رمزي شحادة، أحد أصحاب الأرض التي يلاحقها شبح المصادرة في المشهد:
"لن يأخذوا منا مترًا واحدًا إلا إذا مُـتنا في أراضينا"



* في الشهر الماضي، أقدمت السلطة على جريمة اقتلاع مئات أشجار الزيتون في أراض تابعة لقرية المشهد الجليلية، للمرة الثانية خلال نصف سنة * قرار المصادرة الأول كان صدر عام 1976، بموجب مخطط "تهويد الجليل" المشؤوم، دون أن ينفّذ، وألغي جزئيًا عام 2006، ثم أعادته المحكمة العليا على شكل تحويل 64 دونمًا إلى "منطقة خضراء"، رغم * بلدية نتسريت عليت تريد غرس مخالبها في الأراضي مجددًا * والأهالي، من جهتهم، يؤكدون: ما حدث عام 1976 لن يتكرّر *

 

"أريد أن أنقل رسالة باسم أصحاب الأراضي وعائلة شحادة وسكان قرية المشهد لضمير الناس في كل الأماكن: كيرن كييمت ليسرائيل، بلدية نتسيرت عيليت، أعضاء كنيست ووزراء، والسكان في اسرائيل، نحن لا نريد ان تتكرر أحداث 1976، لكن يؤسفني القول إنهم لن يأخذوا منا مترا واحدا الا اذا متنا في اراضينا. لا توجد لدينا كراهية او عنصرية تجاه أي انسان، لكننا نريد ان نسوّي الامور بعدالة، وإذا لم يحدث ذلك، لن تكون هناك طريق عودة. لا يوجد لدينا مكان آخر نعيش فيه او نبني فيه بيتنا. نحن عائلة تعتاش على العمل الزراعي ولا توجد لدينا قطعة ارض أخرى لفلاحتها والعمل فيها. اما ان نموت او ان نحيا بسلام مع المدن المجاورة دون ان تمس اراضينا. اعيد وأكرر: ما حدث في عام 1976 لن يتكرر".
(رمزي شحادة، صاحب أرض في قرية المشهد)

 

* جريمة اقتلاع مزدوجة


القصة التي نأتي على وصفها هنا تعكس، بشكل فظ، نظرة وتعامل دولة إسرائيل تجاه المواطنين العرب في كل ما يتعلق بسياسة سلب الأراضي العربية واقتلاع أشجار الزيتون. ففي تاريخ 14/6/2007 اقتلعت جرافات وزارة الداخلية ودائرة اراضي اسرائيل عشرات اشجار الزيتون التابعة لقرية المشهد العربية في الجليل، بذريعة ان الارض صودرت لصالح المدينة اليهودية "نتسيرت عيليت" (الناصرة العليا). كما اعتقل عدد من ابناء عائلة شحادة (إحدى العائلات التي تمتلك جزءا من الاراضي المذكورة) بسبب محاولاتهم الدخول الى ارضهم اثناء تطويق الشرطة للمنطقة. الاشجار التي اقتلعت تركت في الارض، وفي اليوم التالي تجمع اصحاب الاراضي وعدد من سكان المشهد وأعادوا زراعة اشجار الزيتون التي اقتلعت وأشجار جديدة أخرى، ومنذ ذلك الحين يتواجدون طوال النهار في الخيمة التي اقاموها هناك. ويقول خالد كريّم، عضو اللجنة الشعبية لمكافحة مصادرة اراضي المشهد وابن لعائلة تمتلك احدى قسائم الارض المهددة بالمصادرة: "اقمنا خيمة احتجاج وأردنا ان نثبت لكل الجهات التي تريد نهب الاراضي، أن اصحابها لن يسمحوا بتكرار ذلك مرة أخرى. ولذلك حافظنا على الارض، بمساعدة ابناء العائلة وعدد من سكان القرية من خلال التناوب على حراستها على مدار الساعة، لكي نمنع أي محاولة من قبل السلطات للعودة والمس بالأرض".
قبل حوالي الشهر، وبعد نحو نصف سنة من قيام الجرافات باقتلاع اشجار الزيتون، ترك الاشخاص الذين تجمعوا في المكان خيمة الاحتجاج، معتقدين ان القصة قد مرّ عليها وقت طويل ونسيت. وفي اليوم نفسه بالذات، وبخطوة مخططة جيدا، اقتحمت قوة كبيرة من الشرطة، ترافقها الجرافات، الاراضي واقتلعت أكثر من 400 شجرة زيتون.

 

* مصادرة مع وقف التنفيذ

 


الأراضي المهدّدة بالمصادرة (في الإطار الأحمر) – عن "غوغل خرائط"

 


تبلغ مساحة الارض المذكورة حوالي 64 دونما، وتدعي بلدية نتسيرت عيليت انه تم مصادرتها في العام 1976. ولكن حينها، لم تنفذ المصادرة، وفي سنة 1996 قرر وزير الداخلية آنذاك، حاييم رامون، الغاء امر المصادرة بشكل جزئي. وقبل سنتين نظرت المحكمة العليا في هذه القضية، وادعى اصحاب الارض الاصليين انه اصبح هناك تقادم على امر المصادرة، التي لم تنفذ على مدى سنوات. وقررت المحكمة عدم اعادة الارض الى اصحابها، ولكن اوصت بابقاء الارض منطقة خضراء، كما ذكر في اوامر المصادرة وفي الخارطة الهيكلية للمنطقة، وبتمكين اصحابها من فلاحتها والدخول اليها في موسم قطف الزيتون.
بلدية نتسيرت عيليت تعتمد على الخطوات التي اتخذتها الحكومة في سنة 1976 عندما بدأت بحملة مصادرة الاراضي العربية، التي شملت عشرات آلاف الدونمات في الجليل. وقد شملت عملية المصادرات في المنطقة حينها آلاف الدونمات التابعة للبلدات العربية عين ماهل، المشهد، كفر كنا، الرينة والناصرة في الجليل. وقد تم مصادرة الاراضي بموجب قرار وزير المالية الاسرائيلي، الذي استند الى قوانين الطوارئ التي تمنح الوزير صلاحية مصادرة الاراضي للصالح العام. ويقول خالد معلقا على تصرف الدولة تجاه المواطنين العرب: "نحن مقتنعون بشكل مطلق ان اسرائيل اقيمت على اراضي شعبنا الذي طرد من ارضه وهذه حقيقة لا جدال فيها. فلماذا يجب عليّ كمواطن ان اصل الى وضع اشعر فيه بأنني مواطن لفترة مؤقتة؟ كل عربي يعيش داخل دولة اسرائيل لا يعرف ماذا ينتظره في المستقبل".

 

* تهويد الجليل ووثيقة كينيغ


تمت مصادرة تلك الاراضي بالتوازي مع كتابة "وثيقة كينيغ" التي اعدها يسرائيل كينيغ، الذي شغل على مدى ست وعشرين سنة منصب متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية، وصدرت في صحيفة "عل همشمار" في سنة 1976. وتضمنت الوثيقة خطة لسلخ ومصادرة اراض عربية وتغيير التوازن الديمغرافي في الجليل بهدف تهويد المنطقة. هذا بالاضافة الى تطرقها لنواح أخرى مثل تشجيع هجرة العرب الى خارج البلاد وزيادة العراقيل امام العرب للقبول للجامعات، وإقامة حزب عربي يكون بمثابة ذراع الحكومة للسكان العرب. تجدر الاشارة الى ان كينيغ كان قد قال قبل عدة سنوات لصحيفة "هآرتس" ان صديقه، "مسيحي غني من الناصرة"، ما زال يشكره لأنه اقنعه قبل سنوات بالهجرة الى كندا. وكان تبرير كينيغ: "لن ينعم أولادك بأي خير هنا قط".
وبتشجيع من تلك الوثيقة قررت حكومة اسرائيل، في بداية سنة 1976، القيام بحملة جديدة لسلب الاراضي من المواطنين العرب بشكل واسع جدا، خاصة في الجليل، كخطوة ضخمة في عملية تهويد الجليل. وشملت خطة المصادرة في الجليل 20,000 دونم، وكان الغضب عارما في اوساط السكان العرب. وقبل خطة المصادرة، اوهم العديد من المواطنين العرب انفسهم، بأنه بعد ان صادرت حكومات اسرائيل المتعاقبة معظم اراضي السكان العرب في اسرائيل منذ سنة 1948 وحتى نهاية سنوات الستينيات، لن تقع ضربة ثقيلة الى هذا الحد ثانية. لكن اقتراح خطة "تطوير الجليل" التي نشرت في شهرية وزارة الزراعة (تشرين الاول، 1975) لم تخف ابدا الهدف القومي لخطة "تطوير الجليل" التي جاء فيها بوضوح: "إن المشكلة الخاصة بالجليل هي قلة السكان اليهود مقارنة بغير اليهود. في سنة 1973 كان في الجليل 147,000 غير يهودي و 62,000  يهودي... يجب تغيير الوضع القائم في مجال النسبة الديمغرافية بين السكان اليهود وغير اليهود، عن طريق تنفيذ خطة بعيدة الأمد..".
ورغم مرور 30 سنة على قرار المصادرة الذي اتخذ في سنة 1976، فإن جزءا من الاراضي لم يصادر فعليا واستمر اصحاب الاراضي في حيازتها واستخدامها، لأن نتسيرت عيليت حينها لم تكن بحاجة لهذه الاراضي الاحتياطية، الامر الذي يؤكد غياب الاهمية لمصادرة تلك الاراضي. ولكن اليوم، تحاول السلطات تطبيق هذا القرار بهدف مواصلة توسيع الاحياء الاستيطانية، بالاساس في حي "هار يونا" (جبل سيخ) في نتسيرت عيليت، على حساب اراضي قرية المشهد، من خلال تجاهل حقيقة ان الامر يأتي على حساب احتياطي الاراضي التابعة للسكان العرب في المنطقة. هذه الاراضي بملكية خاصة للمواطنين العرب، وقد انتزعت من اصحابها القانونيين لصالح بناء احياء جديدة لتوطين القادمين الجدد، الذين هاجر معظمهم من الاتحاد السوفييتي سابقا. ويقول خالد بتأثر شديد: "لماذا يمنع ابن المشهد من الوقوف في ارضه، وفلاحتها والعناية بأشجارها، في حين ان من وصل من روسيا يتمتع هو وكلبه بالركض صباحا في اراضينا؟".

 

* المشهد.. قرية محاصرة

 


المشهد تختنق و"هار يونا" (في الخلفية) تزدهر


حي هار يونا في نتسيرت عيليت هو واحد من تلك الاحياء التي بنيت خصيصا من اجل توطين المهاجرين الجدد الذين وصلوا الى اسرائيل. وقد بُدئ ببنائه في بداية التسعينيات، ويصل اليوم عدد السكان فيه الى 10,000 نسمة، من القدامى والمهاجرين الجدد (حوالي 70%) والقليل من العرب. والحي مقام على قمة جبل سيخ الذي يقع بين البلدات العربية عين ماهل، الرينة، المشهد وكفر كنا، تلك البلدات التي تطرقت اليها حملة مصادرة الاراضي في سنة 1976.
وبجانب ذلك الحي تقع قرية المشهد، التي يبلغ عدد سكانها 6,900 نسمة، ومعظمهم من الطبقة الاجتماعية- الاقتصادية المنخفضة  (معدل الأجر للأجيرين في سنة 2005 في القرية كان 3,563 ش.ج فيما كان المعدل القطري 7,324 ش.ج). وفي اعقاب الواقع الكئيب الذي فرضته عليها الدولة، اصبحت قرية المشهد مطوقة ومحاصرة من جميع الجهات، دون أي امكانية لتطور يلوح في الافق. من الجهة الجنوبية شارع 79 (شارع نتسيرت عيليت- حيفا)، ومن الجهة الغربية موشاف تسيبوريت  (الذي اقيم على اراضي قريتي "جبل الخروب" و"صفورية"، اللتين دمرتا إبان النكبة عام 1948، والذي اقيم ايضا على جزء من اراضي المشهد)، والمنطقة الصناعية تسيبوريت، التي تقع قرية المشهد في الوسط بينها وبين نتسيرت عيليت (تبعد عن نتسيرت عيليت حوالي 7 كلم)، ولكن مع ذلك تعتبر جزءا من منطقة نفوذ نتسيرت عيليت. ومن الجهة الشمالية يحد قرية المشهد القرية العربية كفر كنا، ومن الجهة الشرقية للقرية يقع حي هار يونا، الواقع في منطقة نفوذ نتسيرت عيليت.

 

* أزمة سكنية خانقة


من مجموع 11,067 دونما كانت تابعة لقرية المشهد قبل اوامر المصادرة، تصل اليوم منطقة نفوذها الى 7,300 دونما، في حين ان 830 دونمات فقط مخصصة للبناء. يقف خالد في ارضه ويشير الى القرية قائلا: "تعاني القرية مشكلة سكنية قاسية جدا، والكثير من الاشخاص يتركون القرية لأنهم سلبوا منهم الاراضي او لا يعطونهم تراخيص ملائمة للبناء. حتى ان قسما من اصحاب الاراضي هنا (من عائلة شحادة) يسكنون في قرية الرينة المجاورة لأنهم لم يحصلوا على التراخيص ذات الصلة لكي يقوموا بالبناء على اراضيهم".
ويقول رب العائلة، محمود شحادة، ببراءة: "حتى بعد ان سمعنا عن مصادرة الاراضي في السبعينيات، لم يؤثر ذلك على عملنا في الارض بتاتا. واصلنا العمل، قمنا بحرث الأرض وزراعتها طوال الوقت، الى ان وصلت جرافات الشرطة ودائرة الاراضي في شهر آذار". محمود (85 عاما) هو الأكبر سنا من بين أصحاب الاراضي وقد تعرض هو ايضا للاعتقال في الهجمة الأولى لدائرة الاراضي، ويقول بهذا الصدد: "هؤلاء لا يخجلون من أنفسهم.. لقد قاموا باعتقالي واعتقال ابنائي فقط لأننا اردنا الدخول الى اراضينا، ومنعهم من المس بأشجار الزيتون". ويتساءل: "كيف قدروا على اعتقالي وأنا في سن أجدادهم؟".
ويحاول رمزي شحادة، وهو ايضا احد اصحاب الاراضي، أن يقارن بينه وبين المهاجرين الجدد الذين يسكنون في حي هار يونا المجاور، ويقول: "حبذا لو كنا نتمتع بحياة مثلما هي الحال في نتسيرت عيليت من ناحية الخدمات التي يحصلون عليها، الشوارع، النظافة، والمتنزهات لأولادهم. سيكون من المضحك ان نقارن بين المشهد ونتسيرت عيليت، وعلى سبيل المثال عندما اريد الذهاب مع اولادي للعب فإنني اذهب الى المتنزهات في نتسيرت عيليت، لأنه لا يوجد لدينا في المشهد حتى ولو دونم واحد مخصص لمتنزه". ويضيف: "أشعر بأنني اعيش في مكان ما في جنوب افريقيا وبجانبي مدينة اوروبية او امريكية. وما يثير الغضب اكثر اننا نحاول منذ 25 سنة الحصول على تراخيص لكي نبني على ارض هي لنا، في حين ان المهاجر الجديد الذي يصل من روسيا او اوروبا يحصل على بيت فور هبوطه من الطائرة".  

  

* أين الدمقراطية؟


اشجار الزيتون في اراضي المشهد تخدم اصحاب الاراضي، وهم ثلاث عائلات ومجموع تعدادهم 350 شخصا، وجميعهم فلاحون وحراثة الارض هي عملهم ومصدر رزقهم الاساسي، ان لم يكن الوحيد. في السنة الماضية، نجحت عائلة شحادة في انتاج قرابة 70 تنكة زيت زيتون في قسيمة مكونة من 8 دونمات تشكل حوالي ثلث الاراضي التي تملكها العائلة والتي اقتلعت فيها الاشجار.
يقول محمود شحادة:  "منذ 30 عاما وأنا اعتني بأشجار الزيتون، لكي أوفر لقمة العيش لعائلتي، وفي غضون ساعتين تقوم الشرطة بتدمير كل ما عملت من أجله". أما خالد، زوج ابنة محمد، فيقول: "نحن عائلة فلاحين نعتاش على فلاحة الارض. تنكة زيت كهذه وصل ثمنها هذه السنة الى حوالي 700 شاقل، وبحساب بسيط اهدر منا دخل يقدر بحوالي 49,000 شاقل، ناهيك عن الاستعمال الشخصي للزيت والزيتون من قبل العائلات الثلاث". ويؤكد خالد ان هذا هو مصدر الرزق الاساسي للعائلات، ويقول: "لم اسمع في حياتي ان ابي او جدي يتحدث عن شراء زيت او زيتون من آخرين. حتى انني اخشى ان نصل الى وضع لا يكون فيه لدينا زيت زيتون وحينئذ نضطر لشرائه". 
ويضيف خالد: "نحن مواطنون نحافظ على القانون، ولا يهمنا أي شيء سوى العيش مثل البشر في اراضينا. ومع هذا تتعامل الدولة معنا كمواطنين من الدرجة الثانية او مخالفين للقانون"، ويتابع: "هذا يعيد لجميعنا كلمات مثل ترانسفير. ها نحن في كل يوم نسمع عن تجريف مقبرة اسلامية او مسيحية في القرى الفلسطينية المهجّرة. ما نطلبه هو الحرية والديمقراطية التي يجب ان احصل عليها كمواطن. اذا كانت هناك حقوق للمواطن في اسرائيل فلتعط ايضا للسكان العرب". ويفتح قلبه ويتحدث بصراحة قائلا، ان كل عربي في اسرائيل يشعر بأن الدولة تفعل ما لا تقول وتقول ما لا تفعل: "هي كأنها ترتدي فستانا ابيض ولكن في داخله كتلة سوداء من العنصرية والتمييز". 


* المصدر: "يوميات التمييز" (المؤسسة العربية لحقوق الإنسان، www.arabhra.org)، بتصرّف

تقرير: سعادة أبو حاطوم
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع