امرأة من هونغ كونغ



القدس... هذه المدينة تشعرني بالأسى، تجرح قلبي وأنا أشعر بأنها مثل طفلة يتيمة. نتحدث عنها كثيرا ولا نتوقف عن ذكرها، نذكرها في نشرات الأخبار، نتشدق باسمها أثناء ظهورنا على شاشات التلفاز. نلهج باسمها في المساجد والكنائس والمدارس ومكاتب الأحزاب وصالونات السهرة ومطابخ البيوت، ولا نفعل لها سوى القليل القليل.
تحت مسجدها وتحت بيوتها القديمة، تجري الحفريات على قدم وساق. هناك يجري استثمار القوة والمال والخبرة العلمية، لتغيير معالم المدينة من فوق ومن تحت، ونحن نعلن غضبنا. وأنا لست ضد أن نعلن غضبنا، فهو أفضل ألف مرة من السكوت. ولست ضد أن نذكر اسمها صباح مساء، فهو أفضل من تجاهل أمرها برمته، وكأن لا شيء يتهددها.
وأنا متأكد مثل كثر غيري، بأن ثمة خطرا يوميا يتهدد المدينة. لذلك، أشعر بالأسى، لأنه إن ظلت الحال على هذا المنوال، فسيأتي زمان تكثر فيه الوقائع المادية التي ستقلب جوهر المدينة ومظهرها، وستضفي سمات أخرى على فضائها وعلى أصغر التفاصيل فيها، فلن نرى سوى وجوه غريبة ومعمار غريب ومدارس وكنس ومتاجر ومكاتب ومؤسسات ودروب لا تمت إلى طابع المدينة الذي نعرفه بصلة، فكيف سيكون حالي آنذاك وأنا أمشي في المدينة الأليفة لي، الساكنة في قلبي مدى الزمان، فإذ هي غريبة عني، وإذ أنا فيها غريب الوجه واليد والقلب واللسان!
جاءت إلى بيتي امرأة من هونغ كونغ ومعها زميلها المصور. المرأة تعمل في محطة فوينكس بكونها مقدمة برنامج تلفزيوني أسبوعي. اسمها الصيني: تشانغ تسياوين. ولها اسم غربي هو شارون، وتلك عادة اتخذتها لنفسها الأجيال المتعلمة في المستعمرة البريطانية السابقة، لإراحة الأجانب من عبء التلفظ بالأسماء الصينية الصعبة. أعرف بالطبع أن ثمة ممثلة تحمل هذا الاسم، وهذا الاسم يطلق على المذكر والمؤنث في إسرائيل. لكنه ظل اسما ثقيل الظل وغير مهضوم بالنسبة إلي، لسبب قد لا يخفى على من يتابع المآسي التي تعرض وما زال يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتمنيت لو أن هذه المرأة اختارت لنفسها اسما غربيا آخر، يتساوق مع جمالها الآسيوي.
جاءت شارون إلى بيتي، وشعرتُ منذ اللحظة الأولى أنها صبية ظريفة ذكية، ويبدو أنها أدركت بعد وصولها إلى البيت، أن اسمها الغربي ثقيل الوطأة على سمعي، فأخذت تبدي ارتياحا كلما حاولت التلفظ باسمها الصيني الذي لم يكن التلفظ به سهلا.
أجرت تشانغ تسياوين المقابلة معي. سألتني عن اعتقالي مرتين في السجون الإسرائيلية وعن إبعادي من وطني مدة 18 سنة، فقدمت لها وللمشاهدين من بعد، موجزا عما وقع لي. سألتني عن الهوية الفلسطينية ومدى قدرتها على الصمود في وجه العسف الإسرائيلي الذي يهدف إلى تبديد الكينونة الفلسطينية، فأجبتها. سألتني عن معاناة الشعب الفلسطيني من الغزوة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي، أجبتها ورويت لها بعضا مما ورد في الكتاب الأخير للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، الذي يرى أن ما جرى للفلسطينيين من تهجير قسري من وطنهم عام 1948 هو عملية تطهير عرقي سافرة.
اقترحت تشانغ تسياوين أن تقوم بتصوير بعض أحفادي ليظهروا معي في المقابلة. احتضنتُ حفيدي محمد (6 سنوات) وحفيدتي بلقيس (10 سنوات) وقام المصور بتصويرنا، ثم وقف محمد وحده، وطلبت منه تشانغ أن يحدق مباشرة في الكاميرا وأن يهتف: أنا فلسطيني. فعل محمد ما طلبته منه تشانغ، وقام المصور بتصويره. وقفت بلقيس أيضا أمام الكاميرا وهتفت: أنا فلسطينية. وبعد ذلك، قرأ حفيدي بشار (12 سنة) إحدى قصصي المكتوبة للأطفال، وترجمها إلى الإنكليزية فورا، فيما المصور يواصل تصويره وهو منهمك في القراءة والترجمة.
وحينما انتقلنا إلى المائدة لتناول طعام الغداء، اهتم المصور بتوجيهات من تشانغ، بتصوير أصناف الطعام الفلسطيني الموجود على المائدة، واهتم كذلك بملاحقة تحركات زوجتي وتحركاتي بين المطبخ ومائدة الطعام، وذلك لتكون الفرجة حافلة بالتفاصيل، عن الحياة اليومية لكاتب فلسطيني مقيم في القدس تحت الاحتلال.
أكملت تشانغ تسياوين مقابلتها معي على قمة جبل المكبر المطل على القدس القديمة. قالت إنها ترغب في إنهاء المقابلة فيما القدس تظهر في خلفية الصورة. أخذتها هي وزميلها المصور في سيارتي وصعدنا إلى قمة الجبل، وفي الطريق إلى هناك، توقفنا قليلا عند مستوطنة إسرائيلية جديدة اسمها «نوف زيون» يجري بناؤها ليس بعيدا من بيتي.
كان ثمة هواء بارد يلفح وجوهنا والغيوم تتراكض في السماء. وأنا وتشانغ تسياوين نسير ببطء على قمة الجبل، والمصور يتابعنا ويصور حركات أيدينا التي تشير إلى بعض المواقع في البلدة القديمة من القدس، ثم يصورنا والقدس تجثم خلفنا على مسافة ما من قمة الجبل.
أشعرني هذا الاهتمام من فضائية صينية في هونغ كونغ بشيء من العزاء، فثمة اهتمام من العالم بنا، مع أن هذا الاهتمام يتحول إلى مجرد مادة إخبارية مثيرة للفضول في الكثير من الأحيان.

 

*مقهى باب العمود*

ذهبت إلى مقهى باب العمود وكان الوقت عصرا، والمدينة تجثم صابرة متصبرة تحت شمس آب اللهّاب. تحدثت عن أحوال المدينة مع وليد، صاحب المقهى، ومع أخيه هيثم. وليد موظف في السلطة الفلسطينية وهيثم عاد من أميركا بعد غياب أكثر من 25 سنة (دخل إلى البلاد بجواز سفره الأميركي)، لإدارة المقهى بعد وفاة أبيه.
والمقهى لا يدخله إلا القليل من الزبائن بسبب الحال العامة في القدس. وقد اعتاد جنود الاحتلال أن يجروا بعض الشباب الفلسطينيين للتحقيق معهم في الطريق الذي يصعد من أمام المقهى نحو باب الساهرة. هناك يتعرض الشباب للضرب على أيدي الجنود، ويكون المشهد مربكا للسياح الذين يصادف وجودهم في المقهى.
والمقهى يشهد قدوم بعض الزبائن من أبناء القدس، لشرب القهوة وللاسترخاء، وأنا أغادر المقهى بعد ساعة، لأتجول في أنحاء المدينة. أهبط نزلة باب العامود التي تملأها البسطات. بسطات عليها سلع من مختلف الأصناف، وباعة ينادون الزبائن كي يشتروا سلعهم. وأنا أمضي نحو طريق الواد، وأرى كيف تحولت أماكن كثيرة إلى محال للنوفوتيه، وإلى محال لبيع النثريات القادمة من الصين. أرى كذلك، البيت الذي وضع شارون يده عليه ليكون سكنا له في البلدة القديمة.
ولا ينتهي تجوالي في المدينة إلا بعد ساعتين، ويكون المساء قد اقترب، وطقس المدينة قد اعتدل وقلّت فيها حركة الناس. والمحال التجارية على وشك أن تغلق أبوابها، أو هي قد أغلقت أبوابها بالفعل.
والمدينة تستقبل الليل، وهي مرهقة من ضجيج النهار ومن مصيرها المعلق.

محمود شقير
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع