تدجين الفضاء



ألحداثة والدمقراطية والشفافية ليست حوانيت نختار منها ما نريد، فهي ذات أغراض جانبية لا بد من احتمالها حتى لو تسببت بالغثيان أو الطفح الجلدي، والإعلام العربي الذي أحرق مرحلتين أو موجتين ودخل إلى الموجة الثالثة بعد أن انعتق من شروط أرضية بالغة الصرامة، يثير الآن من السجال حول حدود حريته ما يضاعف من الالتباس سواء في النوايا أو الطرح، ويبدو أن لكل قيس ليلاه في هذه الدراما الفضائية، فثمة من يشدهم ألف حبل إلى الوراء، وثمة من يريدون كسر آخر قيد وقطع آخر لجام.
لكن هذه الأمور لا تستجيب إلى الرغائب، والعالم الآن غيره قبل عقود، والتسارع المحموم في تطوير أدوات الاتصال ألغى نمطا من التفكير كان يرتهن لرؤى ومواقف محددة، سواء صدرت عن نظم سياسية أو عن أحزاب أو تيارات سياسية وفكرية.
وعلينا أن نعترف بأن زمن النعامة التي تحمي نفسها بتخبئة رأسها في التراب قد ولّى والتاريخ لا يرحم من  يخلفهم وراءه تماما كما أن القانون لا يحمي المغفّلين والحمقى.
إن واقعا موضوعيا قد فرض نفسه على العالم بأسره وحكاية الفراشة التي تحدث زلزالاً أصبحت واقعية وليس مجرد أسطورة، كما إن الميديا العابرة للحدود واللغات والقارات لم تعد طيّعة لسياط السائس، لهذا فإن منطق الزجر والحجر لم يعد يصلح لمعالجة ظواهر بالغة التعقيد، ومنها بل في مقدمتها الإعلام بمختلف وسائله.
لكن علينا أن نعترف بأن فائض الكبت يؤدي احيانا إلى انفجارات غير محسوبة، هي أشبه بتسديد المديونيات وتصفية الحسابات ولهذه الحالات عمر يقصر أو يطول، لكن لا بد أن تنتهي عند حد بعده يستعيد الإنسان توازنه ويبدأ من الصفر وليس من المائة أو الألف تحت الصفر.
وما يسمى مواثيق الشرف قدر تعلقه بالصحافة والتلفزة ليس حبرا على ورق، أو قانون مرور يضبط حركة السير ويعطي للسيارات حقها وللمارة من المشاة حقوقهم.
هذا تبسيط بل تسطيح لأمر معقد، لأن إدراك الفرد لحدود حريته ليس منوطا بالقوانين فقط، بل تحدده تربويات، وأعراف قد يكون لها نفوذ القانون الصارم في بعض الأحيان، إن التعامل مع مفاهيم كبرى كالحرية والدمقراطية والشفافية لا تليق به هذه القسمة التي تحوله إلى كسور عشرية فما من ربع حرية أو نصف دمقراطية.
لهذا سيبدو المشهد كوميديا إذا تصورنا أناسا يضعون قدما في النصف الأول من القرن العشرين وقدما في القرن الحادي والعشرين، لأن اتقان المشيتين معا، مشية الحمامة والغراب ليس ميسورا لأحد خصوصا حين تكون موجة الميديا العاتية قد ضربت نوافذ غرف النوم وأزاحت الستائر.
ما من مناسبة يثار فيها شجن له صلة بالحريات وحقوق الإنسان إلا ويصطحب معه الظلال القديمة ذاتها، فنحن نطالب الناس بأن ينزلوا إلى البحر ونشترط عليهم ألا تبتل أجسادهم وثيابهم.
ونطالبهم بمواكبة العالم والتطورات التي تحدث فيه ونشترط عليهم أن يستخدموا عينا واحدة ويغمضوا الأخرى.
إن كل هذا الهلع من الحرية، مصدره تربويات احترازية، وثقافة هامسة تفضل النميمة على المواجهة، وتنسب الأفعال كلها إلى غائب أو مجهول.
ألإعلام العربي بكل فضائله ورذائله وأرضياته وفضائياته لايزال يعيش صدمة الموجة الثالثة، وسوف يخسر الرهان من ينتظر من عقارب ساعته أن تعود إلى الوراء.

خيري منصور
الثلاثاء 19/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع