شادية الأشهب التي غابت قبل الأوان



     كيف تتقاطع مصائر البشر! كيف يلتقي الناس على غير موعد! كيف لا يلتقي الناس في اللحظة الأخيرة! كيف تشتبك المصائر! وكيف تتشابك العلاقات! تلك مفارقات الحياة التي ما زالت تشكل نبعاً لا ينضب لغنى الحياة، وتشكل في الوقت نفسه مادة لا تنتهي للقصص والروايات وكتب السيرة والأفلام، وللمسرحيات ومسلسلات التلفاز.
     كنت أتساءل حول ذلك كله، وأنا أبحث في بلدة بيتونيا المتاخمة لرام الله، عن بيت حيدر أبو غوش. كان ذلك اليوم ماطراً. المطر يهطل دون توقف على بيتونيا وعلى حدائق بيوتها وشوارعها وساحاتها، وعلى الجبال المتاخمة لها وعلى السهول والوديان. وكنت أقود سيارتي وأتوقف بين الحين والآخر، حينما أرى شخصاً ماشياً تحت المطر، أسأله عن بيت حيدر، أسأله عن الحي الشرقي. أخيراً دلني شخص على الجهة التي يقع فيها البيت.
     وكنت قد زرت من قبل بيتاً سكنه حيدر في البيرة، على مقربة من الشارع الرئيس الذاهب إلى نابلس. يومها ذهبت إلى هناك صحبة أبي بشار، وآنذاك رأيت شادية للمرة الأولى. بقينا في البيت قرابة ساعة وخرجنا، وقد نسيت الآن لماذا ذهبنا، أبو بشار وأنا، إلى بيت حيدر في ذلك اليوم الحار من أيام الصيف. كانت شادية كما أتذكرها الآن، في عز تفتحها على الحياة، وكانت لها ابتسامة لا تفارق محياها.
     واليوم، في هذا اليوم الماطر من أيام كانون الثاني العام 2008، لم تعد شادية على قيد الحياة. كانت قد سجيت في مثواها الأخير في مدينة حيفا، هناك حيث ولدت وترعرعت حتى أصبحت شابة، وكانت رغبتها الأخيرة أن تدفن في المدينة التي ولدت فيها. هاتفت حيدر وهو يتقبل العزاء فيها في حيفا. قدمت له واجب العزاء، وهاتفت عمه أبا عدنان، جاءني صوته ممتلئاً كعادته بالمودة والنبل. قدمت له واجب العزاء في ابنته التي رحلت في الوقت الذي كانت تتهيأ فيه للتمتع ببعض  الراحة من شظف العيش المترسب من فترة سابقة. لم يترك لها المرض مهلة لكي تحقق رغبتها المشروعة في حياة هادئة.
     كان ذلك أمراً فادحاً للأب وللزوج وللأولاد. حيدر كان يتطلع إلى مستقبل لها وله يرتاحان فيه مع الأولاد والأحفاد. كان قد هيأ لها وله سكناً مريحاً لكي تكون لهما أيام صافية مثل ماء رقراق، غير أن الموت قلب كل المعادلات وأطاح بكل الأماني، وجعل التأسي على الفقيدة الراحلة، هو آخر تجليات  المشهد المفجع في ذلك الطقس الشتائي الكئيب. الطقس الذي يبدو متناغماً مع طقس الموت من وجهة نظر الشخص الحزين: فثمة غيوم مدلهمة في السماء ومطر نازل من السماء، وثمة على الوجوه في بيت العزاء تجهم وحزن وألم، يزيده ألماً ذلك التجهم الذي تبديه السماء! ولكن، ما العمل! فهذا هو حال البشر الذين سوف يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة!
     أقود سيارتي وأهتدي إلى بيت حيدر الذي أدخله للمرة الأولى، وأتذكر أن المرة الثانية التي قابلت فيها حيدر ومعه شادية، كانت في بيت أبي بشار في بيت صفافا. كنت ذاهباً أنا وزوجتي ذات مساء إلى هناك لتقديم واجب العزاء في واحد من أخوة أم بشار. جاء حيدر وشادية ونحن هناك، ولم يكن يخطر ببال أي واحد منا في تلك الليلة، أن شادية سوف ترحل بعد ثلاث سنوات من ذلك اللقاء.
     صعدت الدرج المفضي إلى البيت وأنا أحاذر الانزلاق، كان ثمة شباب من أقارب حيدر عند الباب. قدمت واجب العزاء لحيدر، وتسامرت معه ومع أصدقاء آخرين كانوا هناك في بيت العزاء. تحدثنا قليلاً في السياسة كما هي عادة الفلسطينيين في مثل هذه المناسبات، تحدثنا قليلاً عن بعض الذكريات التي يهيجها الموت، واجتماع الأصدقاء والمعارف بعد طول انقطاع. وكنت أرى الحزن في عيني صديقي الذي فارقته زوجته العزيزة وهي بعد في الخامسة والخمسين.
     تذكرت وأنا أقرأ كلامه على لقائهما الأول في براغ العام 1972 ، أنني كنت في ذلك العام بالذات على وشك أن أغادر القدس إلى براغ. كتبت عن ذلك في كتابي الأخير "مرايا الغياب". كنت سأذهب إلى هناك لتمثيل الحزب في قيادة اتحاد الطلاب العالمي، غير أن قيادة الحزب في الأرض المحتلة لم توافق على سفري إلى الخارج. في ذلك العام كان الطالب الفلسطيني ابن عمواس القادم من رام الله إلى براغ لتلقي العلم فيها،  يقع في حب الفتاة  الفلسطينية القادمة من حيفا إلى براغ لتلقي العلم فيها. يلتقي فلسطيني شاب وفلسطينية شابة، رغم عسف الاحتلال ومحاولاته تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني وتبديد هويته، في مدينة أوروبية جميلة، وتكون مراسم خطوبتهما في بيت عم الفتاة، الذي كان آنذاك قد أبعد لتوه من  السجن الإسرائيلي، ليقيم في براغ ممثلاً للحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية، تلك المهمة التي سأقوم باستلامها منه بعد خمس عشرة سنة. كان المحب وحبيبته قد تزوجا وأنجبا أطفالاً، وتخرجا في الجامعة وغادرا براغ قبل أن أصل إليها وأنا منفي في الخارج، فلم أتعرف إليهما إلا في ما بعد بسنوات.
     يا للروعة، كيف تتقاطع مصائر البشر! كيف يلتقون بالمصادفة! كيف لا يلتقون بفعل المصادفة كذلك! أتذكر ذلك كله وأنا أغادر بيت العزاء، وأترحم على أم ابراهيم، المرأة النبيلة التي أشعر الآن بعد غيابها، بأنني أعرفها جيداً رغم أنني لم أقابلها سوى مرتين طوال رحلة حياتها القصيرة. ذلك أنني كنت أسمع أخبارها من أقرب المقربين إليها وإلي: عمها العزيز الذي ربطتني به وما زالت تربطني به رحلة نضال طويلة. وكنت في الوقت نفسه على صلة، بالقدر الذي كانت وما زالت تسمح به الظروف، بوالدها العزيز الذي كان ما وما زال ذخراً لنا أجمعين.
لأم ابراهيم الرحمة ولزوجها ولذويها من بعدها طول البقاء.

محمود شقير
السبت 23/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع