دافوس ترسم الاقتصاد العالمي بألوان داكنة



جرت العادة أن تبدو أنباء كل من قمم دافوس سارة على العالم. وحتى في قمة العام الماضي عندما حاول نوريال روبين، أستاذ الاقتصاد من جامعة نيويورك، تحذير مشاركي المنتدى من أن أزمة جديدة تلوح في الأفق، فإن أجواء التفاؤل التي يشيعها كبار العالم بين أنفسهم منعتهم من أن يقتنعوا، وكأن لسان حالهم يقول (والمعذرة للأصل): «ما الذي نسمع من هجر المقال.. ما الذي يهذي به فينا نوريال؟».
أما في هذا العام فها هي دافوس ترسم الاقتصاد العالمي بألوان داكنة. وحسبما انتهى إليه الخبراء فإن الكساد سيستمر أطول مما كان يعتقد، أما آثاره فستعم العالم بأكمله. والمتسبب في هذا الوضع هو «العملاق الجريح» ـ الولايات المتحدة الأميركية.
هذه المرة كانت تنتظر خطاب نوريال في دافوس قاعة مكتظة بثلاثمئة مستمع جلوسا ووقوفا، من المتلهفين لسماعه وكأنه حامل وحي. في تحقيقها نقلت صحيفة لي تان السويسرية قوله بأن ما أصاب الولايات المتحدة ليس زكاما، بل التهاب رئوي، ليصل إلى أنه «لم يعد السؤال الآن ما إذا كان الركود سيضرب الاقتصاد الأميركي أم لا، بل أنه سيتعين على هذا الاقتصاد أن يهبط اضطراريا» (Le Temps، 2008. 01. 24. وبرأيه أن فقاعة العقار على وشك أن تنفجر في بريطانيا، إسبانيا، إيرلندا وفرنسا. أما ستيفين روتش، الاقتصادي ذائع الصيت من مورغان ستانلي، فقد صب الزيت على النار بتأكيده أنه عندما خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة 75 نقطة، فإنه تصرف في مسايرة للأسواق، لكنه بإزالته لآثار انهيار واحد فقد هيأ لخلق «فقاعات» أخرى جديدة.
إن الأطروحة القائلة بأن النظم الاقتصادية ليست متبادلة الاعتماد، لأن بقية العالم غير الأميركي يستند إلى البلدان ذات الاقتصاد الصاعد وخصوصا الصين والهند، لم تعد تقنع الخبراء. فالهبوط الشامل في أسواق البورصة يؤكد أن المستثمرين بمسلكهم لا يملكون سوى أن يحضروا أنفسهم لركود الاقتصاد العالمي في عام 2008.
وإذ حاول عدد من المشاركين الحد من هذا التشاؤم، إلا أن الكل يعترف بأن الوضع صعب للغاية. حاول البعض تهوين الأمر وتبرير ذلك بسببين، من جهة أن التاريخ سبق وبين قدرة الاقتصاد الأميركي على النهوض من جديد بعد كل كبوة،
ومن الجهة الأخرى يشيرون إلى أن الأصوات الأكثر تشاؤما إنما تنبعث من الولايات المتحدة ذاتها، ومن أفواه الذين كانوا بالأمس القريب يمتدحون البرازيل، روسيا، الهند والصين. لكن مجموعة هذه البلدان التي يطلق عليها «BRIC» BRIC = Brazil،Russia،India and) China)،
والتي أصبحت بمثابة القوة المحركة الجديدة للاقتصاد العالمي، لم تتسبب في أي قلق عندما كانت الولايات المتحدة تسير على طريق النمو الاقتصادي. لقد غيرت العولمة توازن القوى الاقتصادية العالمية، لكنه، حتى في دافوس، لا يمكن الاعتراف بذلك ببساطة.
«التشاؤم يظهر على خشبة المسرح في دافوس». هكذا عنون مراسل لا ستامبا الإيطالية لمقالته. وفيها بين الأخطار التي تحملها الأزمة في الولايات المتحدة لأوروبا ومصرفها المركزي. ويتساءل: «إذا لن يقدم هذا الأخير على خفض أسعار الفائدة فهل سيتعين على الحكومات فعل ذلك؟ أي، هل يمكن حفز الاقتصاد عن طريق ميزانية الدولة؟
على ذلك يجيب لاري ساميرس، وزير المالية السابق في عهد الرئيس بيل كلينتون، والذي كان أول من عرض في الولايات المتحدة حزمة خفض الضرائب كرد فعل على الأزمة: لا يزال الوقت مبكرا، فإذا كانت أمور كثيرة قد اتضحت فيما يتعلق بالنظام المصرفي الأميركي، فالوضع بالنسبة لأوروبا ليس كذلك بعد» (La Stampa، 2008. 01. 24).
يرى كثير من المشاركين أن السلطات الأوروبية لا تزال لحد الآن تبحث فقط في كم سيكون ثقل آثار المصائب الأميركية. لكن ذلك لا يعني دائما انتقاد قرارات المصرف المركزي الأوروبي. ويستشهد أنصار هذا القول في رأي كينيت روغوف،
أحد أبرز الاقتصاديين الأميركيين، والذي يدافع بحرارة عن جان كلود تريشيه: «خيرا يفعل المصرف المركزي الأوروبي عندما يحتفظ بالبارود جافا حتى تحين لحظة استخدامه». ويرون أن المصرف المركزي الأوروبي «استطاع لحد الآن أن يحافظ على سمعته دون خدوش».
ومنذ اليوم الأول عبر عدد كبير من المصرفيين والاقتصاديين والقادة السياسيين عن عميق قلقهم إزاء الاقتصاد الأمريكي الأعرج، موجهين سهام نقدهم المفتوح إلى مؤسساته وفي مقدمتها مجلس نظام الاحتياطي الفيدرالي، فهو بالذات من نثر بذور أزمة اليوم. وفي هذا لخصت الهيرالد تريبيون الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في دافوس على أنه «العملاق الجريح» (International Herald Tribune، 2008. 01. 24).
جورج سوروس، رجل المال الذي كنز ذهبا حين ضارب على خفض الجنيه الإسترليني عام 1992، ذهب بعيدا الأربعاء الماضي حين صرح بأن الركود الحالي سيضع نهاية وضع الدولار الأميركي الذي ساد سنين طويلة «كعملة إسكات» عالمية.
ومهما تحدثوا في دافوس عن ضرورة النظر إلى الوضع في سياقاته الواسعة، إلا أن المنتدى ظل محدودا بالتطلعات والحلول قصيرة المدى. وأحداث الأسبوع الماضي التي تمثلت في تذبذبات السوق الجنونية ورد الفعل الدراماتيكي من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أصابت مساهمي المؤتمر في أعماق أنفسهم وكرست أجواء الضياع.
بعكس ذلك حاول جون سنو، الأمين السابق للخزينة الأميركية ورئيس مجلس مديري Cerberus Capital Management الإيحاء بأنه إذا كانت أميركا ستنزلق إلى الكساد، فإنه «لن يكون طويلا أو عميقا»، وأن قوة الاحتمال الفطرية هي من خصائص الاقتصاد الأمريكي، وأن الوضع بدأ يصحح نفسه منذ الآن!
مع الصعود والهبوط الفوضوي في أسواق المال العالمية أنى لهذا العالم أن يسيطر على الأزمة؟ كان ذلك ما طرحه علماء الاقتصاد من حملة جائزة نوبل وكبار المديرين والقادة السياسيين، لكنهم يائسون في الحصول على إجابة. لقد أخذ التشتت يبدو سيد الموقف. لماذا؟ عندما تحدث أزمة في آسيا أو المكسيك أو روسيا أو غيرها، ينادي الغربيون والأميركيون بإيجاد نظام رقابي.
وهذه المرة قد يدعو البعض إلى تحويل صندوق النقد العالمي إلى منظومة للرقابة المالية العالمية الشاملة، لكن الجميع يعرف أن الواقع يختلف. ففي الاقتصاد الأمريكي، أكبر اقتصاد عالمي، يفضلون اتخاذ قراراتهم منفردين. وهذا من مظاهر عالم القطب الواحد الذي يخالف منطق الأمور، بما فيها أمور العولمة.
ستيفين روتش ونوريال روبين، متشائمان عظيمان في دافوس، كما أسمتهما صحيفة Die Welt الألمانية. ونقلت عنهما قناعتهما بأنه بعد الولايات المتحدة ستنعكس هذه الأزمة جديا على أوروبا لا محالة.

عبد الجليل النعيمي
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع