حكاية من بلدي
صفحات ناصعة من تاريخ الحزب الشيوعي



يحكى ان السلطات الاسرائيلية ، فرضت على  المواطنين العرب في مطلع الخميسنيات من القرن الماضي ، ضريبة عرفت بضريبة الراس ، وفرضت دفع خمس  ليرات على النفر الواحد فكانت ضريبة مجحفة في شكلها وباهظة في مضمونها ، غير عادلة . ويحكى ان السلطات ارسلت موظفا يدعى "ابو يعقوب" جابيا لتلك الضريبة في القرية اختارته فارع الطول ، ضخم الجسم ، عبوس الوجه فظا لا يعرف الرحمة بتاتا .
انتهى الموسم ، فانتهى ابو قاسم من جمع المحصول من الحنطة، والشعير، والسمسم ، والبطيخ، شأنه شأن كل الفلاحين ، خزّن ما هو ضروري للعائلة من القمح للطحين والبرغل، اما الشعير فعلفا للبهائم . وما تبقى وهو ان النزر اليسير قرر بيعه وقبض بعض الليرات لشراء الحاجات الضرورية الحيوية الاخرى من  ملح وسكر وغيرها .
انتهى الموسم ، وبانتهائه توقفت حركة العمل ، توقف النشاط ، وعم الفراغ وساد الضجر وطغى الكسل . البطالة متفشية ، ومستفحلة ونظام تصاريح التنقل من الحاكم العسكري نظام جائر وتعسفي، حدد حرية التنقل والتجول. وكان الحصول على تصريح غاية صعبة المنال ، واخذ ابو قاسم يتسكع كغيره من الرجال يرتاد الدواوين التي تعج وتغص بأمثاله من الفلاحين وهي كثيرة، فكل حمولة او حارة لها ديوانها او مضافتها او منزلها تأوي من اراد من الرجال . وسائل الكيف في الصيف متوفرة ، وفي متناول اليد فموسم قطف اوراق التبغ وتجفيفها في اوجه ، القهوة السادة في الدواوين متوافرة. يلتقي الرجال في الدواوين يتحدثون ما طاب لهم الا في السياسة فلا يجرؤون على ذلك ، فسيف الارهاب مصلط على رقابهم ، فالعملاء والمتعاونون مع الحكم العسكري "والضابط  الشويلي" ، منتشرون وكثيرون فمن احاديثهم التافه والضحل ، ومنه الفكاهي المشوق والمسلّي . وكان ابو قاسم رغم تقدمه في السن احنى ظهره الكد  ، جوالا بغريزته يعشق  ارتياد الدواوين والمضافات ، وبفطرته كان سريع البديهة، سليم المنطق، فكاهيا وعلى السليقة ، جعبته غنية دائما بالنكت والحكايات والمقالب المسلية ، خفيف الظل في ادائه فخور بإبائه .
وذات يوم دخل ابو قاسم ديوان المختار وكان مكرما عنده ومبجلا ، رشف فنجان القهوة السادة وجلس واذ بالمختار يزف "للجلساء من الرجال في الديوان نبأ ابلغه به الحاكم العسكري عن فرض ضريبة على الراس " وبأن السلطات عازمة على جبايتها ، وبعد ان استرسل المختار بالشرح واطال الحديث عنها وبعد موجة الاستفسارات من الجلساء نهض ابو قاسم من مجلسه واقترب من مجلس المختار يسائله بأن يحسبها له ثمانية انفار هو وزوجته فكم سيكون الاستحقاق للدفع، حسبها له المختار تساءل ابو قاسم باستجهان على الاستحقاق مرة اخرى ، فولول ، وندب وفرك يديه ولطم كفا بكف ، شخص الى السماء، وفتح يديه وهو يتضرع بان يخرب الله بيوت اولاد الحرام، نهض ابو قاسم كمن لدغه عقرب ، وخرج من الديوان مغموما شاحب الوجه وترك الديوان في هرج ومرج من الاستياء وشدة الصدمة فقالوا انها ضريبة ضيزى ،  يتساوى فيها الغني والفقير انتقل ابو قاسم ودخل ديوانا وارتاد آخر ، ومن مضافة الى اخرى ينشر ما سمعه من المختار خبرا طازجا ، ومنهم من صدق ومنهم من كذب واعتبروها مزحة من مزحات ابو قاسم .ما هي الا  ساعات اذ  انتشر الخبر في القرية كانتشار النار في الهشيم ، وظل الخبر يراوح ما بين مصدق ومكذب حتى جاء الجابي ابو يعقوب ذات يوم وحل ضيفا على المختار يحمل بين يديه ملفات احصاء السكان فقطع الشك باليقين ، كثف ابو يعقوب زياراته التي تزامنت بانتهاء الموسم الزراعي على علم ودراية ليسلب الفلاح البسيط ما جناه من ريع يسير من كده وكدحه فاستعصى على المواطنين الدفع فعصوه.
جلس ابو قاسم في احد الايام يفترش قصالات على البيدر احتفظت بها ام قاسم لاشعال الطابون يتظلل بظل شجرة كينا باسقة ، وارفة الظلال ومن خلفه عشرات اشجار التين بانواعها المختلفة وطعمها اللذيذ واشجار الصبار تحيط بالحاكورة ، ومن حوله شاتان وعنزة ، حلوبات تدر الحليب للعائلة عارك ابو قاسم الايام فاحب الحياة ، وشغف بها وعارك الزمان فاحنى ظهره ، وعارك الفقر فنال منه الكد فترك التجاعيد في وجهه ورسمها كأنها اخاديد من صخور جلس على القاصولات يتمتع بمنظر بقراته في الحوش وهي تتناطح ، ويترنم على صهيل فرسه وهي تدور وتلف تصهل وترفع عقيرتها. في هذه اللحظات من الاستمتاع والغبطة والهدوء وفي قيلولة في يوم من ايام الخريف الحار والجاف دهم ابو يعقوب بيت ابو قاسم يرافقه الشرطي "ضيف الله" لدفع استحقاق خمسين ليرة فوقع فريسة في يدي الجابي وما كان يقلقه ويخشاه تحقق . احتدم النقاش بين الجابي وابو قاسم واشتد الخلاف . وعلا الصراخ  وباءت جميع محاولات ابي قاسم الرافضة وتوسلات ام قاسم بالفشل واصر الجابي "ابو يعقوب " اما الدفع والانصياع واما احتجاز كل شيء. خضع ابو قاسم ورضخ فلا حول له ولا حيلة فركب حماره وغاب وظل الجابي يحتل البيت ريثما عاد وام قاسم ظلت تذرف الدموع تتحرك  ذهابا وايابا ، حزينة تلطم على صدرها وتتمتم بكلمات تعبر فيها عن سخطها وحقدها وتتمنى الانتقام من الظالم ، تكررت موبقات ومظالم الجابي وما حدث لابي قاسم حدث للكثيرين . فعم الغضب والاستياء وطغى السخط واقدم الرجال على الهرب عند اعلان الناطور عن قدوم الجابي يفرون ، يتراكضون هربا بقضهم وقضيضهم الى خارج القرية بحثا عن ملجأ او ملاذ ، فتشغر الدواوين من الرجال وتخلو المضافات ولم يبق في الحارات الا النساء والاطفال والبهائم فقد ابهظ عبء الضريبة الناس ونغص الجابي بتصرفه الفظ حياتهم .
"بلغ السيل الزبى "  " وبلغت السكين العظم " من الجور والاجحاف، واضحت حياة الناس جحيما وهمّا وغمّا . نهض رفاق الحزب الشيوعي لرفع ذلك الضيم ، وشدوا العزم لتخليص الناس من تلك المظلمة ، وتصدوا للسلطات لمحو غم البؤساء وانتزاع هم الفقراء . فكان قرارهم شجاعا لما ينطوي على مضامين انسانية نضالية وما ينم عن تحد جريء ، لجلاوزة الظلم والاضطهاد ، فاعلنوا الاضراب لطلاب المدرسة الابتدائية . انيطت مسؤولية انجاح وقيادة الاضراب الى عدد من رفاق الشبيبة الشيوعية .
وفي صبيحة يوم التاسع من آذار سنة 1954 وقف اعضاء الشبيبة الشيوعية بجرأة وفي تحد لعسف الظالم ، ينشرون قرار الاضراب بين زملائهم الطلاب ينشادونهم التأييد والتنفيذ وهم الطالب توفيق ابراهيم كناعنة ، عمر محمد سعدي والطالب سعيد خليل ياسين والطالب محمود مصطفى بدارنة والطالب احمد مصطفى كناعنة وقفوا بلا خوف او وجل من غطرسة الضابط الشويلي والحاكم العسكري .
تقاطر الطلاب  الى ساحة المدرسة زرافات ووحدانا وكان الجو ربيعيا ناعما لطيفا ، نسمات ربيعية تهب تلفح وجوه الطلاب ورائحة ازهار النرجس التي اكثر من زراعتها معلم الزراعة تعبق في الساحة ، تتمازج برائحة براعم اشجار اللوز المنبعثة من الحديقة الى الساحة . غصت الساحة بالطلاب واخذوا يلهون فرحين ليوم عرس كفاحي نضالي، وعلامات السرور بادية على وجوههم ازفت الساعة الثامنة قرع المعلم المناوب الجرس ايذانا بدخول الطلاب الى غرف الدراسة فانطلق اعضاء الشبيبة الشيوعية من الساحة في مقدمة المئات من الطلاب الذين لبوا النداء الى الشارع الرئيسي ، تنفيذا لقرار الاضراب، رفعت الشعارات وعلت الهتافات لتسقط "ضريبة الراس " المجحفة ، ليسقط الحكم العسكري البغيض ، طافوا شوارع القرية وحاراتها ووقف الاهالي في الشوارع يؤيدون الطلاب وانتهت المظاهرة في اجتماع حاشد للطلاب المتظاهرين  في ساحة المسجد في القرية ، تحدث في الاجتماع كاتب هذه السطور شجب فرض الضريبة وطالب بالغائها وشجب سياسة السلطات العنصرية التجهيلية نجح الاضراب ونجحت المظاهرة .
اغضبت المظاهرة المختار وهزت الضابط الشويلي من الاعماق وقضّت مضجعه ، تبدد الخوف وتبخر الرعب والارهاب الذي حاول جاهدا زرعه في نفوس الناس وجن جنون الحاكم العسكري واستهدف الثلاثة النيل من صمود الشيوعيين ، وكسر شوكتهم والانتقام من مؤيديهم ، وفي صبيحة اليوم الثاني للاضراب استدعى الحاكم العسكري في شفاعمرو للمثول في مكتبه عددا من كهول وشيوخ القرية اذ حمّلهم مسؤولية ما حدث من "فوضى وشغب" بما قام به ابناؤهم ولأن سن الابناء دون السن القانونية حيث لا تجوز محاكمتهم . فكان المدعوون هم ابراهيم احمد كناعنة ، علي قاسم نصار محمد موعد بدارنة ومحمد عبد الرحيم السعدي ومصطفى ابراهيم كناعنة ، وعبد القادر يحيى نصار ، وعبد القادر خليل ياسين ، وعبد الرحمن محمد العبد ، وحسن نصار بدارنة ، ومن اعضاء الحزب الشيوعي سليم ابراهيم كناعنة وابراهيم شكري شمشوم ، ومحمد شاكر خطيب ، وكايد خليل موسى كناعنة . استصدر الحاكم العسكري امرا يقضي عليهم اثبات الوجود ستة اشهر في مركز شرطة مجد الكروم حيث يبعد 30 كم ذهابا من عرابة طريق ارض المل منطقة 9 وايابا ومرتين في اليوم في الساعة الثامنة صباحا وفي الساعة الرابعة بعد الظهر اما الشيخ ابراهيم احمد كناعنة فرفض الانصياع لامر اثبات الوجود ، فحكم عليه شهرين بالسجن الفعلي، تضافرت الجهود لالغاء ذلك الحكم الجائر التعسفي تكللت الجهود بالنجاح فاضطرت السلطات الى الغاء الحكم امام موجة الاحتجاج عن بعض الكهول وظل ساريا على الشيوعيين والكهل محمد عبد الرحيم السعدي الذي اثار قضيته عضو الكنسيت توفيق طوبي في لجنة الداخلية فجاء الاعفاء متأخرا بعد اثبات وجود خمسة اشهر . تشدد الحاكم العسكري في ملاحقته الاعضاء الشيوعيين فحكمت عليهم محكمة عسكرية مدة  شهرين بالسجن الفعلي لتغيبهم يوما واحدا بسبب اجراء مناورة عسكرية في ارض المل وبعد قضاء مدة الـ ستة اشهر حكم عليهم مرة اخرى بالسجن الفعلي لمدة شهرين بذريعة التحريض على الاضراب  . اثمر النضال وتكلل بالنجاح بالغاء الضريبة المجحفة كليا  في تلك السنة عن كاهل كل الجماهير العربية في اسرائيل .

(عرابة)

عمر سعدي *
الأربعاء 20/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع