شمس وقمر- رواية، هي آخر ما أبدعه قلم الأديب المرحوم عيسى لوباني



عرفت المرحوم عيسى لوباني منذ ان كان طالبا في دار المعلمين العرب في يافا فقد كان زميلاً لأخي البكر الياس دلة. هنا في هذه الدار تفتحت عبقريته كأديب وكاتب يساري النزعة حيث أخذ يكتب في صحف الحزب الشيوعي الإتحاد والجديد والغد. وهكذا سطع نجمه في عالم الأدب كأديبٍ واعدٍ منذ سنوات الخمسين وحتى وفاته قبل حوالي تسع سنوات.
عيسى لوباني كان المفكر الثائر والكاتب سلس العبارة والروائي الناجح إلى جانب العديد من مقالاته التي كان ينشرها في صحفنا المحلية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي كما ذكرنا.
"شمس وقمر" هو عنوان هذه الرواية. قرأتها ثلاث مرات وفي كل مَرَّةٍ كانت تنفتح أمام عينيّ آفاقٌ جديدة من حيث نوعية السبك اللغوي وفنية الكلمة. كان الأستاذ عيسى (هكذا كان يعرفه زملاؤه) إنساناً أولا وقبل كل شيء، مرهف الحس، ضليعاً في قواعد اللغة العربية شاعراً مجيداً، مطالعاً من الدرجة الأولى، لم يفارق غليونهُ في أيةِ مناسبة حيث كانت تربطهُ بهذا الغليون أواحد صداقة متينة ذلك انه كان يعتقد ان التدخين هو إحدى وسائل استحضار الوحي في الكتابة ودافعاً من دوافع الإبداع لانه يأخذ صاحبه إلى شطحات قلميّة فتطيعُهُ الكلمات ويبدع كأحسن ما يكون الإبداع.
"شمس وقمر" هي إحدى الروايات التي أصدرتها الأخت ميادة ابنة الكاتب عيسى لوباني بعد وفاته وذلك بعدما عثرت على مسودتها في أحد أدراج مكتبته العامرة، فلم تُطقْ ان تبقى طيَّ التخزين، لذلك فقد دفعت بها إلى المطبعة – مطبعة الحكيم للطباعة والنشر م.ض. في الناصرة، تملأها ثقةٌ كبيرةٌ بأن ما كان يكتبه الوالد عيسى لا بُدَّ أن يكون مهماً وأدباً رفيعاً نثراً وشعراً لا من باب "كل فتاة بأبيها معجبة" بل من باب الثقة المتناهية بأن الولد كان أديباً مبدعاً إبداعاً حقيقياً وذا باعٍ طويلة في الكتابة والإبداع.
ازدواجية الحب والرمزية الشفَّافة: يلجأ الكاتب منذ السطر الأول إلى أسلوب السّرد بلسان المتكلم وكأنه وكذلك إنما يروي سيرة حياته على الورق. إلا ان القارئ الحصيف لا بد ان يكتشف ان وراء لغة المتكلم قد تكمن سيرة أي شاب فلسطيني عربي يقع في حب فتاتين جميلتين هما شمس وقمر وهو لا يريد ان يستغني عن أيٍّ منهما. ومع أنه رضيَ باجراءِ القرعةِ مع ابن عمه فتزوج هو من قمر بينما حصل ابن عمه على شمس الجميلة. هذه كانت نتيجة القرعة. ويلمحّ إلى ان شمساً كان تحبه وتتعلق به إلا انها أرغمت على الزواج من ابن عمه. والرمز هنا لمن يتمعّن في النص واضح جداً حيث ترمز شمس إلى الوطن الضائع السليب، إلى فلسطين ما قبل قيام دولة إسرائيل أما قمر فترمز إلى ما تبقى من ارض فلسطين في ايدي عرب فلسطين. وان ابن العم هنا هو الحركة الصهيونية التي احتلت الأرض ونالت ما نالته من فلسطين.
ومن غريب المصادفات التي ابتدعها خيال الكاتب انه عندما هرب من مشكلة هذا الحب المزدوج إلى المانيا مبتعدا عن قمر الزوجة وشمس المحبوبة، هناك التقى بفتاتين أختين هما روجينا وبولين من أصل تركي، فكانت له مغامرات جنسية. هناك تعرف على صديق لعب هو الآخر قصة حبٍّ مزدوجة وبلغت ذروة هذا الحب في لقاء الصديق مع الأختين حيث مارس الجنس على سرير واحد كما لو كان موزّع القلب بينهما. وإذا كان صاحبنا يعيش قصة ازدواجية التي مع شمس وقمر فالصديق يمارس الجنس مع روجينا وبولين. والسؤال الذي يطرح نفسه هل كان يعني بالأختين المانيا المقسومة إلى المانيا الغربية وعاصمتها بون والمانيا الديمقراطية الشرقية وعاصمتها برلين وذلك لأن هناك شبهاً في تقسيم فلسطين وتقسيم المانيا بعد الحرب العالمية الثانية وفي الفترة القصيرة بين سنة 1945 و سنة 1948!
لذلك وجدناه يلعن القرعة والصدفة التي حرمته من حبيبة القلب شمس فجاءت رحلته إلى المانيا في محاولة للهرب من واقعٍ مريرٍ لم يجد سبيلاً للخروج منه (أي من هذا الواقع)، فواجه ازدواجية مماثلة في حب روجينا وبولين. وإذا كانت مشكلة المانيا قد حُلَّت في هدم جدار برلين فهل سيجد حلاً لمشكلة فلسطين مشابها؟! يبقى هذا الحل في باب الأمنية التي يرجو الكاتب من كل قلبه تحقيقها!
نقد الحياة الاجتماعية للمجتمع العربي في إٍسرائيل: يدخل البطل - الراوي - والذي لم يذكر اسمه على طول الرواية في صراعٍ مع الذات عندما يكتشف ان الفتاة الألمانية حتى ولو كانت من أصل تركي لا ترى في العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج مأخذاً - فبينما نقدّس الجنس ولا نسمح به إلا في إطار الزواج (الذي نسميه على لسان جبران خليل جبران – الرباط المقدس) فإن كلمة الخيانة الزوجية لا مكان لها في المجتمع الألماني وهي غير واردة في قاموس العلاقات الاجتماعية هناك. وعندما تكتشف روجينا ان بطلنا ليس المانيا (دويتشه) بل عربياً (أرابيش) فإن هذه المعرفة لا تغيّر من موقفها في التودّد اليه وإغوائه حتى قضاء ساعات معه في سرير واحد تمارس الجنس معه وكأن ذلك امرٌ مشروع، لأن هذه هي الفكرة السائدة لدى معظم الفتيات الألمانيات ومثلهن معظم فتيات دول الغرب المنفتح.
وحتى عندما يتعرف على فتاة جامعية أنهت دراستها في كلية الطب وأصبحت طبيبة ناجحة، فإنها اذا ما أحبت أحد الشبان سارعت إلى إجراء علاقة جنسية معه، ودعته إلى مجامعتها على سرير الفحص في عيادتها كطبيبة ثم تعود إلى ممارسة عملها كأن شيئاً لم يكن. فالممارسة الجنسية لدى الفتاة الغربية – وهنا الألمانية - هي متعة عابرة لا تختلف عن تناول وجبة خفيفة او كأس من الخمر او أي ساندويتش! أجل هكذا!
إن إجراء المقارنة بين شمس وقمر من جهة وبين روجينا وبولين من جهة أخرى هي مقارنة بين مجتمعين:- مجتمع الماني غربي منفتح ومجتمع شرقي عربي يعاني من الكبت الفظيع حيث يحدّد حرية الفتيات والرجال معا وذلك منعاً لتفشي الفساد وانتشار الدعارة والتسيّب.
ينعكس هذا الكبت على مجمل العلاقات على الرجل والمرأة. ولما كان مجتمعنا العربي مجتمعاً ذكوريا فإن حَظ البنت يقصر في الميراث والذي ضمنه القانون أي يحق للمرأة ان تحصل على نصيب من أرث أبويها، ومع ذلك فإن هذا الأمر لا يطبق في أكثر الحالات.
والحقيقة ان الشاب العربي الذي يسافر إلى الخارج ويسمح لنفسه مضاجعة أكبر عدد من الفتيات هو هو لا يسمح لأخته ان تتصرف كذلك وإذا ما حصل فإن ذلك الشاب يكون مستعداً لِقتلِ أخته بحجة الحفاظ على شرف العائلة والحوادث في هذا الباب كثيرة كما يعرف الجميع!
يقول الراوي صفحة 25:
"رفعت رأسي، ونظرت حولي، كان كل شيءٍ واضحا... إلى جانبي يتمدّدُ جَسَدَا "روجينا" و "بولين" وكلتاهما عاريتان... عُريَ طفلٍ خرج للتوِّ من بطن أمّهِ... فأغمضتُ عينيّ... وهمست إلى نفسي: "اذا لم يكنْ حُلما فماذا حدث؟"
ويضيف: "فأومأت برأسي... وعيناي، تجوبان جسدها تارة، وتارةً جَسَد أختها بولين وكانت ما تزال غارقة في نومها، الذي بدأ حينذاك هنيئا... كانت تبتسُم... في حلمها اللذيذ...".

 

اللغة الفنيّة لدى عيسى لوباني:


نحن نعرف وقد قلنا ذلك في البداية ان كاتبنا الأستاذ عيسى لوباني إنسان متمرسٌ في أصول اللغة العربية، عروضها وقواعدها وفنيّة كتابتها. إلى جانب هذه اللغة الفنّية هناك العشرات من التعّابير البليغة والتي يتميز بها أسلوبُهُ.
فهو يستطيع بلوغ أية غاية في إبداعهِ بلغة بسيطة وسلسة لا أخطاء فيها إلاّ من القليل النادر الذي قد يقع سهواً أثناء الطباعة.
وبعد، لما كان كاتبنا إنساناً يسارياً، له رأيه في قضايا الساعة السياسية الملتهبة – فإنه لا يتردد في إدخال مواقفه وآرائه السياسية في تحليل الأحداث شأنه في ذلك شأن معظم مثقفينا من عرب الداخل.
اذكر في هذا المجال ان أحدهم قال يصف شبابنا القول التالي:
"اذا وجدت بعد منتصف الليل نافذة مضاءة في إحدى البنايات وطرقت الباب على من فيها فسوف تجد حتماً أحدّ خيارين: ستجد حتما إما مجموعة من المهندسين اليابانيين يبحثون في اختراع جديد أو مجموعة من الشبان الفلسطينيين يتحدثون في السياسة".
ومع ذلك فالمؤلف هنا يتّخذ موقف الدفاع عن الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين بلبنان بنظرة عطف لانه مقتنع بصحة مواقفهم. ويهاجم إسرائيل فيتهمها بأنها مخلب القط في كل الحروب التي جرت وتجري في المنطقة.
وعندما يختلي الكاتب لنفسه يلجأ إلى آلةِ التسجيل فيستمع إلى جوليا بطرس المغّنية الملتزمة تغنّي:
"طالع فجر الحرية  حامل وعد جديد
بأرض الحرية  لمشوار ابتدا!"
ويضيف بلغة جميلة قوله: (ص-13):- "وكان الصوتُ يْمسَحُ كل شيءٍ ويبلّلهُ بمرهم الحزن والأسى، وفقدان الأمان في غربة ليس بها أمان، ولكنه في نفس الوقت، يزرع بذور الأمل من جديد، بفجر جديد، ووعدٍ جديد... والطموح حاجةٌ ملحةٌ في الضلوع، وخلايا الدماغ التي أصابها العطب،... فكل شيء يجب ان يتجدد وإلا انتشر الدمار".
ويضيف صاحبنا بعض التعابير البليغة مُسْتعيناً بما في جعبته من مقدرات على إدخال التشابيه والاستعارات التي تُكسِِبُ لغة السَّّرْدِ جمالاً خاصاً. فمثلاً في (ص-14) يصف ساعات الفجر في الغابة السوداء حيث تدور أحداث هذه الرواية قائلاً:
"كان الفجر... يشقشق من الشرق... ويغسل رؤوس الأشجار... في الغابة السوداء... ويبتلع النفايات المنبعثة من مداخن المصانع التي لا تنام!!"
"فكيف يشقشق الفجر وكيف تغتسل رؤوس الاشجار وكيف تبتلعُ نفايات المداخن وكيف تعمل ولا تنام" فهذه كلها استعارات جميلة لجأ اليها الكاتب في اكثر من موقع لتجميل نصوصه وجعلها قريبة من المشاعر تثير في النفوس رغبة في الاستزادة.
لا أستطيع القول هنا ان لغة القصة مكثفة وذلك لأن الكاتب يلجأ إلى التقديم لكل موقف ببعض الجمل مما يُفْقِدُ عملية السّرد كثافتها.
مهم ان نذكر ان بعض التعابير العامية والألمانية تقتحم هذه الرواية في أكثر من موقف. كما ان الكاتب لَمَحَ إلى قضيتي الزمان والمكان بشكل عرضيّ. فقد عرفنا الزمان من حديثه عن الصراع الأهلي بلبنان وعن مجزرتي صبرا وشاتيلا وعرفنا المكان لأنه يتحدث كثيراً عن مدينة فرايبورغ ويستعمل مصطلحات مثل ناي او ناين او دانكيشين او غيرها من اللغة الألمانية.
لذلك فإن الزمان لا يلعب دوراً كبيراً في سرد الرواية بينما يترك المكان طابعة على عملية السّرد بين الحين والآخر.
ونضيف إن الكاتب يلجأ إلى لغة الحوار مرة مع صديق يدخلُهٌُ فجأة إلى سير الأحداث ومرة مع النادل او الصديقة العاهرة كموتيف لعملية السرد.
ان لجوءه إلى استعمال اللغة العامية والمصطلحات الألمانية هي محاولة لإضفاء بعض الواقعية على الراوية لتكون أقرب إلى حديث القلوب! 
إن اسلوب الكاتب في هذه الرواية يتميز بالواقعية النقدية للمجتمع العربي الذي يعيشه وفي نفس الوقت ينتقد بنفور بعض المسلّمات الشائعة لدى شعوب الغرب – وهنا لدى الشعب الألماني حيث تدور أحداث الرواية.
وفي المفاضلة بين المجتمعين الألماني والعربي يجدُ الكاتب تفوقاً للمجتمع العربي على الألماني في النواحي العاطفية الحساسة. ويضرب لذلك مثلاً في دور الدكتورة روكسانا التي اتصلت بصديقه تطلب منه الحضور إلى عيادتها لأنها تحتاجه في أمرٍ هام. ولما وصل صديقه إلى العيادة قامت روكسانا بتنظيف طاولة الفحص ثم صرَفَت المُساعدة وصعدت إلى طاولة الفحص بعد ان تعرت من كل ملابسها وطلبت منه ان يضاجعها. قام بذلك متردّداً لأنه شعر بإهانة لمشاعره أما روكسانا فقد عادت إلى عملها دون ان تلتفت اليه وكأن شيئاً لم يحدث.
هنا تثور ثائرة الصاحب (طبعاً الكاتب الذي يروي الرواية على لسان الصاحب)
فيقول: في هذه البلاد يصبح الجنس والتعامل مع الآخر أو الأخرى في لعبة الجنس تماماً كمن يتناول وجبة هامبورجر او علبة كوكاكولا! فالمشاعر الحقيقية معدومة تماماً.
وفي موقف آخر يتعرف على إحدى النساء التي تأخذه إلى بيتها فيمارسان الجنس وتطلب منه ان يكتب لها ولزوجها شعراً يتمتعان به! وهي تتحدث عن زوجها بصراحة متناهية تذهل الكاتب، الذي يرى في هذه الواقعية والموضوعية بعداً كبيراً عن عاطفية شرقنا العربي.
أما عندما يصف الأشخاص فنجدهُ مُقِلاًّ في وصفهم إلا من بعض الكلمات.
فكتف صاحبته يلمع كالماس بياضاً وفخذاها يضيئان كأنوار النيون! ولكنه لم يصف لا الشعر الأشقر ولا الخصر الذائب ولا النهدين المتكورين ولا القامة الهيفاء. ويبدو ان دور المرأة الألمانية الذي تنعدم فيه مشاعر الحب الحقيقية ترك أثره في نفسيةِ الكاتب فجاءت مداخلاته في وصف الحبيبة جافة إلى حدٍْ ما.
وهكذا لمسنا ان شخصيات هذه الرواية فيها جمود ما حيث تقف كل شخصية في مكانها دون ان يحصل لها أي تطوّر كما هو الحال في العديد من الروايات. ويبدو أن الفترة الزمنية التي تعرض لها الكاتب كانت قصيرة فلم يجد هناك حاجةً لمثل هذا التطور لذلك يعود ببطله إلى أرض الوطن بعد ان خاض معه العديد من التجارب في بلاد الغربة حيث يظلّ يعاني من الصراع الداخلي الذي يحرُّ في نفسه في حبه لشمس ولقمر.

 

أنا أومن او فلسفة الحياة لدى أديبنا عيسى لوباني:


كل مثقف يجب ان تكون لدية فلسفة خاصة في الحياة يسعى إلى نقل أفكاره فيها إلى جمهور قرائه. والأديب المبدع الذي ليس لديه فلسفة خاصة أو موقف واضح له في مختلف شؤون الحياة يجب ان يبتعد عن الكتابة. فالمثقف هو قائد من قادة شعبه وعليه ان يلعب دور الموجّهِ الذي يرسُم الطريق للآتين بعده وإلا فليس له فضل في ما يكتب.
والأستاذ عيسى إنسان واعٍ له فكر نيّر ويعرف كيف يميّز الغث من السمين كما كان يصرح في لقاءاتنا معه بين الحين والآخر في مكتبته العامرة.
ما لاحظناه في هذه الرواية أن الكاتب أدخل أفكاره بشكل عَرَضيٍّ ومباشر في شؤون الحياة وعلى لسان أحد شخوص روايته حتى ولو قطع حبل السرد لِبُرهةٍ ثم يعود إلى متابعة السّرد.
وإذا كنا قد تساءلنا ماذا كان هدف الكاتب عندما وضع هذه الرواية؟
فإن جوابنا يتلخص في أنه أراد اطلاعنا على مكنونات نفسه وما تعلّمه من مواعظ في حياته من الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاشها جيله وهو جيل المخضرمين الذين عاصروا فترتين هما فترة الانتداب لأن المرحوم كان من مواليد سنة 1929 وقد عاش تسعة عشر عاماً تحت الانتداب وفي عهد إسرائيل قضى بقية حياته.
لذلك فهو مرة يُدخلُ جُملاً تلخيصية فلسفية في أكثر من موقع. في (ص– 120) مثلاً في نهاية الرواية يكتب "نوم الظالمين عبادة... فلماذا لا ننام كما ناموا ؟!!" وفي (ص-108) يقول: "يبدو أننا شعب لا نحب البكاء، فغداة الكارثة خرجنا كالديدان، من تحت الأنقاض، وبدأنا البحث عن الطعام"!
كذلك في صفحة – 103 يقول: "الذهن مضمار لخيول اصيلة... أعرافُها نار... وسنابلها من حديد مشتعل او صلصال".
في ص -98 يقول: "اغرب شيء في هذا الوجود، هو ان ترى وتسمع... وأنت أصم وكفيف"!
فكيف تكون الرؤية وكيف يسمع الأصم؟!
ويضيف في نفس الصفحة قوله: "نحن لا نقدر قيمة ما نخسره، او نودع إلا اذا طلبنا ما خسرناه ونجد انفسنا وقد فقدناه في غفلة من الزمن... لماذا تتكرر مآسينا... وتضعنا دائماً في اتون التجربة".
في ص – 80 يناقش موقف الانسان العربي من موضوع السعادة فيقول أثناء حوار جرى مع إحدى صديقاته:
"لماذا نصنع السعادة وندمرها بأيدينا؟
يجيب: من الملل والضجر والانسان بطبيعته ملول ويضجر بسرعةٍ.
تضيف: إلى حد تدمير سعادته بيديه؟!
يرد: أجل !"
أما عن الوطن فيقول في (ص-76):-
"الوطن...الذي ما بعده وطن...اذا ما فقده الانسان...فقد الانتماء...وفقد الأمان... واصبح كسفينة في عرض البحر... أضاعت البوصلة... وسواء السبيل!!!"
على لسان صديقه أخرى يقول: (ص -73) في تعريف الصبر:-
"الصبر سلاحُ العاجزين!!! وإذا صبرنا ضيعنا من الزمن... ما لا يوزن بالذهب".
"انه عمرنا... فإذا ضيعناهُ... فقدناه إلى الأبد... وأنا وأنت و... لن نعيش سوى مرة واحدة"!
عن الحنين يتساءل تساؤل العارف ويجيب (ص-68) قوله:
"لماذا نحترف الحنين... ونستمرئه... والحل قاب قوسين أو أدنى؟
ويجيب: لأننا بشرٌ من لحمٍ ودمٍ، فلو لم نكن كذلك لاحترقنا...منذ زمن طويل مثل غابة...أصابتها عاصفة...أو شرارة برقٍ!
أخيرا: بعد انتهائي من قراءة هذه الرواية دخلت في حوار مع ذاتي وتساؤلي: هل قرأت رواية حقيقية بكل مركباتها، ام قرأت فصلاً عن سيرة حياة قد تكون من سيرة حياة الكاتب وقد تكون من سيرة أي من الأصدقاء ولكن الأدق والأصحّ انه فصل من وحي الخيال جاء توظيف الجنس فيه محاولة للتعويض عن شيء هام أضاعه الكاتب وهو عمره الذي ذهب هباء وما بقي من هذا الوطن السليب أرض فلسطين. ان توصلنا إلى هذه النتيجة جاء حتمياً لأننا بعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية وجدنا ان توظيف الجنس فيها وبهذه الكثافة لم يضف شيئاً إلى المضمون الحقيقي للرواية. كما ان الحديث عن الجد والأم والقرية وغيرها هو ايضاً نتيجة حتمية لمدى تعلق الكاتب بالوطن بالقرى والمدن العربية التي ضاع او هدم كم كبير منها وظل الباقي شاهداً على النكبة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني.
لقد أعادتني هذه الرواية إلى ما كان قد كتبه توفيق الحكيم في روايته سيرته الذاتية "عصفور من الشرق" وإلى ما كتبه سهيل ادريس في روايته سيرته الذاتية في "الحي اللاتيني". فوجدت ان كلا المبدعين انما سبقا كاتبنا إلى فكرة الصراع بين الشرق والغرب وتباين المفاهيم، وهذا أمر طبيعي لمن يسافر إلى خارج بلاده فيصطدم بالفوارق الحضارية، يعيشها ويتعلم منها.
وإذا كان الأستاذ عيسى لوباني قد اقحم نفسه في سير الأحداث وروى ما رواه بلسان المتكلم بحيث اوجد تطابقاً فعليا بين الحدث والشخصية اللذين هما في الغالب شيء واحدٌ. فهذا ما كنا قد وجدناه ايضاً عند نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب. فكل حركة، انتقال، لقاء، حديث او غيره هي حدث (أحداث) تساعد بها تراكم السّرد إلى نهايته. ولكنه لم يلجأ إلى الارتجاع الفنّي Flash back لانه لم يشأ قطع التسلسل الحدثي بل توقف عند مغادرته لألمانيا عائداًً إلى الوطن ليعيش من جديد صراعه في من يحب. فهو سيعود إلى زوجته قمر بلا شك ولكن قلبه سيظلّ موزعاً عند شمس الحبيبة الحقيقية والتي لا يستطيع نسيانها لا هو ولا أي انسان فلسطيني وطني مخلص لوطنه.
إني أقدر الجهود الذي بذلتها الأخت ميادة ابنة الكاتب عندما عملت على إصدار هذه الرواية. وكنت أتمنى لو عرضت المادة على مدقق لغوي قبل طباعتها النهائية تجنباً لبعض الأخطاء اللغوية والمطبعية.
فيا ابنة صديقنا المرحوم عيسى لوباني أقدر فيك هذا الإخلاص المتناهي لذكرى الوالد الذي كان عزيزاً على قلبك وقلب جميع اصدقائه ومعارفه ومحبيّه، وأتمنى لك الصحة والسعادة وطول العمر.
لكِ الحياة!

(كفر ياسيف)

د. بطرس دلة
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع