نظرية سقوط الامبراطورية.. الأمريكية



النظرية التي تتحدث عن ظهور أعراض سقوط الامبراطورية الرومانية على الامبراطورية الأمريكية، والتي تنتهي الى استنتاج بأن بعض ـ وربما كل ـ العوامل التي أدت الى انهيار الاولى ستؤدي بالضرورة الى سقوط الثانية، هي نظرية قديمة، أقدم مما يتصور كثيرون، ويتكرر ظهورها كثيرا في كتابات الباحثين والمؤرخين الأمريكيين والاوروبيين.
واذا صح حدسي فإن أول من تناول هذه النظرية كان مؤرخا أمريكيا من أصل ايطالي (كما لو انه يجمع مجد الامبراطوريتين معا) اسمه غولييرمو فيريرو. نشر كتابا بعنوان «روما القديمة وأمريكا الحديثة: دراسة مقارنة في الأخلاق والعادات». كان ذلك في عام 1914 ولم تكن صورة أمريكا الامبراطورية قد اتضحت معالمها كما هي اليوم. أما المقالات والبحوث التي روجت لهذه النظرية أو استندت اليها فلا يكاد يكون بالإمكان حصرها.
لا تزال الولايات المتحدة قائمة.. بل انها لا تزال توغل في الانحطاط الأخلاقي وتتمسك بالعادات ذاتها التي أسهمت في إسقاط امبرطوريات قبلها. بل انها خاضت خلال الحقبة منذ ظهور هذه النظرية حروبا يربو عددها على ما خاضته الامبراطوريات التي سبقتها الى السقوط من الرومانية قديما الى الفرنسية والبريطانية حديثا.
لكن النظرية ـ ربما لهذا السبب على وجه التحديد ـ لا تزال تلح في الظهور بين وقت وآخر... فلا أميركا تنهار وتسقط، ولا النظرية التي ترى في أميركا قرين الامبراطورية الرومانية تكف عن الظهور مرددة العوامل والاسباب ذاتها مضيفة إليها ما تجود به معارف المؤرخين والمؤلفين. ونستطيع أن نتوقع استمرار الحال على هذا المنوال ... الى متى؟
لا أحد يجرؤ على تقديم إجابة محددة على هذا السؤال. ولا يستطيع أحد أن يجزم أيهما يسقط قبل الآخر: الامبراطورية الأمريكية ام نظرية سقوطها الحتمي. والآن فإن النظرية تكتسب قوة دفع واضحة، فيما كف الذين كانوا في الماضي يأخذون على عاتقهم مهمة الرد عليها، ممن يعتقدون أن الامبراطورية الأمريكية هي نهاية التاريخ وان التطورات لن تحمل ما يمكن أن ينبئ بسقوطها.
ولا يستقيم الكلام عن نظرية الامبراطورية الأمريكية باعتبارها نظير روما في سنواتها الاخيرة دون الاشارة الى العوامل الكثيرة التي تدعم منطق هذه النظرية في ما تتوقعه. وأول هذه العوامل هو الحروب. فقد كانت روما ـ كما هي أميركا اليوم ـ في حالة حرب معظم الوقت، تتكرر حروبها دون دواع دفاعية حقيقية، بينما توغل تأثيرات هذه الحروب في إفساد الحياة فيها اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا... وطبعا سياسيا. فقد انهارت دمقراطية روما تحت وطأة الحروب أكثر من غيرها.
لكن النظرية نفسها تؤكد ايضا ان الهزائم العسكرية وحدها لا تؤدي الى انهيار الامبراطوريات، ولم يكن الأمر كذلك في حالة روما. فقد كانت روما تتساقط عندما هزمت أمام الفرس ثم أمام العرب. تساقطت فهزمت ولم تهزم فتساقطت. والمؤرخون الأحدث الذين يكتبون في إطار هذه النظرية يقولون ان الافلاس الاقتصادي هو أقصر الطرق الى سقوط روما الأميركية. لماذا؟ لان الامبراطورية الأمريكية تميل إلى ممارسة العمل الاقتصادي خارج حدودها بعيدا عن مواطنها. وهذا ما يجعل إفلاسها الاقتصادي سببا في خوض الحروب بعيدا حيث تستثمر وبالاحرى حيث تستغل. وهذا ما يجعل إفلاسها يصل اليها من الخارج كما هو الحال اليوم، حيث تسعى أمريكا في الخارج بحثا عن قوة العمل الرخيصة وعن الطاقة (النفط) وتفعل كل ما بوسعها للسيطرة على كليهما في منافسة مع حلفائها قبل أعدائها... وحتى بعد أن غاب الأعداء عن مسرح الصراع.
ثم تأتي العوامل الاخرى: الفساد بما يحمله من ضروب الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية تنبت داخل الامبراطورية أنواع الانحطاط الأخلاقي الذي يفتت التماسك الداخلي ويوظف الجريمة الفردية والجماعية (المنظمة) لخدمة أصحاب المصالح الكبرى، لأثرياء كأفراد وكمؤسسات. وتنبت داخل الامبراطورية أيضا أنواع الانحدار الثقافي الذي يبدأ من نقطة التعامل الفوقي مع الثقافات الأخرى، عندما تشعر الامبراطورية أن ثقافتها أسمى من ثقافات الآخرين وأنها كفيلة بنشر ثقافتها في أنحاء الامبراطورية على أوسع نطاق بينما هي في الحقيقة تنشر نظامها الاقتصادي ـ الاجتماعي، ظنا منها انه والثقافة شيء واحد.


وبطبيعة الحال فإن أحدث أشكال نظرية سقوط الامبراطورية يعزو الى الرأسمالية الأمريكية أسباب الإفلاس الاقتصادي والانحلال الاجتماعي معا الذي تراه يدفع بالامبراطورية الأمريكية الى السقوط. والآخذون بهذا الاتجاه في النظرية، من اليسار الأمريكي غالبا، يعتقدون أن الرأسماليين الذين يمسكون بالسلطة يدفعون الامبراطورية نحو الانحدار وهم في مواقع الفائزين، حيث الفوز وزيادة الثروة يحولهم الى وحوش ضارية، وكذلك وهم في مواقع الخاسرين حيث الخسارة تحولهم الى طوابير من الخاسرين... وفي الحالتين تريد الرأسمالية ان تكون لها السيطرة بلا قيود من أي نوع، بالأخص سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وقد حلت الرأسمالية الوحشية محل رأسمالية مروضة بعد انهيار النظام الآخر المنافس، وأصبح عامل الربح مطلقا بلا قيود، حتى في حدها الادنى الإنساني. وما دام هذا النظام يخفق في العمل لصالح العاملين الأمريكيين ـ اذا استعرنا تعبيرا من المعلق الأمريكي البارز جيمس غالبريث (نجل عالم الاقتصاد الراحل جون كنيث غالبريث) ـ فإنه لا يستطيع أن يؤدي عمله في الأمد الطويل (والمقصود هنا هو الاقتصاد الأمريكي). ويضيف غالبريث الابن: «إن عسكريينا يعرفون هذا. ان باستطاعتهم أن يكسبوا أية معركة محددة لكن هل يمكنهم بعد ذلك أن يوفروا بيئة آمنة ومستقرة بعد المعركة؟ بالطبع لا».
إن الرأسمالية في مرحلتها الحالية، مرحلة الامبراطورية، قد نسيت هدف العمالة الكاملة (القضاء التام على البطالة) ولم يعد بين أهدافها. والبطالة هي أم الإفلاس. واليوم فإن الوضع السائد مع هذه الرأسمالية يشهد تهربها من دفع الضرائب وحصولها على المساعدة من الادارة برد مبالغ ضخمة من ضرائبها إليها. وبالمقابل تعجز حكومات الولايات كما تعجز الحكومة الاتحادية عن تقديم الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعويضات للعاطلين والميزانيات للتعليم الحكومي والتأمين الصحي لنحو ربع تعداد السكان. ليس هذا فحسب بل ان اتجاه الاقتصاد الاميركي الى الخارج طلبا للعامل الرخيص (بلا حقوق وبلا التزامات) انتهى بالولايات المتحدة بلدا لا يكاد ينتج شيئا غير الأسلحة المتطورة الأكثر فتكا، يستورد كل ما يستهلك.
قبل أيام، في 22 من كانون الثاني الماضي، كتبت وول ستريت جورنال: «إن ثمة أسبابا وجيهة للخوف من أن الكساد الذي يلوح في الأفق يمكن أن يكون أسوأ من الكسادين الوحيدين اللذين أصيبت بهما الولايات المتحدة في الربع الاخير من القرن الماضي». وكتب كنيث روغوف أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد ان الازمة الحالية تبدو على الطريق لان تصبح على أقل تقدير على الدرجة ذاتها من السوء الذي كانت عليه أسوأ خمس أزمات مالية ضربت البلدان الصناعية منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي منتصف الشهر الماضي ايضا كتب باترك بيوكانان المعلق اليميني المحافظ يقول: «بينما نحن لا نوفر شيئا يتعين علينا أن نقترض لكي ندفع ثمن النفط الذي نستورده والمصنوعات الاجنبية التي أصبحنا نعتمد عليها. وهكذا فإننا في وضع يضطرنا لان نقترض من أوروبا لندفع ثمن الدفاع عن أوروبا، وان نقترض من الصين واليابان لندافع عن حق الصين واليابان في الحصول على نفط الخليج...».
وينتهي بيوكانان الى ان «الجيل (الاميركي) المنغمس في ذاته قد اقترض الى حد ان ديونه أصبحت غير قابلة للسداد. والآن فإن الناس الذين اقترضنا منهم لنشتري النفط وكل ما نملك من سيارات والكترونيات وملابس آتون ليشتروا البلد الذي ورثناه. نحن أبناء عاقون ويوم الحساب يقترب».
ليس من حاجة بعد هذه الشهادات الى ما يعزز نظرية سقوط الامبراطورية فعلا إلى حد جعل المقارنة تعقد، ليس بين الولايات المتحدة والامبراطورية الرومانية أو الامبراطورية السوفياتية، إنما بين الولايات المتحدة وروسيا القيصرية في عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر (...) وهو الوقت الذي كانت فيه الامبراطورية الروسية القوة التي يخشى جانبها أكثر من أية قوة اخرى في أوروبا أو آسيا، وكانت تلقي بظلها على تركيا والبلقان وكل أقاليم الامبراطورية العثمانية.
وقتها لم يكن أحد يجرؤ على ان يرفض طلبا من روسيا القيصرية بتأجيل سداد ديونها وشأنها شأن الولايات المتحدة الآن كانت قوة عسكرية مخيفة. لكن هذه القوة فتتها الانتشار فوق أراضي جيرانها وكان عجزها عن سداد ديونها، وليس تدني قوتها العسكرية، هو الذي أدى إلى تدهور الرأسمالية الروسية سريعا وانهيار الامبراطرية.
مع ذلك فإن لنظرية سقوط الامبراطورية الاميركية على غرار سقوط الامبراطورية الرومانية نظرية مضادة تذهب الى أن أميركا هي روما الجديدة. وهذه النظرية ترى أميركا شبيهة بروما في أوجها، وفي أوجه كثيرة. في عاصمتها واشنطن أبنية ضخمة كثيرة على طراز العمارة الرومانية، جيشها في ضخامته وانتشاره في أرجاء المعمورة واعتزاز قادته أشبه ما يكون بجيش روما حينما كان العالم القديم المعروف كله تحت هيمنتها. ثقافة أميركا تحكي في العالم لغة ومعالم ومفاهيم وحتى شعارات على النحو نفسه الذي كانت ثقافة روما تنتشر به في أنحاء الامبراطورية. بل يذهب أصحاب هذه النظرية الى ان أميركا مثل روما جمهورية ولكن حقيقة نظامها بلوتوقراطية (تحكمها طبقة من الأثرياء). رؤساؤها في حقيقة الامر وبما يتمتعون به من سلطات هم قياصرة.
الفرق اذاً بين نظرية سقوط الامبراطورية ونظرية روما الجديدة ينحصر في أن المقارنة بين أميركا وروما في عزها في الثانية وبين أميركا وروما في احتضارها في الاولى. لهذا كلما انتعشت أميركا، بالحرب أو بدونها، بدت في صورة روما الجديدة الفتية... فـإذا ما انتكست وحاصرتها الأزمات والنكسات بدت في صورة روما في مرحلة الانحطاط ثم السقوط. ولكل نظرية أسبابها ودواعيها الموضوعية، وقد لا يكون الفارق بينهما سوى الزمن: الفاصل الزمني بين الصعود والانحدار.
الأمر المؤكد هو أن النظرية القائلة بأن أمريكا هي روما الجديدة لا تكاد تكون معروفة حتى بين الأمريكيين أنفسهم. وتبقى الغلبة لنظرية سقوط الامبراطورية الأمريكية، حتى ان بعض المفكرين الذين يأخذون بها يعتبرون أن النظرية المضادة تضيف أدلة جديدة الى ما بين روما وواشنطن من أوجه الشبه.
يقول المؤرخ الروماني تاسيتوس، متحدثا عن غزو روما لبريطانيا، «ان أهل البلد بدأوا يحبون التوغا (الثياب الرومانية الفضفاضة) ويحبون الحمامات العامة ونظام التدفئة المركزي غير مدركين أن هذه هي رموز استعبادهم».
هذه هي الكلمة الفصل في ما يتعلق بسقوط الامبراطورية الأمريكية أو ازدهارها ... ان تدرك الشعوب هذه الحقيقة: ان السينما، السيارات، الانترنيت، الاسلحة، برامج الفضائيات من الإنتاج الأمريكي... هي «رموز استعبادها».

سمير كرم
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع