الالواح السبعة



 

 

 

 

 

 

 

مازلت ابحث عن حياة لم اجدها بعد.
ما زلت اهيم على وجهي كصياد في اعماق فلاة لن تنتهي.
العمر يا قلمي قصة وقصتي لم تكتب بعد وان كنت ابحث جاهدا عن بداية لها عرفتها وعشتها واكلت من خبزها وملحها.. التهمتها صروف الدهر. ها هي تدور هناك على طرف جدول وهدير نبعة جفت وولت ولم يعد لها وجود . وان كنت المح هنا وهناك وميضا من سماء سوداء مرصعة بالنجوم . كنت اخال شقيا تلك السماء اميرة احلامي والنجوم احجار كريمة من لازورد وياقوت وفصوص ماس وددت لو ملأت بها قبضتي لانثرها في وجه الارض المفقودة علني على ضوئها اجد قصتي التائهة هناك . كنت يافعا غضا ادور بحياتي والف بها في وطن استحال الى المحال وغدا طيفا مسافرا مع الريح الخريفية التي استيقظت مرة على وقعها . كانت مغبرة عصفت بالبلدة وبحديقة بيتنا وببقايا الزنابق التي اصفرت امام نافذتي الغربية بعد صيف حار وطويل . فررت من عواصف ليلتي الفائتة على عواصف الخريف الذي دهم القرية قبل ميعاده ذاك العام واعلن في تلك الساعة الصباحية قدومه الى طرقات البلدة هاربا من اشعة صيف حار وجاف وطويل . الورود انتكست والحساسين اختبأت والاشجار بقيت عارية صارعت هبات الريح .. والغربان نعبت ونعبت فوق قمم الاشجار وهللت للموت القادم .
.لم تفارقني ولن تفارقني مشاهد الغضب على وجه ابي عندما كرر اكثر من مرة " قتلوهم.. حصدوهم ..قتلوهم " .ولن تفارقني وشحة الحزن التي بدت على سحنات امي في ظلال السراج ولن يتركني ذاك الهلع الذي المّ بزهرة وجعلها تقفز من عالم حكايتها مع الصغار الى عالم قاس دب واختال سافرا عن وجه الموت الاسود المترصد خلف الابواب وفي طرقات الوطن مع رياح الخريف التي اشتدت ساعتها واشتدت . حرت ليلتها مع الفكرة التي راودتني بغيرما انتظام ولا انسجام .
" قتلوهم .. حصدوهم .. قتلوهم " من هم القتلة ولماذا هذا القتل الفالت في الطرقات في بلاد غنت دوما للشمس وكانت رحم الارض ومنبع الفكر وحبل الوريد لبعث حضاري امتد من صميمها الى اطراف الدنيا كلها .
بحثت عن صديقي لنخرج معا الى خارج دائرة القتل التي اتسعت ولفت القرية والوطن كله . تعودنا للخروج معا ولو لساعة الى احضان الطبيعة الخلابة التي احاطت القرية بحثنا فيها معا عن مكان آمن بعيدا عن القتل والدمار نرى فيه جمال الخلق وروعته وفطرته . هناك في قلب الطبيعة الرحب الرؤوم لا دم ولا دبابات ولا طائرات اشجار تموت عارية منتصبة القامة واخرى تبعث للحياة من بين الصخور . تنطلق الحساسين بحب وحرية و تلهو في فضاء نقي لم يلوثه غبار العاصفة . تفتحت الزنابق البرية متأخرة عن ازهار زرقاوية بلون السماء رقصت لعين الشمس وتمايلت مع هبات النسيم السحرية مأخوذة من روعة الخلق حولها ومن جريان حياة حلوة باجمل صورها على مد البصر .
لم اجد صديق الشقي لا في بيته ولا في زواريب الحارة . اخبرتني امه بحرارة عن فلذة كبدها انه كحالي خرج للقائي ولم يعد بعد . كان الوقت ضحى وقد هدات رياح الخريف وخلفت نسمات باردة بعثت هدوءا لاوراق الاشجار التي غطتها طبقة كثيفة من الغبار الرمادي السميك حتى اصبح لون الطبيعة داكنا تحت اشعة الشمس البعيدة التي اختفت مرتعشة خلف سحابات الغبار الواطئة .
تأبطت كتابا وسرت مخلفا البلدة ورائي غربا في طريق العين قاصدا الطاحونة على ضفاف الجدول الذي اخترق البساتين الكثيرة غربا وانتهى في زرقة البحر .
خلت الطريق من المارة والراكبين وخلت ساحة الطاحونة تحت اشجار الزنزلخت الجميلة التي احاطتها من كل صوب وهي مكللة بعناقيد صفراء في لون العقيق العتيق لا احلى ولا اجمل . انشرح صدري وهدات روعي عندما اقتربت اكثرا فاكثر واصبحت تماما بمحاذاة الشلال الصغير الذي تدفقت مياهه على رحى الطاحون القصديرية اللماعة وادارتها الى الامام مخلفة حولها رذاذا متطايرا لمعت حباته الذهبية في اشعة الشمس الخفيفة الحانية وراء الغيوم الخريفية . جلست على صخرة بارزة بمحاذاة المجرى قريبا من الشلال متابعا حركة المياه المتدفقة والعصافير التي حطت وطارت بين قطرات الرذاذ بدون حسيب او رقيب .
لماذا لا نكون مثل هذه الحساسين ؟
لماذا لايكون لنا بعث ربيعي بعد موت خريفي مثل الزنابق التي اراها تحدت الخريف والعواصف والغبار وعبقت بلهفة الحياة من حولها وازهرت ؟
لماذا الغربة والتشرد والضياع وها انذا ارى بعض الاشجار ماتت عارية واقفة لم تترك المكان ولم تغادر صارعت الموت وهي منغرسة عميقا في صدر هذه الارض الطيبة ؟ .
لماذا جاء الغرباء من نواحي العالم البعيد الى هنا من خلف بحار وجبال وصحارى بعيدة ؟
دارت الطاحونة واكلت الزمن بنهم مخلفة ورانها رذاذا رطبا منعشا لمعت في ابعاده الواح القصدير بعد ان انعكست فيها اشعة الشمس وتحولت الى مرايا كبيرة حوت المكان والزمان . غرقت في نفسي وقلت مناجيا ذاتي "...يالهي ...ماذا لو عادت الطاحونة الى الخلف الى زمن بعيد خلف حدود النسيان ؟ ماذا لو حكت هذه المياه الغزيرة الجارية قصتها مع الوجود منذ ان بدا هذا الوجود فوق قطعة الارض الحانية التي اتحدت ها هنا مع السماء وتواصلت معها برطوبة الرذاذ وباشعة الشمس البعيدة المغبرة التي ولا شك بحثت عن ذاك الرذاذ واتت تغسل شعرها الذهبي بعد ان لطخته رياح الخريف .. يا ربي لو تحقق هذا وعادت رحى الطاحون الى الوراء لرأيت العجب.." .
 ياللعجب رحى الطاحون غمزت لي واستجابت وهاهي تكبر وتكبر والرذاذ يطير ويطير عاكسا اشعة الشمس على قطع القصدير اللماعة حتى رايتها غدت مرايا وسع الارض ومد السماء.
اختلط الزمن الحاضر بالماضي وشعرتني اغور في نفق سحيق غائب عن الوجود مخترقا افاقا شبيهة بعالم ساحر ضائع ذابت فيه المعالم واختلط الواقع بالمجهول والمعقول باللامعقول والحاضر بالماضي في متاهة لا احلى ولا اغرب . هاهو الملك الراعي على رأس جيش الهكسوس زاحفا به جرارا ميزته عرباته الخشبية ثنائية العجلات التي جرتها خيول ضخمة اتت من بلاد بعيدة . شعره كث مسترسل عاري الصدر لمعت قبضة سيفه في غمده .
ترجل واتى مجرى الماء وشرب ونظر نحوي بشزر ووقاحة ليس لهل مثيل وقال بصوت جهوري اجش موجها كلامه لي.
"..انا لم اقصد هذه الارض ولا هذه المياه ..انا وجيشي عابرون في طريق عابر . ابحث عن اوزيريس في وادي النيل ..لا تخف ولا تجزع .. هذا الخراب وهذه الحرائق كان لابد منها . جيشي كبير وجائع ونهم .. لن ارجع الى هنا ولن اعود .. ها ها.. ها ها " .غاب مع جيشه الجرار وعرباته التي جرتها الخيول نحو الجنوب مخلفا سحابات غبار غطت عين الشمس .
 تابعت الطاحونة دورانها وغابت في الافق الجنوبي رياح الهكسوس وقرقعة عرباتهم التي جرتها خيول برية شديدة المراس حتى انقلب لوح القصدير الثاني بدوره وتحول الى مرآة عظيمة عكست صورة اخرى على مد البصر . لعله الاسكندر الكبير المقدوني على فرسه المطهمة البيضاء ات من الشمال البعيد وخلفه جيوشه الجبارة ؟. لم يحمل براسه قرنين بل كان شابا وسيما في مقتبل العمر . حط عن فرسه المطهمة التي بدت كخيول الاساطير الاغريقية . لم يحمل سيفا بل خنجرا على وسطه ذهبيا لمع من بعيد وزاد من جمال حامله وهيبته . ورد الماء واغتسل وجال ببصره نحو المياه المتدفقة من عل وقال في جمع من قواده الذين احاطوه من كل جانب " بلاد جميلة ومياه وفيرة.. سماء زرقاء وشمس حريرية وكأنها من التبر الخالص .. ترجلوا وارتاحوا بعد قليل نكمل المسيرة الى وادي النيل ". هزني وقاره وعظمته وودت في لحظتي العابرة الفريدة تلك لو خاطبته لكنه سرعان ما اختفى مع دوران قطعة القصدير واختفى هو وجيشه على صفحة المياه الواردة من عل وغاب كما ظهر.
دارت القطعة الثالثة ويالهول ما ارى ..جيش عظيم آخر ارتدى بزات عسكرية سوداء وخيول مطهمة بالسواد وعلى صدور الفرسان علقت صلبان سوداء .تقدمهم ملكهم مرتديا زيا ملكيا اسود وتاجا اصفر انتهى بذرة تاج على شكل الصليب . كانت بزته من حرير اسود وعلى صدره ارتسم صليب اسود كبير . اولئك الجهماء السود لم يترجلوا عند العين بل سقوا خيولهم وعبثوا بالماء.
سمعت ملكهم مشرعا سيفا اسود على شكل صليب من الحديد المفتول يقول "..يا فرسان الهيكل .. ويا فرسان القبر المقدس ها نحن هنا في الارض المقدسة على ابواب اورشليم ..تعالوا نحرر قبر المسيح من اولئك البرابرة .. المجد لله في الاعالي والمجد لكم على ارضه الطاهرة " تدافعوا وتدافعوا كقطعان الشياطين وسارعوا صوب الشرق الى القدس.
قلت لذاتي بعد ان جرفني المنظر واخذني الى البعيد " ..اتوا ليحرروا قبر المسيح من اهله.. يا لهم من أفاقين " .
دارت القطعة الرابعة ببطء شديد بعد ان جاهدت المياه الدافقة بعزم معكرة موحلة من اثر اقدام محرري قبر المسيح عليه السلام .
هاهم لم يغيبوا طويلا .ارى فلولهم هاربة وخيولهم السوداء مدحورة ذيولها التصقت باقفيتها تركض نحو الغرب ..نحو الشاطئ حيث انتظرتهم سفن خيبتهم بعد ان دكت سنابك خيول صلاح الدين الاصيلة وجودهم المدنس فوق ارض المسيح المقدسة .
لم يطل انتظاري حتى دارت القطعة الخامسة وكأنها آتية من صحاري قرا قوم في الاعماق الاسيوية . رأيت هولاكو التتاري راكبا حصانا تتاريا ذيله غزير الشعر وارجله مفلطحة وثخينة وشعر رقبته كث وكانه من غصون القندول . هولاكو متوحش اتى من بلاد متوحشة . عبر دجلة من الرصافة الى الكرخ في بغداد الرشيد . جنوده متوحشين مثله قتلوا من الناس الالاف المؤلفة واحرقوا البيوت والقوا بكتب ومخطوطات دار الكتب بالافها الى دجلة الذي بكى ذاك العام المنحوس وذرف دمعا اسود. تقدموا بجحافلهم ودخلوا فلسطين . دارت معركة عين جالوت . بيبرس ينتصر وهولاكو يقتل ويباد جيش المتوحشين .. يالها من معركة اليمة مازلت اسمع هديرها وارى عجاجها آت من بعيد. حرت مابين الصور بمزيج من الفكر ورغبت المزيد حتى بانت القطعة السادسة وغاب التتار وغابت معهم انهار الدم ودموع الكتب .
ارى السلطان بذاته قاحما بطربوشه الآستاني بيت المقدس . اعلن عن فلسطين دسكرة من دساكره وهجع بعدها في ظلامة اربعة قرونا عجفاء . اصبح تاريخه مقرون بزيجة لا تثمر وعقل لا يفكر وعنزة لا ترضع وحقل لا يطرح الغلة .
لم اسمع منه وهو عابر امامي الا قرقرة نرجيلته ولم ار الا اوداجه المنتفخة كذكر الحمام قبل لقاء حب عابر .
دارت الطاحونة الى الوراء نصف دورة وهاهي القطعة السابعة تقتحم الآفاق . هاهو جنرال انجليزي مفتون باحلامه الاستعمارية وبنفط العرب راكبا سيارة جيب عسكرية واقفا على رجليه وفي زاوية فمه السمجة غليون ملكي بريطاني وخلفه ارتال من الدبابات والمصفحات . تلك الدبابات لم تشرب ماء الطاحونة بل سارعت نحو الشرق تبحث عن البترول . خلفت وراءها زعيقا وخرابا ودخانا اسود عتم من حينها المرجة وسود الرذاذ وحجب اشعة الشمس حتى سدت نفسي عما اردت وناشدت الطاحون ان يعود بالزمن مرة ثانية الى الامام . لم اتمالك اعصابي وسمعتني اصيح بالجنرال المنفوش كالطاووس " هيه جنرال ... فاكينغ يو .. جو هوم". ها انا على صخرتي اقبض كتابي جالسا بعد ان هدأت غضبتي مستمتعا بالرذاذ الذي رطبني ورطب الحياة حولي وبعث بي ثانية شعورا بالانتعاش وشيئا من السعادة التي فارقتني ردحا من الزمن . عدت اتابع الوجود مع الجدول واتواصل معه حتى المصب حتى سمعت عقيرتي في ذاتها تشدو مع الشاذي الذي ابدع حين غنى ".. بروحي تلك الارض ما اطيب الربى وما اجمل المصطاف والمتربعا " عدت معتليا منشرحا التلة من حيث اتيت .
قلت للصخرة انيستي ضحى ذاك النهار وانا الاطفها " كلهم عبروا وانت بقيت .. كلهم غابوا وانت تجليت " . صفرت بلحن بديع عجزت عنه حتى الحساسين في الطاحونة وبحثت عن احد احكي له حكاية من ابدع ما سمعت وادهش ما رأيت . ما ان خبطت قدماي مشارف القرية حتى رايت خيال صديقي راكضا نحوي بشقاوة عهدتها به ملهوفا مقطوع الانفاس قائلا " اين كنت .. ياربي .. فتشت عنك في كل مكان .. ابوك " .
قاطعته مذعورا خائفا " .. مالك يامجنون و ماله ابي .. انطق ماذا جرى ؟ " .
 التقط انفاسه وقال " ابوك احضر شاحنة جديدة الى بيتكم ..انها والله زرقاء جديدة وعظيمة " . لم تفاجئني كلمات صديقي كثيرا . كنت قد عرفت فيما مضى عن نية ابي لاقتناء شاحنة بعد ان باع القافلة قبل النكبة بقليل .
كان جمالا وملك سبعة جمال حملها قمحا وشعيرا وزيتا وزيتونا وبطيخا وفحما وصوفا ورومانا وعنبا وانطلق بها مرة الى الشمال حتي وصل بيروت والشام ومرة الى الشرق الى القدس وعمان ومرة الى الجنوب حتى غزة وعسقلان . مع الحرب الكونية الثانية تدفقت جحافل الحلفاء الى فلسطين وحملت معها دبابات ومصفحات وشاحنات عسكرية وصهاريج نقلت نفط العراق المسروق والمكرر من مصافي حيفا الى رحى المعركة التي دارت على اطراف ارض عربية محتلة هي الاخرى .
حثثنا الخطى انا وسامر صديقي نحو بيتنا. تجمهر هناك خلق كثير من كل حدب وصوب ومن كل الاعمار واحاطوا بالشاحنة وتفحصوا عجلاتها وصباغها الازرق اللامع ومقصورتها وصندوقها التي طوقتها السلالم من كل جانب ..من خلفها تلك السلالم رأيت العجب وشاحنة تهدر بي بالجبال وتطوح على اطراف الموج في الازرق الكبير الذي غدا قريبا وساحرا.

(شفاعمرو)

د. فؤاد خطيب
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع