الانتخابات الأمريكية وثقافة الـSHOW



جذبت الإنتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية لهذه السنة ولا تزال أنظار العالم أجمع، خصوصا وأن حدة المنافسة وتحديدًا في الحزب الدمقراطي فاقت كل التوقعات.
ان الثقافة الأمريكية المبنية على العروض أو ما يسمى بثقافة الـShow التلفزيوني، والذي مما لا شك فيه أن الأمريكان يتفوقون به على بقية العالم أجمع، هي أحد الأسباب الرئيسية في هذا الاهتمام العابر للمحيطات والقارات المختلفة. لكن هذا الإهتمام لا يقتصر على عامل الإثارة الذي تعج به الحمله الإنتخابية الأمريكية الحالية ولكن أيضا بسبب الاهمية والدور الكبير الذي يلعبه الرئيس الأمريكي على الساحة  العالمية وهو الدور الذي يفوق مجال تأثيره على الساحة الداخلية في الولايات المتحدة ذاتها.
هذا الدور وهذا اللاعب الرئيسي في العالم الحالي أحادي القطب يؤثر (سلبًا في أغلب الأحيان) على مصير الشعوب المختلفة من دون أن يكون إمكانية لهذه الشعوب بالتأثير المباشر على تحديد شخصية صاحب هذا المركز، وعملياً نجد هنا إنتهاكًا لأبسط الحقوق الدمقراطية لشعوب العالم.
لا يهدف هذا المقال إلى نقد النظام الأمريكي وتعامله مع العالم (وهو أمر مهم يحتاج الى دراسات عديدة في الموضوع) بقدر ما أنه يريد تنظيم بعض التفاصيل غير الواضحة في النظام الإنتخابي الأمريكي والذي يبلبل ليس فقط المواطن البسيط في العالم ولكن أيضًا المواطن البسيط في الولايات المتحدة نفسها. 
لقد اعتقد المحللون السياسيون في الولايات المتحدة والعالم أن شخصية المرشحين الرئيسيين عن الحزبين الرئيسيين سوف تنكشف مع انتهاء الانتخابات التمهيدية في يوم "الثلاثاء العظيم" (5/2/2008) والذي جرت خلاله إنتخابات في 24 ولاية أمريكية ومنها كاليفورنيا أكبر الولايات على الإطلاق. لكن سرعان ما فهم المحللون أن تقديرهم كان مجرد وهم خصوصا في ما يخص الحزب الدمقراطي والذي لم تؤد الإنتخابات به حتى الآن الى حسم الصورة بشكل نهائي، على عكس ما جرى في الحزب الجمهوري الذي أصبح واضحا فيه بأن السيناتور السابق جون ماكيين، على الأغلب، هو المرشح عن الحزب ليخلف بوش الابن. 
لكن هذا الاختلاف من حيث معرفة المرشح الجمهوري الفائز نظريا ونشر البلبلة في المعسكر الدمقراطي عن شخصية المرشح ناتج بالأساس عن سبب تقني وهو طريقة الانتخابات المختلفة بين الحزبين الكبيرين في انتخاب المندوبين لمؤتمر الحزب والذين ينتخبون بدورهم مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة. ففي حين يعتمد  الحزب الجمهوري على نظام الأغلبية وعلى نظام ان الفائز يحصل على جميع الأصوات والخاسر لا يحصل على أي مندوب وبما ان السيناتور السابق جون مكاين استطاع الفوز بعدد أكبر من الولايات حتى الآن فهو يتصدر السباق الرئاسي في الجانب الجمهوري بفارق مريح وشاسع عن منافسه العنيد والمدعوم من قبل الجناح المحافظ والمتشدد في الحزب مايك هاكابي، لا يعتمد الحزب الدمقراطي هذا النظام، حيث ان هناك طريقة الانتخاب هي الطريقة النسبية أي ان كل مرشح يحصل في كل ولاية على عددٍ من المندوبين للمؤتمر الفدرالي للحزب بحسب النسبة التي يحصل عليها في داخل كل ولاية وولاية. الأمر الذي يحافظ على تقارب معين في النتائج بين المتنافسين المتبقيين في هذا السباق وهما باراك أوباما والسيناتور هيلاري كلينتون.
لكن هذا ليس كل شيء بالنسبة للنظام الانتخابي داخل الحزب الدمقراطي حيث انه وبالإضافة الى الـ3249 مندوب للمؤتمر القطري للحزب والذين ينتخبون بالتصويت المباشر من قبل مؤيدي الحزب خلال عملية البرايمريز هنالك أيضاً 800 مندوب غير منتخب أو كما يصطلح على تسميتهم بـ"المندوبون العظام" وهم قيادات حزبية ورؤساء وأعضاء كونغرس سابقون وغيرهم الذين ليسوا بحاجه لانتخابهم من قبل قواعد الحزب لكي يشاركوا في المؤتمر الفدرالي للحزب من أجل اختيار الرئيس. وهم أيضا يستطيعون تغيير رأيهم حتى آخر لحظة واختيار المرشح الذي يروقهم. ومن ناحية نظريه (وربما عملية من خلال سيناريو معين) يستطيعون قلب النتائج رأسا على عقب خصوصا إذا كانت المنافسة حامية ومتقاربة جدا كما هي الحال بين أوباما وكلينتون.
من الواضح في الأسابيع الأخيرة التقدم القوي لأوباما على كلينتون في مختلف الولايات وقد سجل الأسبوع الماضي فوزه العاشر على التوالي على منافسته في 10 ولايات مختلفة كان آخرها ولاية هاواي الصغيرة. لكن هذا التقدم قد ينقلب إذا إستطاعت كلينتون تحقيق فوز كبير في الولايات المتبقية وخصوصا في ولايتي تكساس وأوهايو اللتين ستجري بهما الانتخابات يوم 4/3/2008.

*أوباما والدراما*
 
مما لا شك فيه ان المجتمع الأمريكي ما بعد الصناعي هو مجتمع "هوليوود" ومجتمع "العروض" بلا منازع.. أقول هذا ليس في معرض الاستخفاف والسلبيات بل من منطلق محاولة فهم طبيعة هذا المجتمع وما يؤثر عليه. تعيش الولايات المتحدة الأمريكية بجميع وسائل إعلامها هذه الأيام أجمل أوقاتها حيث من المعروف عشق وسائل الإعلام للدراما والمنافسات الحامية التي يجري، من خلال وسائل الإعلام، تسطيحها وإفراغها من مضمونها أكثر مما هي عليه. ومن المعروف كذلك أن وسائل الإعلام الإلكترونية وخصوصا التلفاز هي أحد أسباب تسطيح وتفريغ النقاش السياسي الأيديولجي العميق من مضمونه في أنحاء العالم فكم بالحري في داخل الولايات المتحدة نفسها لا بل داخل الحزب الواحد- الحزب الدمقراطي- على سبيل المثال؟
ووجود منافس ذو بشرة سوداء مثل السناتور باراك أوباما ووجود امرأة مثل هيلاري كلينتون يضيفان للدراما الموجودة أصلاً جرعة لا يستهان بها.
لكن السؤال الذي يهمنا هنا هو:  ما الفارق بين الإثنين؟ هل هنالك فارق حقيقي؟ هل سياسة الولايات المتحدة سوف تتغير بين عشية وضحاها إذا ما انتخبX  أو Y داخل الحزب الدمقراطي؟ أو حتى لرئاسة أكبر قوة عظمى في العالم في تشرين الثاني القادم؟ 
الجواب على ذلك هو لا، لن تتغير السياسة الأمريكية لأنها ليست متعلقة بشخص الرئيس بقدر ما هي متعلقة بمصالح اقتصادية استعمارية للطغمة الصناعية التي لها القول الفصل في النهاية. ولكن هل معنى ذلك ان لا فرق بين أوباما وكلينتون وماكيين على الإطلاق؟ أقول أنّه يكون من السذاجة وعدم الموضوعية الجواب على هذا السؤال بشكل قاطع لصالح عدم وجود فروق. 
إن السياسة الأمريكية الرسمية سياسة معادية لمصائر الشعوب الفقيرة وسياسة احتلال ونهب وقتل. لكن هذه السياسة تفاوتت حدتها باختلاف القيادة التي وقفت على سدة حكمها. وقد شهدنا خلال السنوات السبع الأخيرة من حكم بوش الابن، هذا الفارق بشكل وحشي في العراق وفي أفغانستان وفلسطين ولبنان وكوريا وفنزويلا وكوبا وغيرها وغيرها. ولو خيرنا بين شخص أو رئيس أمريكي على شاكلة بوش أو رئيس آخر أكثر تفهما وتقبلاً للمختلف وللآخر بالقطع علينا اختيار الآخر. 
قد يقول قائل ان السياسات الأمريكية لا تتغير بتغير الرئيس ولكن الظروف الاقتصادية والعالمية العامة هي التي تغير وتجمل السياسات الأمريكية ومن ثم تفرض هذه التغيرات "الموضوعية" على جلب رئيس الى الحكم يكون متوافقا أكثر مع الظروف الجديدة الشكل والثابتة المضمون الإستغلالي العدواني. لكن هذا التحليل أيضاً لا ينفي ان هناك سيء وهناك أسوأ. وان الأسباب الموضوعية والذاتية مرتبطة ببعضها البعض وتؤثر الواحدة على الأخرى. 
 لو أردنا الحكم على باراك أوباما من خلال مقومات مؤيديه لرأينا ان أوباما يحصل على تأييد أغلبية الأقلية السوداء داخل الولايات المتحدة كما أنه حصل على تأييد الشباب والذين هم الأكثر تحمسا لشعار التغيير الذي يحمله ويمثله المرشح الدمقراطي باراك أوباما كما استطاع في الفترة الأخيره ونتيجة قوة الدفع التي تأتت له بعد الهزائم المتلاحقة والتي الحقها بمنافسته "الكلينتونية" من ان يحصل على تأييد من قبل النقابات العمالية المختلفة والتي هي جسم قوي داخل الحزب الدمقراطي. هذه الشرائح من الشعب الأمريكي والتي تدعم بكل قوة في المرحلة الحالية أوباما قد تكون مؤشر للتغيير (المحدود ولكن المبارك) في السياسة الأمريكية في المرحلة القادمة فيما لو إستطاع أوباما الوصول  الى سدة  الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الشرائح تعطي للمراقب الخارجي بعض التفاؤل من ناحية لكنها أيضاً تضع إمكانية فوز أوباما موضع سؤال كبير: هل الولايات المتحدة الأمريكية جاهزة ليحكمها رئيس "أسود"؟
في المرحلة القادمة وإذا تأكد فوز أوباما وإذا استطاع إجتياز عقبتي ولايتي تكساس وأوهايو في الرابع من آذار القادم فإن على الناخبين الأمريكيين الاختيار بين ممثل الهيمنة الأمريكية الحقيقي وهو جون ماكيين، والذي هو بطل بالمقاييس الأمريكية حيث اشترك في  الحرب الفيتنامية وأسر هناك، وهو كذلك أبيض، ومحافظ، وجمهوري وداعم للحرب ومكمل لمسيرة "صراع الحضارات" البوشية، وبين المختلف الأسود الشاب المنفتح على الآخر والداعم لـ"حوار الحضارات" باراك أوباما.
لنا لقاء أو: "منعيش ومنشوف".

(عرابة)

عبد كناعنة
الجمعة 29/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع