الطريق إلى السلام والعدالة والمساواة يرسمها حملة الفكر الأممي



*رسالة الرفيق الكاتب سلمان ناطور إلى الحزب الشيوعي يعلن فيها عودته إلى صفوف الحزب*

 

حضرة الرفيق الكاتب محمد نفاع
السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي

 

الرفيق العزيز
مضى ثمانية عشر عاما على تجميد عضويتي في الحزب (أعتبره تجميدا وليس خروجا لأنه لم يكن بسبب خلاف عقائدي ولا سياسي، ولم أقطع علاقتي بالحزب ولم أنتسب إلى حزب آخر).
هذه الفترة ليست قصيرة وقد كانت تجربة هامة وضرورية خاصة وأنها جاءت في مرحلة مصيرية شهدت تحولات تاريخية في الحركة الشيوعية والعالم، وكان فيها متسع من الوقت للتأمل والدراسة وإثراء التجربة، ولكنها ككل مرحلة تصل حتما إلى نهايتها.
أكتب إليك لتجديد عضويتي في الحزب، شيوعيا كان انتسب قبل ثلاثين عاما بقناعة تامة أن الطريق إلى السلام والعدالة والمساواة يرسمها من يحمل الفكر الأممي والثوري التقدمي والعلماني والمحرر من العصبيات القومية والغيبيات وكل أشكال الاستغلال، وهذا الفكر يصوغ الحلم الذي يبعث الأمل ويرسم ملامح القضية التي تضمن التجدد ومواصلة العمل والفعل، رغم التحديات، بل في مواجهة التحديات.
 كانت فترة نشاطي في الحزب غنية جدا بالعمل والكفاح اليومي وصقل وعيي السياسي والطبقي، وأعتبرها المرحلة الأهم في سيرة حياتي وأنا أشرف على عامي الستين.
بدأت بكتابة هذه الرسالة ظهر الأربعاء التاسع من كانون الثاني من العام 2008 وقد أطفأت جهاز التلفزيون الذي كان يبث طقوس استقبال الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش، في مطار بن غوريون القائم على أراضي الخيرية واللد والرملة.
لم أصغ إلى خطابه وقد دفعني وطء قدميه على هذه الأرض إلى الجلوس خلف طاولتي لصياغة هذه الرسالة وتجديد الانتساب إلى الحزب.
 أرى في قدومه نذير حرب جديدة في المنطقة وما شاهدت في وجهه سوى مؤامرة أخرى على شعوبنا، ولم أسمع في كلماته إلا نبرة عداء للشعب الفلسطيني واستعلاء وقح على أمم الشرق قاطبة وعلى الأمة العربية بشكل خاص، وقد أعادني هذا الحلول العدواني إلى المنطقة ثلاثة عقود إلى الوراء ، أي إلى العام 1977 عندما قدم الرئيس المصري  أنور السادات إلى هذه الأرض، واستقبل إسرائيليا بمثل هذه الحفاوة.
في ذلك الوقت انتسبت إلى الحزب اذ أدركت مع الشيوعيين، هنا وفي العالم، حجم المؤامرة على شعوبنا وبشكل خاص على الشعب الفلسطيني الذي كان يحقق في العالم انتصارا تلو انتصار وينتزع تأييد العالم لقضيته، فجاءت زيارة الرئيس المصري لضرب هذه الانتصارات وانقاذ إسرائيل من ورطة محكمة، وكم كان موقفنا صادقا، فما زالت شعوبنا تدفع ثمن المؤامرة إلى هذا اليوم.
كانت الإدارة الأمريكية وكل ما تمثله وتفرضه على العالم وبخاصة الشعوب والمجتمعات الضعيفة، مصدر القلق الأول بالنسبة لي، وبينما كانت تردع هذه الإدارة، في الماضي، قوى كبرى كونية على رأسها الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية وحركات التحرر والأحزاب الشيوعية (وكان في هذا الردع شيء من الطمأنينة أن معسكرنا حتما سينتصر)، فاليوم يمثل هذا الرئيس عصر الانفلات والهمجية المعولمة وعهد تعميم ثقافة العنف والإرهاب و هذا الحال لا يسمح لشيوعيين بفكرهم وعقيدتهم أن يبقوا في "المنطقة الحرام" أو خارج الصفوف الأمامية  لمقاومي هذه الهمجية والمناضلين ضدها، فالنضال بلا معسكر كوني كبير داعم وساند يتمثل بدول كبرى وأحزاب شيوعية حاكمة، يحملنا مسؤولية فردية أكبر حتى على القضايا الكونية.
وانتسبت قبل ثلاثين عاما إلى الحزب بعد جولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وزيارة إلى بقايا معسكرات الإبادة النازية في بوخنفلد وسكسن هاوزن، وقد راعني، في ذلك الوقت، ما خلفته الفاشية الألمانية من جرائم ضد الإنسانية  وهزتني رؤية صور ضحاياها بدء بالشيوعيين واليهود والغجر وحتى المثقفين ورجال الدين، وأقسمت يومها ألا أوفر جهدا في النضال ضد كل أشكال الفاشية وفي كل مكان وزمان وعبرت عن قسمي هذا بالانتساب إلى الحزب الشيوعي الطليعي في مجابهة الفاشية في الماضي والحاضر.
اليوم إذ تستفحل الفاشية في ما كان يسمى "العالم الحر" وفي بلادنا بشكل خاص باشتداد وحشية الاحتلال وفرض حصار خانق على الشعب الفلسطيني وإقامة جدار الفصل الذي يذكّر بتلك المعسكرات، وارتفاع أصوات الترانسفيريين ووصولهم إلى الحكومة وتفشي مظاهر العنصرية ضد العرب وتشريع هذه العنصرية بقوانين وممارسات على المستويين الرسمي والشعبي، كل ذلك لا يترك مجالا للحياد أو للامبالاة أو للوقوف خارج السياج، بل يدفع شيوعيا، قلبا وقالبا مثلي، إلى اقتحام الميدان وتنفيذ العهد والوقوف جنبا إلى جنب وفي الصف الأمامي مع المقاتلين ضد الفاشية في العالم وفي هذه البقعة من الأرض.
وانتسبت قبل ثلاثين عاما إلى الحزب بعد أن اعتقلت تعسفا وإرهابا في زنزانة بسجن الجلمة وفي محاولة لردعي عن السير في طريق النضال ضد سياسة التمييز العنصري والاحتلال والحرب والتجنيد الإجباري المفروض عل أبناء الطائفة العربية الدرزية، وقد خرجت من المعتقل أكثر إيمانا بصحة موقفي وعدالة القضايا التي دافعت عنها وكان يغمرني إحساس بأن الرد على هذا الاعتقال الإرهابي هو بتعميق النضال ضد الاضطهاد، أي في صفوف الحزب الشيوعي الذي شكل، ولا يزال، القوة الأمامية في هذه المعركة.
التغيير الذي طرأ على مواقف أبناء الطائفة الدرزية في الجليل والكرمل، بعد ثلاثين عاما، أي الرفض المبدئي والقوي لسياسة التمييز العنصري ولسلب الحقوق والاعتداء على الكرامة والأرض، أصبح يثير الانفعال والأمل باقتراب عودة هذه الطائفة العربية الى جذورها ومكانها الطبيعي مع شعبها وأمتها، وقد قدمت البقيعة مؤخرا نموذجا رائعا لهذا الرفض ، وهذا لم يأت من لا شيء، بل هو الرد الطبيعي على استشراس  السلطة وهو التعبير الأصدق عن تعمق الوعي السياسي بين أبناء الطائفة الدرزية، من جهة أخرى، ولا شك بأن على كل فرد تحمل مسؤوليته من موقعه أولا ثم برص صفوف المناهضين الحقيقيين لهذه السياسة.
ألتقي المئات من أبناء وبنات شعبنا من الأجيال الشابة، في إطار محاضرات وندوات في المدارس والنوادي الثقافية، وفي كل لقاء أصاب بحزن شديد لما آلت إليه حالة هذا الجيل في ظل سياسة العدمية القومية والتجهيل والتسيب والاستهتار بالقيم الإنسانية والاجتماعية والأسرلة التي تقودهم إلى فقدان الهوية والضياع وبالتالي إلى التجنيد في الجيش، تطوعا في البداية وخدمة مدنية ثم إجباريا، وقد لمست جهل العديدين من أبناء وبنات هذا الجيل لتراثهم القومي والثقافي والحضاري وتغلغل الخطاب الصهيوني إلى وعيهم المشوه، ولا يجوز لجيلنا في شوطه الثاني إلا أن يتحرك بشكل قوي وفعلي لإنقاذ هذا الجيل قبل فوات الأوان، وهذا التحرك لا يقتصر فقط على هيئات وأحزاب وتنظيمات بل يجب أن يطرح كقضية قومية ووطنية من الدرجة الأولى بشموليتها وخطورتها على مستقبل وجودنا هنا في وطننا.
يقلقني هذا الحال، ليس فقط كشيوعي بل أيضا كأب وجد آمن قبل ثلاثين عاما بأن النضال من أجل ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة هو ضرورة وغاية من غايات انضمامه إلى الحزب، وأرى بعد ثلاثين عاما أن الضرورة اليوم لضمان مستقبل أفضل لجيل الأحفاد وأبناء الأحفاد هي أكثر إلحاحا ولا تسمح لأحد بأن يكون محايدا.
ترعرعت في الحزب على الثقافة التقدمية والعربية الفلسطينية المقاومة وفي سنوات عملي في جريدة "الاتحاد" ومجلة "الجديد" و"دائرة الثقافة الحزبية" أسهمت بتواضع في تطوير هذه الثقافة والذاكرة الفلسطينية وواصلت حتى بعد تجميد عضويتي في الحزب عبر الكتابة والنشر والمواقع الثقافية الوطنية الأخرى ويحز في النفس وضع الثقافة الفلسطينية، هنا، المصابة بحالة من الترهل والتسيب وفقدان الهوية وضياع بوصلة الفكر والإبداع والاستهانة بأدب المقاومة الذي كان يشرف كل فلسطيني ووطني، وتراجع الثقافة الثورية والوطنية لصالح ثقافة سلطوية إسرائيلية تهدد لغتنا العربية وخطابنا التقدمي والوطني ولخدمة فكر غيبي ديني وطائفي دخيل على هذه الثقافة، ويؤلمني أن المواقع الحزبية والجبهوية التي كانت تنتج هذه الثقافة وتصوغها أصبحت معطلة مثل مجلة "الجديد" ومجلة "الغد" و"دائرة الثقافة المركزية للحزب والجبهة" والنوادي الثقافية والملحق الثقافي للاتحاد وغيرها من مرافق ومؤسسات مشروعنا الثقافي الوطني التقدمي.
لست ممن رثوا ويرثون ثقافة المقاومة التي تميز خصوصية عطائنا الابداعي وكوننا في الخط الأمامي في مواجهة الفكر الصهيوني والثقافة الرجعية والكولونيالية التي تنشرها اسرائيل في البلاد والمنطقة.
في هذه الظروف نحن بحاجة إلى هذه الثقافة أكثر من أي وقت مضى، ومن يدعون إلى نفي هذه الثقافة يروّجون لخطاب ثقافي سلطوي وعدمي أو قوموي أو غيبي وهذا يهمش الثقافة والمثقفين ويبعدهم عن مواقع النضال دفاعا عن كرامة الإنسان وقيم المساواة والديمقراطية والحقوق الوطنية وعن مناهضة كافة أشكال الاحتلال والعنف وعن الدفاع عن حقوق المظلومين  وحرية الإبداع والتفكير وعن العودة إلى تراث حضاري عريق.
خلال ثمانية عشر عاما لم أنطو على نفسي ولم أعتزل النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري وقد مارست نشاطي في جمعيات ومؤسسات أهلية تعمل من أجل السلام والعدالة والثقافة، وكانت رؤيتي دائما بأن هذه الجمعيات ليست بديلا للأحزاب بل هي مكملة لدور هذه الأحزاب السياسي أولا ثم الاجتماعي والثقافي، ولا شك أن عددا كبيرا من هذه الجمعيات يقوم بعمل وطني كبير وتاريخي، ولكن وما يحدث في السنوات الأخيرة هو أن بعض الجمعيات تعمل، بوعي أو بلا وعي، في محل الأحزاب السياسية وبأدوار محددة وعينية وتخصصية بتوجهات إصلاحية تحول الفعل السياسي إلى جهد تطوعي خيري، وفي الوقت ذاته فان ضعف العمل الحزبي يؤدي إلى إخلاء الفضاء للعمل الأهلي فقط  أو تحويل بعض الجمعيات إلى ذروع حزبية للتغطية على الكسل والترهل وهذا يثير حالة من النزوع إلى فرداوية تمس بالفعل السياسي النضالي، وفي هذه الجمعيات والمؤسسات الأهلية قوى وطنية وتقدمية عديدة تود أن تنشط حزبيا، إلى جانب نشاطها الجمعياتي أو تقدما عنه، إذا توفرت حالة نهوض تأخذ فيها الأحزاب السياسية وبخاصة الحزب الشيوعي والجبهة دورا نهضويا فاعلا وخلاقا يضفي على الفعل الثقافي والخلق الإبداعي  زهو التأثير على الوجدان العام والوعي الجماعي.
أتابع بكثير من القلق النقاش الدائر حول علاقات الجبهة والحزب، ومصدر هذا القلق أن هناك أعضاء في الحزب وفي الجبهة لا يدركون كنه وعمق العلاقة بين مركبات الجبهة وطبيعة العمل الجبهوي.
اعتقدت ولا أزال أعتقد، وبثبات أعمق،  بأنه لا يمكن أن تكون جبهة سياسية تقدمية ديمقراطية دون حزب شيوعي يشكل محركها الأول ويحيك مع حلفائه، بشكل ديمقراطي، نسيج العلاقات الطبيعية بين جميع مركباتها، وشرطها الأساس هو ألا يقوى مركب جبهوي على حساب مركب جبهوي آخر بل معه على حساب قوى مناهضة وهذا لا يلغي مبدأ التعددية الفكرية والسياسية على قاعدة ثوابت وطنية وقيمية في الجبهة نفسها.
على خط النار هذا اخترت التقدم إلى الصف الأمامي في مواجهة الفكر الصهيوني والكولونيالية الجديدة وعولمة الاستغلال والظلم والإرهاب مع رفاق أثمن عاليا مثابرتهم وتضحياتهم وثوريتهم وروحهم النضالية.
لقد تسنى لي في الأسابيع الأخيرة المشاركة في ثلاثة نشاطات لكل منها رونقه وجماليته وحميميته ورمزيته أيضا، وكانت هذه المشاركات خيط الشمع الذي ربط دوافع تجديد نشاطي في الحزب.
 كانت المشاركة الأولى في البقيعة، في يوم دراسي تجلت فيه الصورة المشرفة لمواقف أهل هذه القرية الجليلية الرائعة الذين تحدوا ببسالة ووحدة صف صلف السلطة وأدواتها القمعية، وأصغيت بإمعان في هذا اليوم إلى صوت عال وعميق من الإحتجاج على الغبن وكسر مسلمات كنا نتمنى كسرها.
المشاركة الثانية كانت عندما شرفتني جبهة أبو سنان بالتحدث في افتتاح مؤتمرها وهناك التقيت الرفاق القدامى ممن بقي بينهم على قيد الحياة وكانوا كما عهدتهم قبل سنوات عديدة يتوهجون حرارة ثورية ونضالية.
 المشاركة الثالثة كانت قبل أسبوع في مؤتمر التأسيس لحركة "ترابط" الذي جمع العشرات من اليهود التقدميين المناهضين للصهيونية وللسياسة الإسرائيلية وقد ترعرع عدد كبير منهم في الحزب والجبهة وفي صفوفهما تدربوا على كيفية السباحة  ضد التيار الصهيوني دون أن يغرقهم أو يجرفهم.
هؤلاء وأمثالهم من القوى اليهودية التقدمية كانوا وما زالوا رفاق النضال ضد كل أشكال الغبن والظلم والتمييز وقهر الإنسان على هذه الأرض الطيبة.
عندما وقفت وتكلمت في هذه المشاركات الثلاث أمام هؤلاء المناضلين وأصغيت إلى خطابهم الثوري، شعرت أن قرابة عقدين من الزمن لم تبعدني عنهم ولو للحظة واحدة.
أولئك كلهم قومي ، بدأت معهم قبل ثلاثين عاما ومعهم سأمضي ما تبقى لي من سنين...

(دالية الكرمل)

سلمان ناطور
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع