ولا خلاص فردي!



     على ظهر سفينة عملاقة مشيت عشر دقائق هرولة بالطول وخمس دقائق بالعرض ... وهي على علو خمسة عشر طابقا.. وفيها من البشر ما لا يقل عن سكان قرية كبيرة. إنها اكبر باخرة في العالم حتى الآن. لا تتوقف.. تجوب المحيطات باستمرار.. تمخر بنا مياه المحيط الأطلنطي بعد أن تنفذ من مضيق جبل طارق.
بغرفة الطعام ذات الطوابق الثلاثة وفي ليال محددة على المسافر أن يرتدي التوكسيدو (الرداء الأسود ألمجنح من الخلف) أو السموكينغ الأسود والفراشة السوداء تحت الحنجرة. تجعله يبتسم.. وعلى النساء أن يتألقن كالفراشات بالأحمر والأزرق والأبيض الشفاف.. على النساء أن يطرن أو  يتعلّقن بأذرع أزواجهن.. والنهود تشرئب من خلف سياج الدانتيلا والحرير.. نهود من كل الألوان ومن كل الأحجام ومن كل الأجناس تنفتح على شبابيك الجسد.
وأنا اجلس أراقب المشهد بضجر، تتوهم صديقتي أنها هي التي سببته .. فاعتذر. اشعر أن طاقتي تنهدر بلا جدوى! واشعر بالفراغ الروحي... وأدرك فيما بعد.. أن الحلول الفردية لا تجدي إلا إذا كانت من خلال الجماعة.. أوقن أن سفري وإبحاري مجرد هروب وأنني حين أعود اكتشف كم كنت غبيا، على الرغم من متعة السفر.
فعلى الرغم من أن الرحيل ليس كالارتحال.. أدرك أن الإنسان حيث ينبت.. حيث ينمو كالثمر وحيث يعلق ويتعلّق.. وان الوطن حقيبة نحملها في كل مكان وأننا لا نعيش فيه وحسب إنما يعيش فينا. لا .. انه ليس حقيبة، إنما نحن الذين نحقّبه أو نقحّبه.
     من جزيرة تيناريف.. أجمل جزر الكناري.. اشتريت بذورا. ومن جزيرة لا نزاروتي    أو لنثاروتي كما يسميها الإسبان والبرتغاليون .. حيث يسكن الكاتب البرتغالي سراماغو، ابتعت حجرا للطاقة.. كان لونه ورديا. لفت نظري حجر اسود.. هممت به فقالت إمراة نصف مجرّبة: "لا.. لا تأخذه، انه يمتص الطاقة..." فتركته. يكفيني ما أهدر من طاقة.
آه يا ساراماغو لو كنت اعلم انك هناك لكنت  زرتك وسألتك عن غربتك! كانت البذور التي استحوذت عليها تحمل طاقة الإنبات في ظروف بركانية ولها طاقة التأقلم في جميع الجزر.      كل اليابسة التي على الكرة الأرضية جزيرة كبيرة... وجميع الكائنات الحية تتأثر بعملية المدِّ والجزر وطاقة القمر. وطاقة القمر آتية من الطاقة الشمسية. عمر الزهور قصير.. كعمر الإنسان بالمعنى الكوني.. وللزهرة ميل للتأقلم كما للإنسان لكن ذلك ربما يحتاج إلى ملايين السنين.
     في المحيط عدت ورميت  البذور  إلى الحيتان.. رقص الدولفين رقصة الطبيعة ودار قمر تشرين. وأنا أدرك أن الإنسان يحتاج إلى ملايين السنين حتى يعتاد على موضوع  اقتلاعه. بحثت عن الخلاص الفردي فلم أجده إلا من خلال الجماعة.
     فعلى الرغم من أن قمر تشرين هو ذاته في الناصرة وفي القاهرة وفي المقهورة وفي نهر البارد- الساخن وفي دمشق الشام ومخيم اليرموك. إلا أن مدّه وجزره يختلف عن مدّ وجزر "سانتا كروز دي لا بالما" أو حين يطل على بركان لانزاروتي الذي ما زال يهدر في أعماق الجبل.. وعلى بعد خمسين ألف ساعة مضاعفة.. كما اخبرني جدّي جلجامش العظيم، أسد عوروك المحتلة، حين تغلبت فيه الطبيعة البشرية على الطبيعة الإلهية... أن نبتة الحياة هي الأقوى لأنها تتجدد في بيئتها الطبيعية.. ولا خلاص فردي!

وليد الفاهوم
الأحد 17/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع