"إذا جَمَعَتْنا يــا جريرُ المجامعُ "..



ربع قرن "وأنا أعملُ ناطورا على كرمِ عنب.. والعناقيدُ صبايا.. وأنا.. أحرقَ الوهجُ مناديلي وأضناني السّغَب..".
رُبع قرن "وأنا أعملُ حدّاء.. وتمضي القافلة.. وأنا.. رَمِض الرّملُ على رجلي.. وشلّ الرّاحلة..".
رُبع قرن "وأنا أعمل مزمارا.. ولحني رئتي.. وأنا.. وَهَنت في النّفخ أنفاسي.. وذابت مهجتي"...
طيَّب الله ثراك أستاذي ومعلّمي شكيب وقد علّمتنا أنّ "اللّغة والأدب توأمان سياميّان .. فهل هناك وطنٌ بغيرهما؟ وهل يكون إبداعٌ وهل تكون هويّةٌ بدونهما؟ لقد أرادَ واضعو المنهاج أن يقنعوا الطّالب العربيّ أنّ أدبه مليء بقصائد المدح والهجاء، وعامرٌ بمعاني السّخف والبذاءة.
الطّينة بين يديك.. وعليك أن تشكّلها كما تريد..".
ولمّا كان عليّ أن أُشكّل الطّينة كما أريد، و"أريد" هو فعلُ إرادة، فقد كان إيماني ولا يزال وسيبقى أنّ هذه الطّينة تريدُ الحياة وتعشق الحريّة، وبالتّالى فلا بدّ للقدر أن يستجيب ويخضع، ولا بدّ لليل الظّلمة أن ينجلي، ولقيد الجهالة أن ينكسر. فهل هناك ما يبني الوطنَ ويصوغ هذه الطّينة غير المدرسة؟ وهل مهنة التّدريس إلاّ شكلٌ من أشكال المقاومة؟ المقاومة ضدّ غزو الفكر واحتلال العقول، ضد قهرِ الإنسانِ وتشويه إنسانيّتهِ ومبادئهِ، ضدّ التعصّبِ والتشدّدِ والتشنّجِ، ضد مؤامرةٍ ترمي إلى تقوقعِ الفكر وتعفّنه، ضد سياسةٍ خبيثةٍ يعمل على نسج خيوطها كثيرون لجعلنا حطّابين وسقاة ماء .
ولمّا كانت اللّغة هي الهويّة والتّاريخ والجغرافيا والثّقافة والحضارة، فإنّه على خطأ عظيم من يظنّ أنّها يمكن أن تكون يوما بمعزل عن المعركة السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والحضاريّة الّتي نخوضها منذ كنّا وكانوا..
ولمّا كان عليّ أن أُشكّل الطّينة كما أريد، فقد أردت لكلماتي أن تضيء، وأن تقولَ تماما ما أريد لها أن تقوله، رحت أتحدّى ذلك البحر الذي في أحشائه الدرّ كامنٌ، فتحملني أمواجه الى امرئ القيس وعنترة والنّابغة، إلى أبي الطّيّب وأبي نوّاس وأبي العلاء، إلى ابن كلثوم وابن الرّومي وابن زيدون، إلى كثيّر عزّة وقيس ليلى وجميل بثينة؛ وأغوصُ باحثا عن صدفاته الحلوة الجميلة أُوزّعها على تلك الطّينة بكرم وسخاء من تغمره سعادة المنتصر.
ولمّا كان عليّ أن أُشكّل الطّينة كما أريد، قرأت عليها أشعار محمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم وأبي سلمى وراشد حسين و..غنّيت.. بكتب اسمك يا بلادي، عالشّمس اللي ما بتغيب..
ولمّا كان عليّ أن أُشكّل الطّينة كما أُريد، قرأت عليها أعمال إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسّان كنفاني و.. تساءلت: متى يقرع جدار الخزّان؟؟ ولمّا كان عليّ أن أشكّل الطّينة كما أريد، قرأت عليها تاريخ الطبري ورحلات ابن بطوطة وأغاني أبي فرج الأصفهاني وأمالي أبي علي القالي، وقرأت خزانة الأدب وعيون الأخبار ونهاية الأرب والحيوان والبيان والتبيين.. فاقرأ.. إقرأ.. إقرأ يا بنيّ.." إقرأ وربك الأكرم، الّذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم".
ولمّا كان عليّ أن أُشكّل الطّينة كما أريد قرأت عليها القرآن والإنجيل والتوراة، ووجدت أنّ لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتّقوى، وأن اقرعوا يُفتح لكم.. فلا تدينوا إلاّ بدين الحبّ؛ حب الإنسان لأخيه الإنسان، حب الأرض والوطن، فالله محبة..
ولمّا كان عليّ أن أشكّل الطّينة كما أريد، فقد عملت دائما على الفصل بين منهجين؛ الأوّل الإنساني الّذي يلتزم بوسائل العقل ويستند الى القوانين العلميّة الصّارمة، والثّاني السّحري، الّذي ينكر حاجةَ العقلِ الى العلم. فأوروبا كانت نجحت بفصل المدرسة عن الكنيسة منذ القرن السّادس عشر، والمدرسة الحديثة في الشّرق والغرب لا تعتبر تفسير الكتب المقدّسة مادّة علميّة، بل ان دولة مثل الولايات المتّحدة لا تجيز قراءة الإنجيل في المدارس الحكوميّة حتى بعد انتهاء الدوام المدرسي، وهذا الموقف لا تتّخذه شعوب العالم لأنّها ملحدة، أو أقل إيمانا من العرب، بل لأنّ كلمة "العلم" تعني في مفهومها غير ما تعنيه في مفهوم العرب. فلماذا لا نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟؟ وبعد ربع قرن من البذل والعطاء.. أصبحتُ أخاف..
أخافُ على هذه الطّينة، على أبنائي، أبنائكم، أبناء هذا الوطن الصغير الكبير، أبناء هذا الجيل، جيل المستقبل الواعد..
أخافُ على هذه الطّينة من أولئك الذين يؤمنون بأن حياتنا منذ البدء وحتى الممات قضاء وقدر، فراحوا "يبيعون.. ويشرون.. خيالا.. وصور..".
أخافُ على هذه الطّينة من أولئك البسطاء، الّذين أضاعوا الكبرياء، ويعيشون ليستجدوا السّماء..
أخافُ على هذه الطّينة يحيطها السّاذجون، الّذين يحيون من دون عيون ..
أخافُ على هذه الطّينة من أولئك الذّين يصلّون ويزنون..
أخافُ على هذه الطّينة من جوقة تجترّ التواشيح الطويلة والأحلام الكسولة..
أخافُ على هذه الطّينة من عضاريط لا يعرفون من التربية إلاّ اسمها ورسمها.. فكيف تربّي على الشّجاعة وأنت جبان؟ وعلى المروءة وأنت عنوان النّذالة؟ وعلى الصّراحة وأنت منغلق على نفسك؟ وعلى الجرأة وأنت من خفافيش الظلام؟ وعلى الحريّة وأنت أسير؟ وعلى الكرم وأنت بخيل؟ وعلى والوفاء وأنت رمز الغدر؟ وعلى الفكر المستنير وأنت مخصي الفكر؟ وعلى قوة الشّخصيّة وأنت مهزوم؟ وعلى البناء وأنت هدّام؟ وعلى الحقيقة وأنت دجّال؟ وعلى الطّيبة وأنت أشدّ النّاس خبثا؟ وعلى النّظر بعمق وأنت أعمى؟ وعلى الحبّ وأنت ميّت القلب؟ بل كيف تعلّم وأنت ترتع في مستنقع الجهل والجهالة؟ وهل يعطي الشّيء فاقده؟؟ ولمّا كانت معركتي هذه هي معركة فكر وثقافة وإبداع، معركة تربية وصياغة وإنتاج، معركة شجاعة وحريّة، معركة هويّة ومصير، معركة تاريخ وحاضر ومستقبل، معركة رجالات الفكر وجميع المثقفين والمبدعين، معركة جميع الأصوات العقلانية والقوى السياسية والوطنية، معركة أن نكون أو لا نكون، فلا بدّ من توجيه تحيّة إكبار وإجلال الى كل الّذين قالوا كلمة حق حين عزّ قائلها، وكل الّذين عبّروا عن تضامنهم وتكاتفهم ضدّ هذه الحملة الشّرسة الضّروس، والى كل الّذين وقفوا موقفا شجاعا جريئا، طلابا وطالبات، آباء وأمهات، معلّمين ومعلمات، أصدقاء وزملاء، قوى سياسيّة ووطنيّة، كتابا وأدباء، فألف تحيّة لك عزيزي شاكر فريد حسن على مقالتك الجريئة بعنوان "معركة المربّي فريد نصّار"، تحيّة لكل الشّرفاء، وألف ألف شكر لكم ..

(عرابة)

*ملاحظة: ساعة إعداد هذا المقال، نشر في المواقع خبر حول قرار مجلس طرعان المحلي بفصل المربي فريد نصار، بعد القضية التي افتعلتها بعض قوى الظلام ضده، واتهمته بأنه يحرض على الدين الاسلامي... ومن هنا، عبر صفحات صحيفة التنور والتقدم، "الاتحاد"، نعرب عن تأييدنا للمربي نصار في وجه الحملة الظلامية في حقه.....

فريد نصار
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع