نحو حركة حقوق إنسان جماهيرية ووحدوية



*اللحمة الجماهيرية الرائعة التي تجلت في مظاهرة سخنين بين أبناء وبنات شعبنا من كافة تياراته ومشاربه السياسية والاجتماعية هي الكنز الأهم والسلاح الأقوى لدى جماهيرنا في معركة البقاء والتجذر والتطور* يبقى النضال الجماهيري الوحدوي المقرون باستراتيجيات مدروسة هو حجر الزاوية لكل حركة حقوق إنسان*

على الصعيد الشعبي، فان المظاهرة الجماهيرية المدوية التي جابت شوارع سخنين قبل أسبوعين كانت أكبر واهيب المظاهرات الوحدوية التي شهدتها ساحات جماهيرنا في السنوات الأخيرة. وقد عبرت جماهيرنا بحضورها المهيب عن غضبها واستنكارها للاستهتار المتواصل بمكانتها، والتي تجلت في قرار المستشار القضائي للحكومة إغلاق ملفات التحقيق ضد عناصر الشرطة المتورطة حتى النخاع بالعدوان الدموي على شبابنا الوطني في "هبة القدس والأقصى".
ويمكن لهذه المظاهرة أن تشكل نقطة انعطاف هامة في مستوى الاحتجاج الجماهيري لدى شعبنا بعد أكتوبر 2000. أولا، هذه اللحمة الجماهيرية الرائعة التي تجلت فيها بين أبناء وبنات شعبنا من كافة تياراته ومشاربه السياسية والاجتماعية هي الكنز الأهم والسلاح الأقوى لدى جماهيرنا في معركة البقاء والتجذر والتطور. ثانيا، المشاركة الهامة لقوى تقدمية يهودية في المظاهرة، كجزء لا يتجزأ من الموكب الجماهيري الهادر، حملت أيضا رسالة سياسية لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهميتها: النضال من أجل المساواة القومية في البلاد هو ليس نضال العرب ضد اليهود، بل هو نضال تحرري مشترك ضد الاضطهاد القومي والإقصاء وأساليب الهيمنة التي تتبعها المؤسسة الحاكمة.

 

*طروحات حقوق إنسانية*

إن الطروحات الرئيسية التي ترفعها الأقلية العربية وتناضل تاريخيا من اجل تحقيقها تعتمد على المفاهيم العالمية لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وخاصة الأقليات الأصلية في وطنها. إن طرحنا الأوسع والأشمل للمساواة المدنية والقومية يسترشد، بتوافق تام، بالمبادئ الأممية والإنسانية بخصوص المساواة الجوهرية، وتكافؤ الفرص، والمواطنة الكاملة والمتساوية، والشراكة الحقيقية؛ وبمبادئ العدل الأساسية. هذه هي طروحات حقوق إنسانية واضحة المعالم، تقرها الشرعية الدولية بنصوصها وأعرافها. وهكذا فان النضال الحقيقي في البلاد هو بين مناصري حقوق الإنسان بمفهومها الشمولي، من جهة، وبين مناهضي هذه الحقوق أو المتنكرين لها من جهة أخرى.
يقينا أن المساواة الجوهرية التي تضمن المشاركة الحقيقية المتكافئة لكافة المواطنين هي، قبل كل شيء، مشروع ديمقراطي. في صميم هذا المشروع رؤية حقوقية تشاركية لفكرة المواطنة المتساوية التي تنشد مجتمعًا عادلا يحقق للأقليات القومية شروطا حياتية على أرض الواقع لا تقل بمستواها الاقتصادي-الاجتماعي عن تلك المتوافرة لدى مجموعات الأغلبية. في المساواة التشاركية هذه معنى تحرري، يسعى إلى تحرير المجموعات المضطهدة من شروط التبعية والهيمنة؛ سواء أتحدثنا عن الهيمنة الرسمية المتمثلة في منظومة القوانين المجحفة، أو عن تلك الاقتصادية المتمثلة في ظروف الاستغلال والسيطرة. إن المواطنة الجوهرية والمتساوية التي تناضل الأقلية العربية من اجلها في البلاد تسعى لتغيير مجتمعي شامل يحوّل علاقات المواطنة القائمة في البلاد من علاقات "عاموديه" و"هرمية" إلى علاقات "أفقية" و"متكافئة"، قوميا واجتماعيا.
هذه المواطنة الجوهرية هي حجر الزاوية في بناء صرح مجتمعي متساوِ وعادل ومستقرّ، وهي حجر الزاوية في المنظومة العصرية لحقوق الإنسان عامة، ولحقوق الأقلية الفلسطينية في البلاد خاصة.

 

*تجربة المواطنين  السود في الولايات المتحدة*

وفي هذا السياق، فان تجارب حركات حقوق الإنسان في العالم ونضالها للتغيير القانوني والاجتماعي الذي نشدتة يمكن أن تشكل تجربة عالمية غنية للأقليات المضطهدة في أيامنا أيضا، من ناحية حجم التغيير الذي أحدثته وأساليب النضال التي اتبعتها. لنأخذ مثلا تجربة نضال المواطنين السود ضد الابرتهايد في الولايات المتحدة، على ضوء النجاح الذي حققته حركة حقوق الإنسان هناك في قهر نظام الفصل العنصري في الولايات الأمريكية في منتصف الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
لقد اجتاحت الولايات المتحدة سنوات قليلة بعد الحرب الأهلية فيها (1861-1865) حالة من الفصل العنصري العرقي، وخاصة في الولايات الجنوبية منها، وكأن المجتمع الأمريكي "الأوروبي" لم يكتف بنظام العبودية الذي قضى باستعباد السود منذ اليوم الأول للهجرة الأوروبية إلى القارة الأمريكية ولعشرات العقود من الزمن. وشمل نظام الفصل العنصري كل مرافق الحياة الأمريكية، من المدارس والجامعات والباصات والقطارات والمطاعم والملاعب وحتى حمامات السباحة المراحيض. وغالبا ما جاء هذا الفصل بحسب القانون الرسمي في كل ولاية وولاية (القوانين المعروفة بـ Jim Crow Laws) وذالك تحت غطاء الشرعية القضائية الذي وفرته المحكمة العليا الأمريكية الفدرالية التي أجازت لسنوات طويلة هذه القوانين. لقد كان هدف هذا الفصل العنصري إقصاء المواطنين السود واضطهادهم، وتكريس النظرة الدونية إليهم كمواطنين من درجة ثانية أو ثالثة.
لقد نجح المواطنون السود في منتصف الخمسينات والستينات من القرن الماضي في التحرر من نظام الابرتهايد وإلغاء كل قوانين التفرقة العنصرية، وذالك اعتمادا على حركة حقوق إنسان جماهيرية تحررية ارتكزت على قاعدة واسعة من المشاركة الشعبية والاحتجاج المنهجي. ويمكن الجزم هنا أن هذا التحول التاريخي في حياة السود الأمريكان لم يكن ليتحقق لولا توفر ثلاثة عناصر مركزية مجتمعة في حركة حقوق الإنسان هناك. أولا، النضال الجماهيري الشجاع الذي خاضه المواطنون السود جنبا إلى جنب مع مناصري حقوق الإنسان البيض من خلال المسيرات الاحتجاجية وأعمال العصيان المدني والنشاطات السياسية. ثانيا، أن هذا النضال تم تخطيطه ووضع استراتيجياته بشكل مدروس تحت سقف قيادة موحدة ومتفانية وقفت في الصفوف الأمامية للاحتجاجات الشعبية، أمثال المناضل الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينغ، احد ابرز قيادة حركة حقوق الإنسان الافرو-أمريكية. وثالثا، وضع غايات حقوقية واضحة المعالم تعتمد على خطاب المساواة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
يذكر انه وفي أعقاب أعمال الاحتجاج واسعة النطاق التي اندلعت هناك في صيف 1967 والتي قوبلت برد عنيف وقاس من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية، عين الرئيس الأمريكي ليندون جونسون لجنة تحقيق مهمتها التحقيق في وضعية المواطنين السود في الولايات المتحدة. وقد وضعت لجنة التحقيق (لجنة "كيرنير" 1968، على اسم رئيس اللجنة) بعد أشهر معدودة من عملها توصيات عينية لمساواة مكانة المواطنين السود وتطوير ظروف معيشتهم في مجالات أساسية في الحياة مثل الإسكان والعمل والرفاه الاجتماعي، مرفقة هذه التوصيات بمقترحات تمويلية عملية. وحذرت اللجنة من أن عدم استدراك الوضع بشكل جدي وبنيوي سيدفع بالمجتمع الأمريكي نحو مجتمعين منفصلين ومتناقضين: احدهما "ابيض وغني" والأخر "اسود وفقير". وما زال هذا التحذير يرافق التجربة الأمريكية إلى أيامنا هذه.

 

*مطلب الساعة: حركة حقوق إنسان جماهيرية*

يعلمنا التاريخ، والأمثلة عديدة، أن النضالات التحررية للأقليات المظلومة هي نضالات شاقة وعنيدة. هي مسيرات وطنية من نوع "المسافات الطويلة". ولا يمكن الادعاء هنا بوجود وصفة سحرية جاهزة لنجاح هذه النضالات. إلا أن الحقيقة الأهم تبقى أن المصدر الأساسي الذي يمكن التعويل علية لهذه النضالات هو الجماهير بعينها ونضالها الدءوب المبني على القاعدة ومشتق منها.

 

وفي حالتنا، فأن مطلب الساعة نحو تحقيق أمنياتنا الوطنية هو حركة حقوق إنسان جماهيرية تحررية، في صلبها النضال الجماهيري الموحد والمقرون باستراتيجيات مدروسة لإحداث التغيير المطلوب. نحن بحاجة إلى حركة حقوق إنسان تستقطب أوسع قطاعات شعبنا، وخاصة الجيل الشاب الذي دائما ما يكون عماد أية حركة تحررية. نحن بحاجة لحركة حقوق إنسان تستقطب القوى الديمقراطية اليهودية في النضال المشترك للمواطنة الجوهرية المتساوية. حركة تعتمد على قاعدة عريضة للتغيير السياسي والاجتماعي. حركة واسعة للعدل الاشمل في البلاد: قوميا واقتصاديا واجتماعيا.
ويمكن الإشارة ها باقتضاب إلى ثلاثة عناصر مركزية عادة ما يجب أن تتوفر من اجل ضمان تقدم حركة حقوق الإنسان من محطة نضالية إلى أخرى:
 أولا، على الحركة أن تضع الطروحات والأفكار الثاقبة التي ترسم طريق التقدم والنجاح أمام الحركة. بدون المضامين الصحيحة، تبقي حركة حقوق الإنسان بلا وجهة.
ثانيا، على الحركة بلورة وتعزيز التنظيم الجماهيري. بدون تنظيم الجماهير، صاحبة القضية، تبقى الحركة بلا الوقود الذي يغذي تقدمها.
ثالثا، كل حركة حقوق إنسان بحاجة للعمل السياسي المدروس: برلمانيا، مدنيا وشعبيا. بدون العمل السياسي تبقى الحركة بلا المركبة التي تنقلها من محطة تأثير إلى أخرى.
هذه العناصر تكمل بعضها البعض في مسيرة التقدم ولا يمكن الاستغناء عن أي منها، كما لا يمكن لأحدها أن تنجح بدون الأخرى. هي حجر الزاوية لكل حركة حقوق إنسان.  

* الكاتب محاضر في كلية الحقوق في جامعة حيفا ومدير مركز "دراسات" للحقوق والسياسات.

د. يوسف جبارين
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع