(المخرّبون)



وجد عبد الغفار نفسه يقف في مدخل مدينة (اشكلون) (عسقلان) وهو لا يعرف السبب الحقيقي الذي حمله وشده على السفر الى هناك. وتساءل وهو في مدخل المدينة، وهل يا ترى ما زال قرار محكمة الصلح في (اشكلون) قبل ثمانية واربعين عاما ساري المفعول؟ الذي نص على منعي من الدخول الى (اشكلون) دون ان يحدد مدة المنع فقال في نفسه افترض انه ساري المفعول. فليكن مصيره كمصير تلك القرارات التي صدرت من هيئات ومؤسسات دولية اكل الدهر عليها وشرب.
اقترب عبد الغفار من البوابة فاقترب منه الحارس، فتحت ابواب السيارة للتفتيش، نظر الحارس في السيارة نظرات عابرة، فكل سيارة تدخل مدينة، اشار بيده ايذانا بالدخول وهو يحذر من خطر سقوط صواريخ (المخربين) ويعطي التعليمات للداخلين، (في حال سماع صفارات الانذار عليك ان تترجل وتدخل الى اقرب ملجأ في المنطقة التي تتواجد فيها) بعد سماعه هذه التوجيهات والنصائح تساءل عبد الغفار مع نفسه اليس من السخافة والبلاهة المجيء الى هنا ! ثم تساءل لماذا اتى حبا في الاستطلاع عما يجري في اشكلون ام رغبة في التضامن مع العائلة المنكوبة التي اصيبت في الامس والتي راح ضحيتها طفلة بريئة واصيبت امرأة عجوز بجراح بليغة ام رغبة لاستعادة الذكريات بالماضي وللوقوف على الاطلال أتحتاج كل هذه الامور تجشم عناء السفر الطويل وهذه المجازفة، وعندما لم يحسم الامر في نفسه قال سأضرب عدة عصافير بحجر واحد ثم عاد وكرر التساؤل على نفسه ما الغضاضة بذلك لو جئت بدافع التضامن مع العائلة المنكوبة. فقد استذكر مقولة تقول (الحرب مأيمة وميتمة) ما دامت الحرب دائرة ومشتعلة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. ولم ينطفئ اوارها، فلا بد من سقوط ضحايا من الطرفين من هنا قتلى وجرحى وارامل وايتام ومن هناك كذلك وتظل الضحية انسانا بريئا بغض النظر عن الجنس والعرق والملة، اذا كانت الضحية من المواطنين الابرياء، وبغض النظر عن حجم الضحايا والدمار في هذا الطرف او ذاك. فقد سبق وتضامنت المرة تلو المرة مع العائلات المنكوبة والثكلى في غزة، رام الله، وجنين، ونابلس وغيرها وغيرها. ومن مبادئه شجب كل قتل للابرياء العزل حتى ولو كانوا من الطرف المعتدي والمغتصِب، فالموقف الانساني لا يعرف التجزؤّ عند هذا او ذاك، توقف عبد الغفار عند هذه النقطة، واختزالا للصراع مع النفس، اكتفى بهذا القدر من التعليل والتبرير لمجيئه، وترك القول الفصل للايام القادمة التي ستحكم على مجيئه اكان مصيبا حقا او خطأ وهو بطبيعته مسالم يحب الناس وكل الشعوب ومبدؤه (لا فرق بين عربي على اعجمي الا بالتقوى) (كلكم سواسية كاسنان المشط) .
تقدم عبد الغفار بسيارته فوجد معالم اشكلون قد تغيرت كليا فكانت مستوطنة صغيرة، منبوذة، مهملة، معزولة، وعدد سكانها بضعة آلاف، بطالة متفشية، موارد اقتصادية معدومة، ظلت تعاني الى حين تلك السنة التي اتخذ فيها رئيس الحكومة آنذاك، (دافيد بن غوريون) قرارا بتطوير النقب وذلك في مطلع الستينيات استذكر عبد الغفار تلك الحقبة من الزمن عندما انتحل اسما مستعارا هو وزميلاه خالد وسعيد يوسي، وسعادية وجابوا البلاد طولا وعرضا، لمدة خمس سنوات بحثا عن لقمة العيش عندما تعذر الحصول على تصاريح من الحاكم العسكري، وعندما ضاقت سبل العيش في الجليل، فغامروا وجازفوا وقطعوها من الجليل الى ايلات ومن ديمونا الى بئر السبع واشكلون وشدروت، واسدود، وعومر، وعزاتا، ومتسبيه رمون، وعراد وغيرها من المستوطنات في النقب.
استذكر ذلك اليوم الذي جيء به مع المقاول من تل ابيب (شلومو) ليشق الشوارع ويبني الارصفة والجدران الواقية تمهيدا لتطوير المستوطنة اشكلون وتركه في محل العمل على الشاطئ، وانصرف لتدبر الامر وحده، وكانت المنطقة قفرا خالية من السابلة والحركة ومن الناس. تفاجأ عبد الغفار لقدوم سيارة شرطة في ذلك الصباح، وخفق قلبه خشية وريبة، تنفس الصعداء عندما هبطت من السيارة امرأة شابة في مقتبل العمر مع رضيعها في عربة للاطفال. تقدم الضابط من عبد الغفار مصافحا مصافحة تعارف اسمي (يحزقيل) فرد عبد الغفار (عوفاديا) من يافو. استذكر عبد الغفار وصية الضابط يحزقيل حذار من المخربين من الداخل والخارج وقبل ايام ابدنا خمسة مخربين في هذه المنطقة، وكان يعني عن مقتل الشباب العرب الخمسة التي هزت قضيتهم سنة ال 1961هزت البلاد كلها ثم اوصى بتقديم المساعدة لزوجته (اليزا) اذا اقتضى الامر، واستطرد الضابط يقول انها امراة جريئة، شجاعة، مسلحة، لا تخشى المخربين هوايتها السباحة، وانصرف. كان الوصول الى الشاطئ الذي لا يبعد امتارا معدودات عن مكان العمل صعبا، بسبب الحفريات التي نشأت من عمل الجرافات، فتقدم عبد الغفار وساعدها في الوصول الى الشاطئ، شكرته عرفت نفسها(اليزا) عرفها عبد الغفار (عوفاديا) شكرته وعاد يزاول عمله وظلت كلمات الضابط ترن في اذنيه، مخربون من الداخل ومن الخارج، ابدنا خمسة مخربين منهم، شجاعة مسلحة. سيل من الهواجس اعترته واخذت تدور في ذهنه وعبد الغفار ينتحل اسم (عوفاديا) الوضع هنا حساس ويختلف عن اماكن التي تسلل اليها مع صديقيه طيلة ال خمس سنوات حيث كانت تعج بالناس وكانت اكثر امانا. تساءل المرة تلو المرة لو اكتشف امره ماذا عسى ان يفعلوا؟ وهل سيكون مصيره كمصير الخمس شباب، ساورته المخاوف وارتاب وقلق. فضل عبد الغفار الابتعاد عن مكان تواجد (اليزا) وقال: (ابعد عن الشر وغني له) ظل الوضع على حاله في قطيعة عدة ايام وهما وحيدان على الشاطئ ويمارس عمله في البناء وهي تارة في السباحة وتارة تتقلى في الشمس. حتى كسرت اليزا تلك القطيعة عندما بادرت ودعته لاحتساء فنجان قهوة، حاول التملص، الحت عليه الدعوة فلبى الطلب، كانت قد افترشت الرمل واستلقت بجسدها كمرجانه قذفتها امواج البحر على الشاطئ، تتقلب على جنبيها، لتدع الشمس تلفح جسدها البض الناصع لتلدغه الاشعة وتلفحه، نهضت وحسنت جلستها وكانت السحر بذاته وآية من آيات الجمال ترتدي (مايوه) من قطعتين كشف كل المغريات، اغرقته بالاستفسارات وغاصت بالتساؤلات وعبد الغفار شاب وسيم ليس بمستوى جمالها وسحرها كانت اجاباته قصيرة بحذر ويقظة خشية زلة لسان تكشف امره او غلطة تكشف سره تتالت دعوتها لعبد الغفار فاصبحت عادة كل يوم توطدت العلاقة استأنست به من وحدتها وكاشفته تذمرها وتبرمها.

 

* * *

 

فانتزعت من داخله كل شذرات الخوف ولكنها ظلت على طبيعتها تبدي تخوفها من (المخربين) العرب غير الانسانيين القتلة والمجرمين فكانت كلماتها تنزل عليه نزول السكين في العظم تحاشى النقاش معها واكثر من مجاملتها وحافظ على اتزانه وسلك سلوك ابن الاربعين وليس سلوك ابن العشرين. وكان عبد الغفار يتساءل عن اسباب ذلك السلوك فقد يكون الخوف وقد يكون انكشاف امره وقد يكون نتاج تراكمات تربوية من المجتمع والبيت، تربية المنع الدؤوب، اياك من الفواحش اياك من الزنى، الزاني والزانية في النار، بشرالقاتل بالقتل والزاني بالفقر اياك والمنكر واياك واياك بلا حدود استذكر عبد الغفار وهو يجلس على الشاطئ ينظر الى البحر بجماله وامواجه الى لونه الذي لم يتغير، استذكر ذلك اليوم عندما كان العرق يتصبب من رأسه الى اخمص قدميه من حر الشمس في يوم من ايام الصيف الحار عندما تقدمت (اليزا) حيث كان يعمل تطفلت وامسكت بيده وجرته ليشاركها السباحة تردد ورفض وارتاب خشية عواقبها، وقد تكون وخيمة، انصاع لاصرارها ارتدى ملابس السباحة وهو يقول (والذي يقع من السماء تتلقاه الارض) ويا بحر الله خذ عبد الله نزلا البحر تسابقا في السباحة وهو يجيدها جيدا توقفا عن السباحة وغاصت تحت العباب واكثرت الغوص فوجدت نفسها بين ذراعي عبد الغفار، غاص بدوره ليظهر مهارته فوجد نفسه في حضن (اليزا) طوقت يديها حول جسده وجرى الاحتكاك، جاشت المشاعر، فتأججت الاحاسيس، التهمت العواطف، وغلى الدم في العروق، وفي اللحظة الحساسة تغلب العقل على الغريزة والعاطفة، افلت من طوقها وخرج وتركها تسبح باحاسيسها الجياشة وما لم يطفئه ماء البحر اطفأه الخوف والسذاجة وعاد يزاول عمله بعيدا عن الاحاسيس والمشاعر. خرجت اليزا من البحر متثاقلة باستياء وانتكاس تستغرب وتستهجن سلوك عبد الغفار جلست بالقرب منه على حجر شك على الرصيف اشعلت سيجارة وعادت وطلبت منه الجلوس بجوارها لم تعاتبه فأخذت يدها تداعب انامله (سولت لها نفسها، فراودته عن نفسه فاحصن فرجه) فغامرته بكلمات الحب كانت سخيه بعواطفها وحنانها شعر عبد الغفار انه في ورطة وفي مازق وهو في صراعه مع النفس والاحاسيس والمشاعر الجياشة، وما كان يتحاشاه ويتلافاه فغرق في مستنقعه سحت الدموع من عينيه كطفل في روضة برعاية حاضنته، وليس كابن عشرين في بحر من الحب وفي يده زهرة عادت على التساؤلات والدموع تسح من عينيه ماذا لو عرفت انني عربي ؟ ثم وهل اخدعها لاشفي الغليلين، انتفض في داخله وقال لا، احبتني يهوديا وليس عربيا وهي التي صرحت في اكثر من مناسبة انها تمقت العرب. لن استغل شعورها واخدعها، واصلت الحاحها وتعهدت له واقسمت ان يأمنها ويصدقها تنهد عبد الغفار اطرق وعيناه في الارض صمت ولم ينبس ببنت شفة ثم تشجع وبق الحصوة التي اسكتته وكاشفها بحقيقته انه عربي، تراخت يدها وانفكت عن انامله، واطرقت قليلا وعادت تتساءل احقا انك عربي فاجاب نعم انا عربي، جئت لابحث عن لقمة الخبز وانني آسف على ما حدث فتساءلت باستغراب اهكذا هم العرب قالوا لنا انهم خداعون، وحوش، قتله ،مجرمون، مخربون، غدارون، خونة، كذبوا علينا فانت عكس ما قالوا نموذج لانسان طيب خلوق احببتك ولن يتغير حبي لك حتى وأنت عربي وعاهدته بان تكظم، وتكتم ما حدث وان لا تبوح بسره انه عربي لزوجها انكفت اليزا على عبد الغفار وطبعت على جبينه وغمرت شفتيه بقبلة لا تمحوها السنون عادت اليزا الى الشاطئ وفي ثناياها وليد حب جديد قد يظل عذريا لا يتسع البحر اليه ولا تدري ان قبلتها قد تكون الاولى والاخيرة.
وصل زوجها الى المكان على غير ميعاد استبق وقت ارجاعه جاء يبحث عن عرب يعملون في المكان هذا ما كشفه لعبد الغفار انكر عبد الغفار وجود عرب ولكنه ادرك انه لن يفلت. ساورته المخاوف ثم عاد للمرة الثانية و الثالثة حتى انه ساورته الشكوك ان عبد الغفار هو العربي فبلطف واعتذار طلب منه ابراز هويته. تركه عبد الغفار ارتدى ملابسه واحضر هويته وصعد الى السيارة ذهل الضابط ولم ينبس ببنت شفة اندفع الشرطي المرافق فكبل يدي عبد الغفار بالاغلال شاهدتهم اليزا فصرخت من بعيد وطلبت التريث والانتظار. ارتدت ملابسها وطلبت من زوجها احضار الطفل عن الشاطئ وصعدت السيارة وفكت قيود عبد الغفار. عاد زوجها تحركت السيارة وصلت الى المخفر وقد اجرت الشرطة لعبد الغفار محكمة سريعة. قدمت النيابة ضده تهمة الدخول الى منطقة حساسة وامنية بلا تصريح الامر الذي يشكل خطرا على الامن والجمهور وطلبت النيابة من الحاكم انزال اشد العقوبات، استاذنت اليزا من الحاكم ان يسمح لها بالادلاء بشهادة فاذن لها دحضت بها ادعاء النيابة تشكيل خطر على الجمهور فاصدر الحاكم قراره بدفع غرامة عشر ليرات وحظر عليه الدخول الى اشكلون بتاتا بدون تحديد المدة الزمنية.
استيقظ عبد الغفار من ذكرياته وظل يتقصى الاخبار يبحث عن البيت الذي اصيب بالصاروخ اهتدى اليه قدم تعازيه لوفاة الطفلة وعبر عن تضامنه مع العائلة وانتقل الى مستشفى فالمعطيات والدلائل والملامح اشارت ان المصابة اليزا اياها ذكرها عبد الغفار بعوفاديا العربي استذكرت عانقها وطال العناق وكانت القبلة الثانية طبعها عبد الغفار على وجنتيها لا تقل في حرارتها لتلك الاولى في مكان وزمان يختلفان. عندها ادرك عبد الغفار انه كان صادق الحس والاحساس.

عرابة

عمر سعدي *
الأربعاء 27/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع