جدي العزيز جلجامش.. هو الذي رأى كلَّ شيء



أوروك مدينة في وادي الرّافدين، هي أور وهي عوروك ومنها جاءت العراق، معها، تبدأ حضارة العراق ألقديم في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
تقول الأسطورة:
كان جلجامش رجلا من لحم ودم حكم اوروك وطغى وبغى على اهلها وكان له حق الليلة الاولى يأخذ فيها العروس قبل زوجها... فحملوا شكواهم الى مجمع الآلهة فقامت الآلهة الخالقة بخلق أنكيدو من قبضة طين رمتها في الفلاة. فنشأ هذا الرجل الوحش صديقا للحيوان "يرعى الكلأ مع الغزلان"... حتى أنسنته فتاة البهجة... بعد ما قطف ثمارها صار يعرف. أما جلجامش ولدته أمه ننسون (البقرة الوحشية) وهي إلهة ثانوية من والده لوجال بندا ملك عوروك العظيم، فاعتبر نفسه ثلثي إله. اما انكيدو فقد كان الانسان الكامل المخلوق من الطين فقد كان ندا لجلجامش. تصارع معه حتى اهتزّت أركان المعبد... في احتفال كبير، هتف الناس لانكيدو انه ألبطل ندّ جلجامش. سيدخلان في تنافس دائم وتستريح اوروك. ولكن بدل ذلك تنشأ صداقة عميقة بين الطرفين. فمن خلال الندّية تنشأ هذه الصداقة بحسب النص الاكادي.
ومن خلال الصداقة لا يعتبر الخضوع فيها خضوعا.. إنما توافقا قد يصل إلى حد التبعية كما في النص السومري...على كل حال كان التعاون بينهما كبيرا، فقد صرعا ثور السماء الذي بعثت به إلهة الخصب والجمال ذات الوجه الضاحك وإلهة الثأر والدمار ذات الوجه العابس عشتار.. بعثت به بوجهها الثاني عشتار لاوروك كي يعيث فسادا، ردا على إهانة جلجامش لها وصدّها... كما صرعا خمبابا حارس غابة الارز... اجتمع الآلهة وقرروا انه على أنكيدو أن يموت رغم انه عارض في البداية قتال حارس الارز..أحدث موته صدعا في  نفس جلجامش.
احتفظ بالجثة ثلاثة أيام.. ندبة وبكاه وعلا صوته نحو السماء علّ العويل يعيده إلى الحياة... لكن كانت صدمة جلجامش كبيرة حين خرج الدود من انف الجثة ،فقرر دفنها لأن حقيقة الموت أقوى. من هنا جاءت فكرة الخلود حين تحوّل حب الصديق الراحل إلى قلق على مصيره الشخصي.
كان جلجامش واسع المعرفة، وكان لا بد له من لقاء أوتنابشتيم- الانسان الخالد الذي يعيش هو وزوجته في ارض دلمون- جنّة عدن السومرية- الواقعة ما وراء بحر الموت والمسمّى أيضا بحر الظلمات. فاجتازه بمساعدة أورشنابي الملاّح، ثم بمعاونة البشر العقارب وسيدوري ساقية حان الآلهة.
كانت الآلهة قد أنعمت على أوتنابشتيم بالخلود مكافأة له على إنقاذه بذرة الحياة على الأرض بعد الطوفان- طوفان أتراحسيس، وحين قابل جلجامش هذا المنقذ، اختبر أوتنابشتيم مقدرته على قهر الموت الأكبر بقهر الموت الأصغر- النوم. لكن جلجامش فشل بهذا الاختبار.
كان موت انكيدو باعثا لفكرة الخلود لدى جلجامش. وكان هذا الخلود بشكله الجنيني خلود الجسد.. نراه يتطور من خلال الملحمة ومن ثم من خلال جدلية الموت والحياة إلى خلود الذكر.
كما أن عملية "البحث عن الخلود" قد تطورت إلى "البحث عن الحياة"، وإلى النبتة التي تعيد الشيخ إلى صباه. ففي البدء جاء جلجامش إلى أوتنابشتيم ليسأله عن سر "الحياة والموت"... تقول له فتاة الحان "الحياة التي تبحث عنها لن تجدها فالآلهة لما خلقت البشر جعلت الموت لهم نصيبا..." لكنه لا يقتنع، أليس هو ثلثا إله وثلث إنسان؟ إنه الإنسان المؤلّه كما اعتقد وكما صار بعد موته من خلال طقس عبادة الأسلاف. وهو نوع من أنواع الخلود.
لقد تطورت ملحمة جلجامش عبر النصوص المختلفة بحسب روح العصر ودرجة تطوره ورقيّة ومفاهيمه وفكره المجرد. كذلك نري أيضا أن فكرة الخلود تطورت عبر العصور السومرية والأشورية والبابلية والأكادية من المفهوم البدائي إلى نبتة تجديد الشباب التي ضاعت هي أيضا حين أكلتها الأفعى/ الحيّة (الحياة) ومن فكرة النبتة إلى عملية تجديد الحياة في الموت ثم إلى خلود الذكر والخلود المعنوي.
وبعد، فإننا نرى من خلال الملحمة أيضا أن العنصر الإنساني  في جلجامش تغلّب على العنصر الإلـهي بالموت وأصبح مثله كمثل أنكيدو- الرجل الوحش الذي تأنسن عن طريق المرأة بالمعرفة بعدما عرف فتاة البهجة.
وهو- جلجامش- "الذي رأى كل شيء".. أدرك أخيرا انه ميت لا محالة.. لكنه تغلب على الموت بخلود الذكر وتمايز الفرد وأثره في الجماعة وإنسانيته التي تفيض بالمعرفة والتي جعلت منه ذلك الإنسان الذي يرث الأرض بُعيد انسلاخه عن الفوضوية وانتقاله لمرحلة أرقى في الكدح والتنظيم والنظام ومعرفة الذات والكون... والمرأة- "الأم الكبرى".
كل هذا وإن كانت ملحمة جلجامش ملحمة الذكَر الباحث عن معنى الحياة وعن المعنى في الحياة في استنفاذ وتخطي حدود الممكن...وبعد أيضا.. فيا أيها الخالد جلجامش! يا جدي العظيم جلجامش! يا ملك العراق القديم أفق خفيف الظل وامرح! فهذه هي جحافل أحفادك في فارس وفي العراق وفي سوريا وفي لبنان يصنعون التاريخ ويجدّون في إيجاد معنى للحياة.. يجددون الحياة في البحث الدائم عن الحياة... ويرون كلّ شيء كما رأيت أنت.

حفيدك الفلسطيني                                                
وليد الفاهوم

وليد الفاهوم
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع