نجيب



      عندما قال لي : أكتب ! كان ذلك قبل حوالي الأربعين عاما. في تلك الأيام كنت قد نشرت في صحيفة "الاتحاد" حكاية هندية لا اذكر مصدرها الآن. تقول باختصار شديد: انه في يوم من الأيام وقعت ضفدعتان في برميل مليء  بالحليب. قالت الأولى: ليس الحليب كالماء، فأجابتها الثانية: وليس الماء كالحليب لكن من يجيد السباحة يجيدها في كل الظروف..في الماء و الحليب و السمن والعسل و القطران... ثم أردفت: لا بأس حاولي يا عزيزتي و جرِّبي !!
لكن هذه سلَّمت بالقدر ثم يئست فغرقت و ماتت .. بيد أن الثانية لم تسلّم و كافحت و ظلت تسبح في الحليب الليل جميعه حتى أغمي عليها... في الصباح التالي أفاقت، و إذ بها تطفو على طبقة من القشدة فقفزت من داخل البرميل إلى فضاء الحرية.
     ظلت هذه الضفدعة المكافحة شعاري منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ... على الرغم من أنني لا أعاند القدر لمجرد العناد، لكنك تراني أتحايل عليه ، فإذا انسدت طريق الشمال آتي من الجنوب ، وإذا انسدت طريق الجنوب آتي من الغرب أو من الشرق أو من تحت الأرض أو من فوقها  .. و كنت و لا زلت اعتقد أن هنالك ما لا نهاية من البدائل إذا ما استعملت عقلي و أدواتي وموروثي المعرفي المتراكم.
واعتقدت وما زلت اعتقد أن الاستسلام للقدر يؤدي إلى اليأس، و اليأس يؤدي إلى نهاية محتومة ، فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة ... مفاده.. أن علينا دائما المحافظة على جذوة المقاومة .. على روح المقاومة وعلى البحث الدائم في كل شيء عن  أين ومتى وكيف ولماذا... علينا دائما أن نسأل طالما أننا على قيد الحياة من الأمير إلى الغفير.
تذكرت هذه الحكاية اليوم لأني تذكرته .. وهو من رفاق الحزب الشيوعي القدم . إنسان بسيط أنهى الابتدائية بصعوبة ونزل إلى السوق للعمل منذ نعومة اظفاره . عمل في تكنيس مخفر الشرطة بالناصرة ثم فهودجيا بذات المخفر في بناية المسكوبية بالناصرة في زمن الانتداب البريطاني . وانخرط في صفوف الثورة و المقاومة سرا ... وبحسب طلب وإرشاد عمه رافع الفاهوم ووكيل أعماله توفيق المحمد (أبو إبراهيم الصغير) كان يسرق الرصاص و الخرطوس و الفشك و القنابل و ما ينفع الناس و الذي يمكث في الأرض من مكان عمله. كان يضع هذه الأشياء في حاويات النفايات .. و الى المزبلة كان يأتي رفاقه الثوار يفتشون.. يبحبشون و يلقون ما يفيدهم في المقاومة الحقيقة و كانت الطريق واضحة المعالم وكان ذلك قبل أن تعمّ الفوضى ويُقتل رافع قتلا عشوائيا وتعمّ العصبية و النزاعات الداخلية على أتفه الأسباب ...
     تذكرته و هو ربعة في الرجال.. و تذكرت بقالة الشعب  التعاونية في الخمسينيات من القرن الماضي عندما كنت طفلا .. تذكرت أصالته و تخليصه قضايا التأمين الوطني لمن لم يكونوا من الذين يفكون الحرف .. تذكرت اللقب الذي أسبع عليه "أبو الشعب".
تذكرت الآن ما قاله لي أخي وصديقي عبد الله إستيتي : إن اثنين أثَرا على مجرى حياته وعلى بلورة شخصيته ووعيه .. واحد اسمه نجيب الفاهوم وواحد اسمه طه البيومي .
     أما الآن فان خسارتي أني لم اكتب هذا في حياته . رحمك الله يا نجيب الذي  قلت لي ذات صباح:  أُكتب ! و هاأنذا أكتب.

وليد الفاهوم
الأربعاء 20/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع