ألعمى يا ساراماغو!



  لا بأس بأن نبدأ هذا الصباح بالحديث عن رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو(ترجمة محمد حبيب الله يعطيه العافية.. ونشر دار المدى السورية ط.1 2002). وفي هذه الرواية "اللئيمة" الحادة يستعمل الكاتب النبيل ساراماغو جميع أدواته ويحشد الكثير الكثير من طاقاته الذهنية.
     أي نعم.. هي رواية ذهنية يستغل فيها هذا الكاتب شعار اتحاد العميان الكرواتي كشارة إفتتاحية لكل فصل من فصولها.. وكأنه يذكرنا بالقوة بالموضوع-العمى- فيما او ربما قد يجوز أننا نسيناه. وكأنني به يزيد ضغطا على إبّالّة أو يرش الملح على جرحنا المفتوح...
     في هذه الرواية يصيب المدينة(أي مدينة) وباءٌ ابيض.. العمى الأبيض.. فيه لا يرى الناس سوى بحر من حليب. عماء غير طبيعي ومرض معدٍ، يظهر الإنسان على حقيقته ويجرده من ما هو إنساني. فيصيب مرضى العيون والأصحاء وطبيب العيون والناس جميعًا ما عدا زوجة الطبيب، التي تلعب دورًا إيجابيًا على طول الرواية...
هذا العمى غير عادي، فالأعمى منذ الولادة أو نتيجة الجدري أو الحصبة لا يرى غير السواد. وبالكاد يتذكر أحد الألوان. وهذا الأعمى ينوف على العميان الجدد  على الأقل من حيث الخبرة والتجربة والحواس المدرّبة كحاسة الشم واللمس والسمع.. هذا عدا عن بعض العميان المثقفين الذين يتقنون لغة التخزيق- بريل.
لي صديق أعمى البصر ثاقب البصيرة، قال: يا أبا خالد  إنني أرى بقلبي، قلت: كيف؟ قال: أُحسُّ بالجدار قبل أن ألمسه، أراك بقلبي قبل أن تقول لي: صباح الخير يا أبا صابر.. أُدرك وقع أقدامك وطريقة مشيك حتى لو غيّرت الكندرة... أشم رائحتك... فلكل منّا رائحة مختلفة مميّزة.. الأعمى يا أستاذ لا يرى شيئًا.. الحليب أسود والقهوة سوداء والزفت المغلي أسود.. لكن لا تسألني ما هو اللون الأسود. أنا لا أعرف.. لا أذكر الألوان، فقد كنت صغيرًا عندما حصّبت وعلا البياض عيني كما يقولون. والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
     قال طبيب العيون: الكُمنة أن يرى المريض كل شيء مظلمًا.. وهنا كل كمنة بيضاء مناقضة للعمى وللمعنى الحرفي للمصطلح. مستحيلة من الناحية العصبية والدماغية. وهنا لا يصح المثل "في بلاد العوران إعور عينك". الكل مصاب بالعمى الحليبي. في البداية عزلوا بالمحجر، لا يقترب الحراس منهم فيخافون العدوى.. تلك العدوى التي تصلهم بالتالي.. لا يوجد أسماء في الرواية. كل إنسان يُعرف بصفاته. الكلاب لا تعرف أسماء بعضها البعض... يصبح سكان المدينة سلالة أخرى من الكلاب، يعرف أحدهم الآخر من نباحه أو كلامه، "الأعمى إنسان مقدّس فلا تسرق الأعمى"، لكن ما العمل إذا كان كل الناس عميانا؟! قذر لا يشعرون بقذارتهم، قتلة ويبررون القتل، بعضهم يستغل البعض الآخر.. شريعة غاب، إنحطاط كامل، كل مفعول جائز... يقبعون قباع الضباع والخنازير، يتناكحون على الملأ.. فلا غيرة ولا احتشام (ولا أحد يرى) يخرجون فضلاتهم على الملأ فلا حياء.. تعربد الغرائز من كل صنف ونوع فلا ضابط ولا قانون غير قانون البقاء . ذلك البقاء المتوحش الذي يعيد الإنسان إلى طبيعته الحيوانية ليصبح حب الأم والبنت والإبن خرافة.
     شكرا ساراماغو لأنك عرّيتنا..وأظهرت لنا إنسانيتنا في أبشع صورها.. لأنك قلت لنا: بدون التنظيم والأمن الغذائي وبدون النظام والمأوى لا أمن ولا أمان ولا إنسان أو إنسانية. "لأن الحضارة ترتد إلى مصادرها البدائية اللزجة". ولا بأس عليك ولا بأس علينا لأن كثيرا من الآباء يقسون على أولادهم بدافع المحبة والإصلاح.
وليد الفاهوم
الأربعاء 27/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع