"التوبة مقبولة.. إن شاء الله"



دخل دون ان يطرق الباب او يستأذن، وجلس قبالتي وانا منهمك في محادثة تلفونية كانت مهمة وضرورية جدا. وضع رأسه بين كفيه واطرق في الارض، لم اعرفه وتابعت المحادثة وفجأة لاحظت ان دموعه تنساب من تحت نظارته السوداء الكبيرة التي غطت عينيه، فقطعت المحادثة رغم اهميتها وسألته منفعلا: عفوا ايها الاخ لماذا تبكي؟ وماذا استطيع ان اساعدك؟ فلم يجب. واستمر مطرقا رأسه في الارض، وظننت – الله يخزي ابليس – لاول وهلة انه من المدمنين على المخدرات وجاء يطلب بعض الشواقل لشراء وجبته الضرورية – الله يُستر.
وعاودت السؤال ثانية وثالثة فلم يجب، وفجأة انتفض وتقدم نحوي وضمني بقوة وأخذ يعانقني بحرارة ويبكي ثم سألني: ألم تعرفني يا رمال؟ فكدت اصرع.. الصوت ليس بالغريب عني ولكني لم اسمعه منذ زمن بعيد، فازحت النظارة عن وجهه لأرى عينيه وجمدت في مكاني.. وفجأة وجدتني ابكي ايضا وأردد كلمات غريبة.. بلى، بلى الآن اعرفك يا، يا عدوان يا عادي، سامحك الله – اجلس اجلس.
فهرول نحو الباب واقفله وقال وهو يتنهد: اريدك وحدك اريد ان اتحدث اليك. جلس عدوان وسيطر الهدوء التام، فقدمت له كأسا من البارد وقلت له هدئ من روعك، لكنه عاد واجهش بالبكاء، ثم قدمت له كأسا اخرى من الشراب وبعدها القهوة، وقلت له بصراحة نحن رجال ولا حاجة للبكاء، افصح عما لديك علني استطيع ان اساعدك.
اخذ عدوان ينظر الي ويتفحصني ثم قال: ارجوك ان تسامحني يا صاحبي ان كنت تقبل أني صديقك وان تسمع قصتي وان.. وان تنقذني اذا بقي امل في ذلك. هات يا عدوان هات.
اتذكر يا محمد يوم خرجنا قبل اكثر من ثلاثين عاما، يوم كنا اولادا صغارا لم نتجاوز العشر سنوات، انت، اسعد، جميل وانا نصطاد العصافير في وعر الخربة التي لم تكن قد صودرت بعد من قبل السلطات الاسرائيلية العادلة!! وجلسنا نرتاح ونتحدث ونحن اولاد صف واحد عن المدرسة وعن متابعة التعليم العالي وبناء مستقبل كل واحد منا. وعندما اصطدمنا بكابوس التجنيد الاجباري كنت انت الوحيد الذي أصر انه لن يخدم في الجيش لعدة اسباب، اهمها ان الخدمة القسرية لن تجدينا نفعا لنيل حقوقنا وانها مؤامرة للسيطرة على مقوماتنا الاجتماعية والاقتصادية ومن ثم سلب الاراضي.
اذكرها جيدا يا اخي وماذا بعد؟ فتابع عدوان: يومها انبرى لك المرحوم اسعد الذي تفاخر ان الخدمة هي شرف وحقا لن يتنازل عنه وانه البوابة لبناء مستقبل عسكري حافل وضامن، ولكن وللاسف الشديد قتل اسعد بعد ستة اشهر من تجنيده في حملة العدوان الاولى على لبنان. وايدنا جميل وانا موقف المرحوم متهمين اياك بالتخاذل والجبن لأنك صممت على مواصلة العلم.
وتمر الايام بسرعة البرق فاضطررت وانا يتيم الابوين والابن الاكبر بين ثلاثة اولاد، ان اذهب الى الكيبوتس لاعمل واؤمن لقمة العيش لاخوي ولي، فغرر بي وانجرفت نحو حياة الكيبوتس بكل ما فيها من حسنات وسيئات وفجأة وجدتني "اعبرن" اسمي من عدوان الى عادي لاسباب انت في غنى عن سماعها، وبين عشية وضحاها وجدت نفسي وبمحض  ارادتي منخرطا في الخدمة العسكرية مؤمنا انه واجب مقدس للدفاع عن الوطن "الوطن!!" وان الخدمة هي بطاقة الامان لمستقبل افضل، ولم اكن اعرف انها مؤامرة سلطوية فرضت علينا وبتضليل القيادات الدينية والزمنية آنذاك بأنها الضمان لنيل الحقوق والحفاظ على كياننا، لن ادخل في التفاصيل، وهي كثيرة ومثيرة، فرغم اني اتقنت الخدمة وترقيت الى بعض المراتب العالية، لكني لن انسى انه حتى وانا ارتدي البزة العسكرية، كانوا ينظرون الي كـ"جوي" حتى ولو اصبح اسمي عادي، ولكن الطامة الكبرى عندما وصلتني اوامر الامتثال امام المحكمة لمصادرة الارض التي اورثنا اياها المرحوم والدي والتي ورثها ابا عن جد، حضرت المحكمة بزيي العسكري ظانا ان ذلك سيساعدني عند القاضي، لكن سعادته لم يخجل ان البدلة العسكرية هي رمز وطنه اليهودي الا ان لابسها عربي فقرر مصادرة الارض بحجة ان نسبة الصخور فيها اكثر من 50%. ضاربا عرض الحائط بكل التوسلات والشروحات اننا كنا واهلنا نفلحها اجيالا بعد اجيال.
كانت تلك الضربة بالنسبة لي بدء الصحوة، فأخذت انتبه واتابع مشاكل قرانا وابناء طائفتي المعروفية، فكانت النتيجة الحتمية ان كل الخدمة كذب على مصبغة كما يقول مثلنا العربي العامي والواقع انها اضعفتنا اقتصاديا وعلميا وحتى اجتماعيا. اما القشة التي قصمت ظهر الجمل فكانت بعد تسريحي من الخدمة الطويلة، فكل باب طرقته للعمل كان ينظر الى الاسم والمسكن، وليس الانسان ومقوماته وطاقاته، فقد رفضت عدة مرات من القبول لعمل كوني عربيا "درزيا". وكانت النتيجة الحتمية ان الموضوع ليس شخصيا وانما هي سياسة مبرمجة تجاه الطائفة المعروفية، وخاصة بعد ان قرأت كتاب "طبق نحاس" للدكتور شمعون افيفي، فأقسمت انني سأتوب واعود الى جذوري العربية الاصيلة مهما كلفني الامر ذلك، واولها سأساند كل نضال لالغاء التجنيد القسري دون ان ادخل في تفاصيل ما معنى جيش الاحتلال واعماله المخزية المعيبة.
وما هو المطلوب مني يا عدوان؟ ان تساعدني هل سيقبلني مجتمعي اذا تبت؟ بكل رحابة صدر، اذا كانت توبتك خالصة وصادقة، لأن الله لا يعجزه شيء وثانيا ان الرجوع الى الحق خير من التمادي على الباطل، اما بالنسبة لي شخصيا فانت وانا اليوم اولاد العشر سنين ومن هنا نبدأ. وفقك الله يا اخي وقبل عودتك وتوبتك واعطاك العناية لخدمة ابناء بلدك وجلدتك. والله ولي التوفيق.

(يركا)

محمد رمال *
الأربعاء 20/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع