قصّة
الشتيمة



 

 

 

 

 

 

 

- اخز الشيطان يا شعبان!!
ورفض أن يصغي لأحد. الحمار لا يريد أن يسمع ويرفض أن يفهم. والويل لي لو عرف أني نعته بالحمار فعندئذ لن تخلصني فرقة من شرطة مكافحة الشغب من لطمات يديه، فالولد يده والضربة مثل شبان هذه الأيام، ناهيك أن شعبان لا يستحق أن نصفه بالحمار لأن الحمار صبور ويسميه العرب، منذ القرون الغابرة، أبا صابر وأما شعبان فعقله في رأس أنفه، مثل شبان هذه الأيام، ولو كان يتحلى بقليل من الصبر، أو قليل من الحكمة، أو قليل من التروي لبلع الشتيمة وبقي في مقهى "باب الحارة" يتابع مباراة كرة القدم. ولكن الفتى حمش. رأسه يابس ويعادي التفكير ولا يعد للعشرة ولا يحتمل أن يُمسّ شرفه ولو بكلمة أو شتيمة فكيف الحال اذا كانت الشتيمة من العيار الثقيل وعلى مسمع مجموعة من السواعير الذين بدأوا يشمون رائحة آباطهم، ويعتقد- حقيقة او أمنية- أنه زعيم الشلّة. ولا يستطيع أن يمر على الشتيمة مر الكرام فشبوبيته لا تسمح بذلك، وشارباه الأخضران يأبيان ذلك، ولن يسمح لابن من كان او ابن من كانت ان يأخذ رأسا عليه. ويا قفة العدس على الرز ميلي، كلنا روس ما فينا قنا نيري..
ونحن شعب شتّام سبّاب لعّان منذ أيام زهير الذي اوسعهم سبا وأودوا بالابل. نخترع الشتيمة ونبدع فيها ولا يسلم عضو مكشوف او مستور من أجساد الامهات والاخوات والزوجات والعمات والخالات والجدات منا. ولا بأس ان نستعين بذكور الحمير والخيول والجمال والكلاب فنولجها بهن. واعترف، وربما يعترف آخرون مثلي، بأنني لا أفهم العيب في بعض الشتائم الا اذا كان كل عضو في جسد المرأة عورة، ففي صغري سمعت شابا يشتم آخر قائلا "يلعن كراعين أمك". فاعتقدت لسذاجتي ان الكراعين تعني الجماع او الزنا او العاطلة وبقيت اعتقد ذلك الى أن ذبحنا، ذات عيد، خروفا وطبخت أمي بعد ايام قوائمه ووضعت في صحني كرعونة مسلوقة فأدركت يومئذ ان الكرع هي قوائم الحيوان، وفي القاموس الكرع هو من الانسان ما دون الركبة. فأين الشتيمة في ذلك، وما العيب او الاذى اذا قلنا للآخر: ساقا أمك او يدا أمك او عينا أختك وحتى اذا قلنا بطن امك او راس ستك الخ. وقد يكون هذا الكلام معقولا ومبررا نظريا ولكن لو جربناه على الواقع وسمعنا من يلعن قلب الام او كبدها او عينها او طحالها وحتى رمشها لغلى الدم في عروق الواحد منا.. فكيف الحال اذا كانت الكلمة بذيئة وتذكر عضوا مستورا حساسا من أعضاء الجسد؟
ومن المشهور أن العقال أي المتدينين من اخواننا بني معروف يتجنبون لفظ الكلمات البذيئة مهما كان السبب او مهما كانت الحالة، فاذا اضطر احدهم الى استعمال احدى هذه الكلمات غير بها حرفا او نقل النقطة من حرف الى آخر في الكلمة أي أجرى بها تصحيفا أو تحريفا فهم يقولون "حزا" بعد أن نقلوا النقطة من على الخاء الى الراء، وحينما عرفت ذلك عنهم قلت في نفسي، ولكن العرب قالوا فلان يضع النقاط على الحروف.
وحدثني صديقي بو محمد، حفظه الله، أن مسؤولا حكوميا اسرائيليا اسمه "الخواجة بخرا" زار احدى قرى الشمال بعد قيام الدولة مباشرة في القرن الماضي فاستقبله علية القوم كعادتهم في الضيافة العربية ووقف احد الشيوخ يلقي خطبة عصماء يرحب بها بالضيف الكبير، ومما قاله: "نرحب بالخواجة بحزا. واهلا بك يا خواجة بحزا". واستمر الخطيب يردد "بحزا" في كل جملة تقريبا فسأل الخواجة بخرا ترجمانه: من هذا خواجه بحزا الذي يذكره الخطيب؟ فأجابه الترجمان: انت. وشرح له ان اسمه يعني في العربية كلمة بذيئة ومعناها كذا مذا ولذلك قام الخطيب بالتصحيف فزعل الخواجة. ويقال أن الخطيب استمر في خطبته الرنانة وقال: نتوجه الى الخواجة بحزا. فصرخ الخواجة بأعلى صوته: خواجة بخرا. خواجة بخرا . فرد الشيخ الخطيب: أجل يا خواجة بحزا.. فقال الخواجة بغضب: مش بحزا.. أنا بخرا في لحيتك. فرد الشيخ بغضب: بحزا في لحية بيّك..
وانقلب الاحتفال الى مشادة. فهذا ما فعلته الشتيمة مع العقال والحكام فكيف نلوم الشبان المرد؟
وروى مثقف عراقي، التقيته مصادفة في احدى المكتبات في عمان أن شابا عراقيا قتل جاره فاعتقلته الشرطة وبعد أيام اقتادوه من المعتقل الى المحكمة فسأله القاضي: يا جاسم لماذا قتلت جارك؟
- المسألة كبيرة يا حضرة القاضي.
- وما هي الكبيرة ؟
- شتم أمي قلت مش مهم. شتم ابي قلت مش مهم. شتم اختي قلت مش مهم. شتم عائلتي قلت مش مهم. اللهم طولك يا روح. شتم ديني قلت للدين رب يحميه فتطاول وقال لي: انت بوش. فاسودت الدنيا في عيني وما عدت اعرف شيئا. هل ترضى يا سعادة القاضي أن يبوّشني واسكت؟
وقد فاخرت يوما امام عالم اجتماعي بأننا الشعب الاول في فنّ الشتيمة فقال لي: لا تتسرع فأين نحن من الروس الذين شتائمهم من العيار الثقيل جدا والتي لا تحتمل الأذن العربية سماعها.
ويعتقد بعض العلماء ان نوع الشتيمة يدل على أصل صاحبها وقوميته فقد كان الألمان في معسكرات الاعتقال، في اثناء الحرب العالمية الثانية، حينما يريدون معرفة أصل أحد المعتقلين، يفتعلون معه عراكا يضطر فيه لاستخدام كلمات بذيئة، يعنى شتائم، أو بالعربي الفصيح تشاقيع فيعرفون بالضبط من أين هو.. وهذا يعني بالعربي الأندبوري: اسمعني تشقيعتك لأعرف اصلك.
في ذلك الأصيل دخل شعبان مع رفاقه الى مقهى "باب الحارة" الذي فتحه صاحبه يونس النابلسي واطلق عليه اسما حداثيا مأخوذا من المسلسل التلفزيوني السوري الشهير الذي شد اليه المشاهدين، من شتى الفئات الاجتماعية، مثقفين واميين، أطباء ومرضى، محامين ومجرمين، شغيلة وعاطلين عن العمل بالوراثة.. الخ. وقد ادرك النابلسي بحسّه التجاري الذي ورثه كابرا عن كابر ان هذا الاسم يلائم هذا الجسم ويجلب الشبان والرجال فكيف اذا احضر اختصاصيا وعلق على جدار المقهى شاشة كبيرة مثل شاشة سينما ديانا، أيام كانت في مدينتنا دار سينما تشاهد بها العائلات افلام "لحن الخلود" و"أبي فوق الشجرة" في المساء ويشاهد بها السواعير افلام الكارتيه وأفلام "الهشّك مشّك"- يا عيب الشوم- في ساعات النهار فتحمر وجوههم واذانهم وتنشغل راحاتهم ويراقبهم ابو ميشيل ويهز رأسه.
وكان الطقس حارا وكان المقهى مكتظا بالشبان الذين توافدوا قبل موعد مباراة كرة القدم ليأخذوا الاماكن المريحة والمناسبة. وكان شعبان يجلس مع شلته يتلذذون بشرب البيرة المثلجة ويدخنون سجائر المارلبورو من العلب الحمراء ويتناقشون حول المباراة واللاعبين. من سينتصر ومن سيهزم ومن سيسجل الاهداف، هل فريق ريال مدريد ونجومه امثال راؤول الاسباني وروبينيو البرازيلي وسنايدر الهولندي او فريق برشلونة ونجومه الولد الصاعد ميسي الأرجنتيني ورونالدينيو البرازيلي وهنري الفرنسي؟ من سوف يحقق الفوز ويتصدر لائحة الدوري الاسباني؟
كان الشبان يحفظون اسماء اللاعبين ويعرفون مقدار ما يتقاضاه كل لاعب باليورو وبالدولار ويعرفون عدد الأهداف التي سجلها كل لاعب، ولو سألت واحدا منهم اثر واحد ما اسم ملك اسبانيا او اسم رئيس حكومتها او سألته من هو لوركا او من هو سرفانتس لسخر منك واعتبرك جاهلا او اهبل او دقّة قديمة واذا كنت جريئا ولا تخاف من الشتائم فقد تغامر وتسأل أحدهم: هل يلعب نجيب محفوظ في التركيب الاول او الاحتياط؟؟
في خضم هذا الجو كانت صور اللاعبين من الفريقين تظهر على الشاشة في لقطات مثيرة بينما يتحدث المذيع الرياضي عن عمر اللاعب والفرق التي لعب بها وعندما بدأ المذيع يتحدث عن لاعبي برشلونة وعن اللاعب الشاب الصغير ميسى قال شعبان بصوت مسموع: هس.
كان شعبان من مؤيدي الفريق ومن المحروقين عليه. يشاهد مبارياته على التلفاز ويقرأ اخباره في الصحف الرياضية- شعبان لا يقرأ الا الصفحات الرياضية من الصحف- ويعرف اسماء اللاعبين في التركيب الأول واسماء لاعبي الاحتياط واسماء اللاعبين الذين لعبوا في السنوات السابقة في صفوف الفريق وتركوه لصالح فرق أخرى، كما يعرف اسم المدرب واسماء اعضاء الادارة ويعرف نتائج كل مباراة لعبها الفريق خلال عام او اكثر.
قال شعبان "هس" بصوت عال فسمعه الحاضرون الذين يجلسون حول الطاولات المجاورة ويتابعون الصور على الشاشة. ويعلقون عليها ويشربون البيرة المثلجة ويحرقون السجائر.
- شو يعني هس؟
جاء الصوت خشنا. وجاء السؤال حادا. فتحركت الرؤوس والاعناق والاكتاف للتعرف على صاحب الصوت.
حدق شعبان فيه فرأى النظرات الساخرة تطل من عينيه الذئبيتين، والابتسامة الجارحة تقعد على شفتيه السوداوين. انه كايد ابو دبوس. هو لا أحد غيره. القامة الطويلة والرأس الحليق بالموسى والسلسلة الذهبية الحلبية في العنق. والافعوان الأخضر على ساعده الأيسر المكشوف.
- ها.. شو يعني هس يا شاطر؟
شعر شعبان بالإهانة فأبو دبوس يستفزه ويصفه بالولد الصغير الطري.. يا شاطر..
- نريد أن نسمع ما يقوله المذيع.
رد شعبان بصوت هادئ فيه لوم وفيه شيء من الاعتداد بالنفس.
- اسمع ما تريد ولكن اياك ان تقول هس لأبو دبوس!
- لست مقصودا بها. لقد قلتها للجميع.
- أنا الجميع يا ولد.
- أنت تبحث عن مشكلة.
- انا بايعها بفجلة واذا جاوبت بكلمة بلعن.... .... ....
وكانت الشتيمة من العيار الثقيل. شتيمة جارحة وحادة ولها رائحة نتنة. شتيمة خارجة ممزوجة بالشراب. هزت جسد شعبان الشاب وغيرت لون وجهه القمحي فاحمرّ واصفرّ واغبرّ.
- تشتم أختي؟ 
رد شعبان بصوت جريح.
وتدخل الحاضرون. صلوا على النبي يا جماعة. طوِّل روحك يا كايد. المسألة لا يوجد بها تحدٍّ لا سمح الله- وشعبان قال هس بدون قصد. كلمة وطلعت من فمه. حط في الخرج يا شعبان. ولا يهمك يا بو الشعب.
ووقف شعبان وقال: لم يعد لي مكان هنا.
اخز الشيطان يا شعبان.
خليك معنا يا شعبان..
وغادر شعبان باب الحارة غاضبا مثل رياح الخماسين.
الكلب. السافل. من أية مزبلة استخرج هذه الشتيمة؟ كيف ابتدعها؟ لو شتم أمي او ابي او.. او.. لكانت شتيمة عادية. هنالك شتائم يسمعها المرء يوميا، بعضها للمزاح وبعضها للدلع، وبعضها بحكم العادة. أما هذه فلا. لو شتم ابو دبوس عينها او رأسها او شعرها حتى أي عضو في المناطق الحرام من جسدها لكانت الشتيمة عادية وربما تمرُّ مرّ السحاب وينساها الناس الذين اعتادوا ان يسمعوا الشتائم يوميا من سائقي السيارات ومن اولاد الحارة ومن مشجعي الفرق الرياضية في الملاعب، ومن السياسيين ولكنها شتيمة من نوع جديد اختارت قطعة من الملابس. السافل لو قال: يلعن فستان أختك او منديلها او بنطلونها او تنورتها لكانت الشتيمة عادية.. ولكنه اختار قطعة حساسة، قطعة مستورة، قطعة مخفية تعمل العائلة جاهدة الا تبرز على حبل الغسيل. "يلعن كلسون اختك..".. تفو. لو قال سروال أختك لكانت الشتيمة أقل ايذاء. ولكنه نطقها بدون خجل او حياء وبوقاحة وبسفالة وبنذالة. وزيادة على ذلك فان الحقير نعت كلسونها... "يلعن كلسون أختك العفن..". العفن؟ ماذا يعني ابن الكلب بالعفن؟ ماذا يعني الكلسون العفن؟
يعني ان الأخت كذا مذا... يعني انها.. انها.. انها... طيب يا ابو دبوس.
وفتح باب الدار ودخل مثل العاصفة. كانت أمه تجلس على الأريكة تحوك له شالا صوفيا مزينا بألوان العلم الوطني وتشاهد على شاشة التلفزيون فيلما ليسرا وعادل امام. نظرت المرأة الى ابنها بقلق وتمتمت: خير ان شا الله.. خير؟؟
ورأته يتجه الى خزانة الحائط ويفتحها ويمد يده ويتناول الخنجر المجدلاوي المدفون في سجادة الصلاة العجمية التي اهدتها اياها الجارة أم الياس بعد عودتها من زيارة القدس في عيد الميلاد الأخير.
استل شعبان الخنجر من غمده وحدق في نصله الحاد اللامع ثم اعاده الى الغمد والتقت نظراته بنظرات أمه...
- اخز الشيطان يا شعبان!
وتعلقت الأم بملابسه في محاولة لمنعه من الخروج.
فتخلص من يديها ومشى مثل الريح.
- برضى الله ورضاي عليك يا شعبان اخز الشيطان.
واختفى في الزقاق هابطا من السوق الى الكازانوفا في طريقه الى المقهى هناك على طرف المدينة، فلا بد ان يعرف ابو دبوس ان أخت شعبان لا تشتم وان للناس شرفا وكرامة وان اللسان الذي يجرح عرض الآخرين يجب ان يقصَّ والى الأبد. هذه السفالة نشاز وغير معهودة.. ولا بدّ..
والمنية ولا الدنية يا شعبان.
والدم يغلي في عروقه. وشعبان يمشي.. مسرعا... مسرعا. والناس في الزقاق وفي الشارع وامام البيوت وفي حوانيت البقالة.. بعضهم رآه.. وبعضهم لم ينتبه اليه.. والبعض لاحظ ان مشية الفتى غير عادية.. والبعض سمعه يتمتم ويبربر بكلمات غريبة. دبوس. السافل المنية ولا الدنية.. لا بد.. لا بد..
- اخز الشيطان يا شعبان.
قالها البعض ممن يعرفونه وكلما سمعها الفتى ازداد اصرارا على طعن كايد ابو دبوس.
كان يمشي ويتحسس الخنجر ليتأكد من وجوده. ووصل الى مقهى باب الحارة ودخل..
كان الحاضرون يصفقون ويصرخون فرحين بالهدف الذي سجله اللاعب ميسي في شباك مرمى ريال مدريد.
ودخل بين الحاضرين ولم ينتبه اليه أحد.
ووصل الى طاولة غريمه.
- خذ يا سافل.
وعلا الصراخ..
وعلا...
وبعد سبع وعشرين دقيقة، كما اكد الهاتف الجوّال الذي في يد النابلسي، وصلت سيارة الاسعاف ثم بعد اربع دقائق وصلت سيارة الشرطة.
وفيما كان الشرطيون يقودون الفتى شعبان مكبَّلا بالحديد اقترب منه أحد الشبان وقال معاتبا: فعلتها يا شعبان..
- شتم أختي بسفالة..
- ولكنك وحيد أبويك.. لا أخ لك.. ولا أخت لك.. يا حمار..
- صحيح. ولكن الناس لا يعرفون ذلك...
  قال بصوت قريب من الهمس.

محمد علي طه
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع