اللاساميّة، من هرتسل إلى غودار!



* الساميّة لا تشمل اليهود وحدهم، وقد لا تشمل كل اليهود. واللاساميّة ظاهرة حديثة نسبيًا، ارتبطت بالأوضاع الاجتماعية الاقتصادية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر *

يزور البلاد في هذه الأيام مخرجٌ فرنسي (يهوديّ الأصل) يُدعى ألين فليشر، حيث يُعرض فيلمُه "مقاطع من محادثات مع جان لوك غودار" في سينماتك القدس وتل أبيب. وعلى هامش حديث أجراه معه الصحافي أوري كلاين من "هآرتس" (الثلاثاء 19 شباط)، اتهم فليشر بطلَ فيلمه، غودار - وهو أحد أهم المخرجين على صعيد فرنسا والعالم، والأب الروحي لما يسمى بـ"الموجة الجديدة" السينمائية - باللاساميّة!
لماذا؟ سؤال وجيه. والجواب هو لأنّ غودار قال ذات مرّة، في استعارة سينمائية لافتة، إنّ الإسرائيليين هم "فيلم خيالي" والفلسطينيين هم "فيلم وثائقي".

 

 

• الساميّون واللاساميّة


الساميّون، تاريخيًا (أو بالأحرى: توراتيًا)، هم نسل الرفيق سام (ابن الرفيق نوح) من العرب واليهود وغيرهم. أي أنّ الساميّة لا تشمل اليهود وحدهم. وهناك مِن الباحثين والمؤرِّخين مَن يذهب إلى أن ليس كل يهودي هو ساميّ بالضرورة، على أنّ أعدادًا كبيرة من الأفراد غير الساميّين قد تهوّدوا على مرّ الزمن.
واللاساميّة، كظاهرة، حديثة نسبيًا؛ بالكاد مضى عليها قرنٌ وربعُ القرن. فقد ظهرت في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، وارتبطت بالأزمات السياسية والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية وبالتطوّر الرأسمالي إلى مرحلة الإمبريالية المبكّرة (يُنظر إلى مؤلـَّـف د. إميل توما، المرجعيّ حقًا، "جذور القضية الفلسطينية").
ومن مظاهر اللاساميّة شيطنة اليهود ووصمهم بصفات البخل والانغلاق والجبن والاستغلال وغيرها.
وهذا كلـُّـه - يتوجّب التذكير - حدثَ في السياق الأوروبي حصرًا، وهو بعيد وغريب عن الحضارة العربية الإسلامية التي ازدهر فيها اليهود ثقافيًا واقتصاديًا ولم يعانوا من العنصرية الشعبية والمؤدلـَجة التي ذاقوا ويلاتها في أوروبا.
وقد استُخدم مصطلح "اللاساميّة" لأول مرّة بعد الحرب البروسية الفرنسية، التي أدّت إلى انهيار العديد من الرأسماليين الألمان وجعلتهم يلقون اللوم على اليهود.

 

• اللاساميّة والصهيونيّة


في كتابه الشهير "دولة اليهود"، يقول مُؤسِّس الحركة الصهيونية ومُنظِّرها الرئيس ثيودور هرتسل، صراحةً، إنّ "اللاساميّة هي التي جعلت من اليهود شعبًا رغمًا عنهم على مَرِّ التاريخ". أي أنّ التاريخ، حسب هرتسل على الأقل، بدأ أواخر القرن التاسع (وليس أواخر القرن العشرين كما يخال البعض في أوساط أقليّتنا الأصلانيّة)!
ولكن هذا لم يمنع الحركة الصهيونية من مغازلة قوى "لاساميّة" في مطلع القرن العشرين لكسب الدعم لأطماعها الكولونيالية في فلسطين. ولم تحرّك الحركة الصهيونية ساكنًا إزاء المذابح النازية ضد يهود أوروبا في الثلاثينات والأربعينات، واستثمرت مواردها المالية والسياسية كلـَّـها في مشروعها الاستيطاني.

 

• اللاساميّة وإسرائيل


واليوم، تحاول إسرائيل استغلال عقدة الذنب وتأنيب الضمير في أوروبا، لإخراس كل صوت ينتقد سياساتها وعنصريتها، عبر اتهامه باللاساميّة.
وتعتبر وزارة الخارجية الإسرائيلية في موقعها الرسمي أنّ اللاساميّة تنعكس في "الادّعاء بان دولة إسرائيل هي كيان عنصري"؛ وفي "ازدواجية المعايير (التي) يتم من خلالها توجيه مطالب لإسرائيل تخص تصّرفها وعدم توجيه مثل هذه المطالب لأي دولة ديمقراطية أخرى"؛ وفي "المقارنة بين سياسة إسرائيل الراهنة وسياسة النازيين". ومن الواضح أن لا علاقة لهذه المسائل باللاسامية حتى بمفهومها الحديث (الأوروبيّ المنشأ)، وأنّها ليست سوى مظهر آخر من مظاهر الاستغلال الصهيوني الرخيص للاضطهاد البشع الذي لاقاه يهود أوروبا، لتبرير وتحجيم ما يُقترف من جرائم، باسم اليهود ودولتهم، بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.

 

هكذا، باقتضاب شديد جدًا، أضحى غودار لاساميًا!

رجا زعاترة
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع