ضمن المعركة المُنيرة على البقاء والصمود والتطوّر في وطننا الذي لا وطن لنا سواه، ومن أجل السلام العادل والعيش الكريم بمساواة تامة. وتكتسب هذه الذكريات أهمية خاصة كون نشرها يأتي في السنة التي يحيي فيها حزبنا الشيوعي الذكرى التسعين لانطلاقته في بلادنا ("الإتحاد")*

 

 اود ان ابدأ في كتابة بعض الذكريات او الملاحظات او كما تريدون ان تسموها. المهم ان يعذرني القراء اذا وقعت في بعض الاخطاء، لأنني لست كاتبا او صحفيا مهنيًا، ولكني انسان عادي له ذكريات ودور محدود نسبيا في العمل السياسي والاجتماعي، على المستوى المحلي والمنطقي والقطري خلال عملي المتواصل في الشبيبة الشيوعية وفي الحزب الشيوعي على مدى اكثر من نصف قرن. ومن خلال هذا الدور وهذا العمل هناك الكثير من الامور التي واجهتني في حياتي منذ الطفولة المبكرة والتي أثَرت على مجرى حياتي ووجّهتها، وكذلك وجهت مستقبل عملي وانتمائي السياسي والفكري فيما بعد. ولذلك رأيت من المناسب ان اسجل هذه الذكريات والاحداث وان استعرضها من خلال هذا التسجيل المحدود لها.
 قبل ان ابدأ بهذا اود ان اقول انني ابن عرابة البطوف التي اعتز بالانتماء اليها؛ هذه البلدة التي أنشأها الكنعانيون قبل اكثر من ثلاثة الاف وخمسمئة سنة، وكانت في فترة من الفترات المركز الاساسي لهذه المنطقة. وهي ايضا من البلدات التي لها تاريخ حافل في النضال منذ الاستعمار التركي وحتى البريطاني وفي زمن حكام اسرائيل اليوم. وكذلك، انتمي الى عائلة مستورة الحال وانا الاخ الاصغر بين اخواني والجميع يقول انني "قريد العش"، فلي خمسة اخوة واخت واحدة اسمها سمية وكانت قد تزوجت قبل ان أولد بعدة اشهر، وكذلك اخي الاكبر مصطفى تزوج أيضًا قبل ان اولد، وابنه البكر احمد يصغرني بما يقارب السنة فقط. صحيح ان اجدادي كانوا يعتبرون في قراهم ميسوري الحال وهم جدي من ناحية والدي احمد المصطفى من عرابة البطوف والذي كان له دور هام في المجتمع في ذلك الوقت، وكذلك جدي من ناحية والدتي صالح ابو ريا من سخنين والذي كان أيضًا احد وجهاء سخنين في ذلك الوقت، ولكن والدي كان وضعه على قد حاله ومستور الحال.
  وبالرغم من انني الابن الاصغر في العائلة لكنني عشت طفولة عادية ولا اتذكر منها الا القليل، خاصة ان كل اترابي في قرانا في ذلك الوقت لم يعيشوا الطفولة الحقيقية التي يجب ان يعيشها الاطفال. انني اذكر عندما اخذني والدي كي يسجلني في المدرسة، كنت في جيل ثماني سنوات ومنذ ذلك الوقت بدأت ايضا العمل في الحقل وبشكل خاص في نقل محصول القمح والشعير من سهل البطوف الى البيدر في القرية وانا حافي القدمين، وهذا ما كانوا يسمونه "رجيدة". واذكر ايضا كم كنت فرحا في ذلك الوقت عندما اخذني اخي سليم معه الى مدينة عكا وحيفا في سنة 1947 وكانت هذه المرة الاولى التي اسافر فيها الى مدينة، وكنت ايضا حافي القدمين وحاول اخي ان يقتني لي نعل ولكنه لم يستطع. وعلى ما اذكر فالمرة الاولى التي انتعلت فيها اول حذاء كانت في سنة 1950، أو في "سنة الثلجة" كما يقولون، أي في جيل ثلاثة عشر عاما، وعمليا عندها تعرفت لأول مرة على جريدة "الاتحاد" وعلى الشيوعية؛ ومنذ ذلك الوقت "أكعبت" ومنذ ان أكعبت إرتبطت مسيرة حياتي بالحزب الشيوعي منذ تأسيس فرعه وفرع الشبيبة الشيوعية في القرية ولم تنقطع هذه العلاقة حتى يومنا هذا، وعلى هذا الأساس أعتبر نفسي جزءاً بسيطاً من تاريخ هذا الحزب العريق.
المشاوير التي كنت اقوم بها لم تكن تتعدى سخنين عندما كنت اذهب مع والدي ووالدتي الى اخوالي هناك. وكذلك كانت تأتي خالتي عيشة وتأخذني معها الى سخنين وأبقى عندها عدة ايام. ولم يكن لها ابناء ولكني كنت انا وابنة خالتي الحاجة رسمية اليوم، التي توفيت والدتها بعد فترة قصيرة من ولادتها، وعلى هذا الاساس كنا الاطفال المدللين لدى خالتي. واذكر ايضا ان خالي احمد الصالح ابو ريا كان يهتم بي كثيرا عندما كنت احضر مع والدتي الى سخنين وكان يُجلسني الى جانبه وكان يحب مداعبة الاطفال وهذه من الصفات المميزة له في ذلك الوقت، وبعدها عرفت عنه انه كان احد الثوار في ثورة سنة 1936 وكان له دور هام في ذلك الوقت. هذه هي الطفولة التي اذكر اني عشتها وسآتي على تفاصيل اخرى فيما بعد.
 ومن هنا أقول ان كل انسان، مهما كان دوره ومكانته الاجتماعية والسياسية، يوجد في حياته عدد من الأحداث التي أسهمت في تقرير وتوجيه مجرى حياته وفي صقله وتطوره المستقبلي، وعلى هذا الاساس ابدأ بتسجيل بعض هذه الأحداث التي أثرت على مجرى حياتي ووجهتني حتى وصلت الى الشيوعية، وعمليا منذ ان تعرفت على "الاتحاد"، كانت هي مدرستي الأساسية بعد أن أنهيت الصف الثامن الابتدائي في سنة 1954.
 ان الحدث الأول الذي أدى بي الى البدأ في التفكير بما يجري في بلادنا من احداث هو حدث على قدر كبير من الاهمية بالنسبة لي في ذلك الوقت، عندما كنت في سن العاشرة من عمري. وهو الحدث المأساوي الذي حدث لبيتنا حيث فقدت انسانا عزيزا علي وذلك في أواخر سنة 1947، وهو اخي محمد الذي كان عسكريا في قوة حدود شرقي الاردن والذي كنت متعلقا به كثيرا وكنت انتظره دائما عند عودته الى القرية باِذن لعدة ايام يأتيها الى القرية، حيث كنت لا افارقه الا وقت الدوام في المدرسة إذ كنت في حينه لا أزال تلميذا في الصف الثاني الابتدائي. في ذلك الوقت جاءوا الى المدرسة ليبلغوني النبأ المفجع، بحضوره محمولا على نعش في سيارة عسكرية ولم افهم في ذلك الوقت لماذا قُتل اخي، ولكن، وبعد مرور الصدمة بأيام بدأت اسأل والدي واخي سليم، الذي كان ايضا عسكريا في قوة حدود شرق الاردن في ذلك الوقت، عن سبب موت اخي محمد وقد اجابوني بأن اخي قتل بالخطأ ولم يكن هو المقصود، بل كان القصد هو ضرب قوة عسكرية اسرائيلية كان من المفروض ان تمر في ذلك الوقت بالذات من هذا المكان، وفي هذه الاثناء كان اخي مسافرا في سيارة عسكرية من الجاعونة الى صفد، وفي الطريق أُطلقت عليه النار وقتل في هذا الحادث المؤلم، ومنذ ذلك التاريخ بدأت اسمع عن الصراع العربي اليهودي، وكان اخي من اوائل ضحايا هذا الصراع المستمر حتى يومنا هذا.
 بعدها بدأت اعرف بعض الشيء عن المقاومة والحرب بين العرب واليهود، حيث كان والدي قد اخذ مال المكافأة (الذي تلقاه اخي سليم بعد ان انهى خدمته العسكرية) وذهب الى دمشق ومن هناك اشترى بندقية طليانية وعاد بها الى البيت. وعندما اخذها اخي سليم ليجربها، انقسمت من اول طلقة الى قسمين واصيب اخي سليم وابن عمي محمود عبد القادر الذي كان واقفا الى جانبه، وقالوا في ذلك الوقت انها مغشوشة وبدلا من ان يكون بارود في الخرطوش كان بوتاس.. مثل هذه الاسلحة كانت تباع للعرب وفي بلاد العرب ايضا، وبمثل هذه الاسلحة  كنت ارى والدي واخي سليم يذهبان مع عدد من رجال القرية لمساعدة القرى التي كانت تهاجَم من قبل القوات الاسرائيلية، مثل لوبية والشجرة والبروة وغيرها، من اجل مساعدة الأهالي هناك في المقاومة والدفاع عن هذه القرى ومن اجل دحر القوات الاسرائيلية المعتدية التي تهاجمها من اجل الاستيلاء عليها، وهذا بالرغم من وجود ما سمي في ذلك الوقت بـ "جيش الانقاذ" الذي كان قائد قواته "الاعلى" في ذلك الوقت "الملك عبد الله الاول"، بينما كان القائد الفعلي غلوب باشا البريطاني. ولكن الحقيقة التي عرفتها فيما بعد والتي كان يعرفها الشيوعيون والوطنيون الصادقون في ذلك الوقت ان هذه القوات لم تكن كما سميت من اجل انقاذ فلسطين من اليهود، بل في الحقيقة كانت قوات من اجل تسليم فلسطين الى القوات الاسرائيلية، وهذا ما كان عمليا فيما بعد.
في تلك الفترة دخل هذا الجيش، "جيش الانقاذ"، الى قريتنا ايضا، بحجة حمايتنا من اعتداءات اليهود، وفي تلك الفترة ايضا بدأنا نسمع ناطور القرية ينادي عند كل هجوم كانت تقوم به القوات الاسرائيلية على سهل البطوف، فكان يدعو الاهالي المسلحين للذهاب الى "مسلخيت" وهي منطقة تطل على سهل البطوف، حيث كانت القوات الاسرائيلية قد احتلت قريتي العزير ورمانية الواقعتين على الطرف الجنوبي من سهل البطوف، وبدأت تأتي الى السهل وهدفها احتلال عرابة اولا ومن ثم سخنين وديرحنا لان هذه القرى الثلاث بقيت تقريبا الوحيدة في تلك المنطقة التي لم تُحتل بعد من قبل القوات الاسرائيلية، حيث بقيت حتى اواخر سنة 1948. وفي تلك الفترة كنا نحن الصغار نركض وراء النساء اللواتي كن يحملن جرار الماء على رؤوسهن والركض وراء رجال المقاومة كي يشربوا الماء ومن اجل تحميس الرجال على المقاومة الشديدة حيث كن يطلقن ايضا الزغاريد. وما زلنا نعتز ونذكر مثل هؤلاء النسوة بالخير ونتحدث عن جرأتهن واذكر منهن المرحومة "خشفة الغزال – ام عوض" عندما رأت احد الشباب يعود من المعركة في الوقت الذي كانت ما زالت مشتعلة وهو يحمل البندقية بيده، فهجمت عليه وقبضت على البندقية من يده وشدته بعنف وقالت له: "لماذا تعود يا نذل والمعركة ما زالت مستمرة وحامية، هات هذه البارودة لأذهب انا للمقاومة".. ان هذا الموقف يدل على الشجاعة وعلى الجرأة لدى نسائنا خلال هذه المعارك التي كانت في سنة 1948. وخلال هذه الاحداث سقط من ابناء عرابة ثلاثة شهداء وهم محمد العرابي وعلي الحاج واحمد الجراد. وفي هذه الفترة ايضا، أي في صيف سنة 1948، كان سهل البطوف مزروعا بالذرة البيضاء والسمسم وكانت قريتا العزير ورمانة كما ذكرت سابقا قد احتُلتا من قبل القوات الاسرائيلية حيث تقعان في الطرف الجنوبي من سهل البطوف، بينما في عرابة وسخنين، القريتين اللتين تملكان الاكثرية المطلقة من اراضي البطوف تقع في الجهة الشمالية من السهل، كان الاهالي يريدون جني محصولهم الذي زرعوه في ارضهم، ونتيجة للوضع الذي نشأ كان الفلاحون يذهبون ليلا الى سهل البطوف من اجل جني المحصول تفاديا للمواجهة مع القوات الاسرائيلية المرابطة على الطرف الجنوبي من السهل.

(عرابة البطوف)

(يتبع)

توفيق كناعنة
السبت 1/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع