بعد مرور ثلاث سنوات على اغتيال الرئيس الحريري
إلى اين تقود الازمة السياسية في لبنان؟



,في مطلع الاسبوع الجاري، في العاشر من شهر شباط الجاري، فشلت من جديد، جهود الامين العام للجامعة العربية، عمرو موسى والوفد المرافق له في التوصل الى اتفاق بين قوى الموالاة وقوى المعارضة يُنهي الازمة السياسية في لبنان وبضمنها ازمة الفراغ الرئاسي، حيث يعيش لبنان منذ عدة اشهر بدون رئيس للدولة اللبنانية، وقد جرى تأجيل قضية انتخاب الرئيس للمرة السادسة عشرة للبت في امرها في البرلمان اللبناني في السادس والعشرين من شهر شباط الجاري.
وقد رافق فشل مهمة عمرو موسى تصعيد خطير للتجاذبات والتهديدات المتبادلة ومخاطر انفجار بؤر التوتر والصراع والفتن المدمرة. وقد برزت حالة العصبية منفلتة العقال من خلال التصريحات غير المسؤولة وغير الموزونة، تصريحات التلويح بعصا البلطجة العدوانية العربيدة وبتفجير واشعال نار حرب اهلية وطائفية في لبنان، من قبل بعض المسؤولين في تيار الاكثرية البرلمانية من جماعة الموالاة او تجمع 14 آذار امثال الفاشي سمير جعجع رئيس تيار القوات اللبنانية ووليد جنبلاط رئيس الحزب الاشتراكي التقدمي اللبناني.
برأينا ان لجوء قوى الموالاة بقيادة سعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى تصعيد حالة التوتر لم يكن صدفة، ولم يأت من فراغ، بل يرتبط بعاملين اساسيين يكشفان الى حد كبير مضمون وابعاد الازمة السياسية في لبنان، العامل الاول، ان هذا التصعيد جاء عشية الذكرى السنوية الثالثة لجريمة اغتيال الرئيس اللبناني رفيق الحريري والتي لم تحقق الاهداف التي خطط لها مرتكبوها من اعداء المصالح الحقيقية للشعب اللبناني وللبنان وتطوره الحضاري. والعامل الثاني، ان قوى الموالاة التي تستأثر بالسلطة (الحكومة) ولها الاكثرية في البرلمان ورغم الدعم الخارجي لها، الامريكي والفرنسي ومن بعض الانظمة العربية المدجّنة امريكيا – اسرائيليا فإنها عاجزة عن املاء موقفها على المعارضة وفرض حلول استسلامية عليها بعيدا عن صياغة حلول للتوافق الوطني وبلورة حكومة وحدة وطنية، تخرج لبنان من مستنقع الازمة السياسية التي تنذر بالكثير من المخاطر التي تهدد وحدة لبنان الاقليمية والوطنية.
إبان اغتيال الحريري قبل ثلاث سنوات قيّمنا وكتبنا في حينه عن ذلك، ان اغتيال الحريري كان اغتيالا سياسيا يقف وراءه وينفذه من له مصالح واهداف سياسية يتوخّاها من وراء تنفيذ هذه الجريمة، مصالح واهداف تتناقض بشكل صارخ مع المصالح الحقيقية للشعب اللبناني ومستقبل تطوره. واكدنا في حينه ان اغتيال الحريري يعتبر جزءا عضويا من المخطط الاستراتيجي التآمري العدواني الامريكي – الاسرائيلي لخلق البلبلة في لبنان او ما يطلق عليه حسب الاستراتيجية الامريكية "الفوضى الايجابية" التي ترجمتها على ارض الواقع تمزيق وحدة الصف الوطني وتأجيج الصراعات والفتن الداخلية، وذلك بهدف اختراق لبنان امريكيا وخلق الظروف لاقامة نظام جديد في لبنان مدجن امريكيا واسرائيليا ويقضي على المقاومة اللبنانية ويضع سوريا ونظامها بين فكّي الكماشة – العراق من جهة واسرائيل ولبنان من جهة اخرى.
واثبت مسار التطور والصراع في لبنان منذ اغتيال الحريري وخلال السنوات الثلاث الماضية صحة تقييمنا، بان الاذرع الدموية لمخطط استراتيجية الهيمنة الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة هي التي اجرمت بقتل رفيق الحريري، وقد جرى ابان وبعد اغتيال رفيق الحريري السمسرة بدمه المهدور لتحقيق اهداف استراتيجية تخدم مصالح التحالف الدنس بين قوى الاقطاع الطائفي والاثني المتبرجز في لبنان وبين الامبريالية الامريكية ومخططها الاستراتيجي، واستعداد قوى التواطؤ اللبنانية هذه لخدمة استراتيجية الهيمنة الامريكية.
وعمليا باغتيال الحريري بدأت تبرز ملامح "الفوضى الايجابية" من خلال الفرز السياسي العميق والواسع بين تيارين اساسيين، تيار يبدي استعداده ويهرول للاندماج في اطار المخطط الاستراتيجي الامريكي ويتخذ من العداء لسوريا وايران والمقاومة اللبنانية ذريعة لدخول القن الامريكي. اما الثاني فينضوي تحت لوائه القوى السياسية والاجتماعية المناهضة للهيمنة الامريكية – الاسرائيلية ولمخططها الاستراتيجي ضد لبنان وشعوب وبلدان المنطقة، وفي مركز هذا التيار المقاومة اللبنانية وبضمنها وفي مركزها حزب الله وحركة امل والحزب الشيوعي اللبناني والتيار الوطني الحر وعدد آخر من التنظيمات الدمقراطية والوطنية.
وفي اطار المخطط التآمري الامبريالي – الرجعي اللبناني تصاعدت الهجمة ضد الوجود السوري في لبنان ومن اجل اخراج القوات السورية والمخابرات السورية من لبنان وتوجيه اصبع الاتهام بتحميل النظام السوري مسؤولية اغتيال الحريري. وعلى خلفية السمسرة بدم الحريري وتصعيد العداء لسوريا وبداية الشنشنة ضد المقاومة اللبنانية وكل من له علاقة بسوريا وايران، جرت الانتخابات النيابية اللبنانية التي افرزت او الاصح ثبّتت الفرز السياسي بين تيارين، تيار تحالف قوى 14 آذار المؤلف من كتلة المستقبل برئاسة سعد الحريري والجيش اللبناني برئاسة المجرم الفاشي سمير جعجع والحزب الاشتراكي التقدمي برئاسة وليد جنبلاط وغيرهم. وقد حصلوا على الاغلبية البرلمانية والّفوا حكومة برئاسة فؤاد السنيورة، غالبية وزرائها من الموالاة، مقابل تحالف بين حزب الله وامل والجنرال عون. واخرجت سوريا قواتها ومخابراتها من لبنان، واعتقد المتآمرون على وحدة لبنان ومستقبله انه بخروج القوات السورية من لبنان اختل ميزان القوى في الداخل اللبناني لصالح تحالف قوى 14 آذار المدعومة من الامبريالية الامريكية والفرنسية وبعض انظمة الخمة العربية، وانه بالامكان حسم الصراع ضد المقاومة اللبنانية "سلميا" بتجريد المقاومة من السلاح. ولكن خروج مئات الالوف من الجماهير الى الساحات والشوارع كانت الدرع الواقي للمقاومة والكفن الذي جنّز محاولة المتآمرين تجريدها من السلاح.
وفشل حسم الصراع سياسيا لصالح تحالف 14 آذار، الفشل في تجريد المقاومة اللبنانية والمخيمات الفلسطينية من السلاح بهدف اقامة نظام لبناني مدجن امريكيا – اسرائيليا، هذا الفشل كان من العوامل التي دفعت قوى الطغيان الامريكي – الاسرائيلي وعملاءهم في لبنان الى محاولة حسم الصراع من الخارج بواسطة حرب تدميرية عدوانية اسرائيلية مدعومة امريكيا وبتواطؤ من انظمة التخاذل العربية. حرب كانت اهدافها كما اكدت ذلك ايضا لجنة فينوغراد، القضاء على المقاومة اللبنانية وبنيتها التنظيمية، تصفية النفوذ والوجود العسكري والسياسي لحزب الله في جنوب لبنان ومن كل لبنان، القضاء على احد مواطن "محور الشر" في لبنان كمقدمة لضرب وتشديد الضغط على سوريا وايران وحماس وكل من يناهض استراتيجية الهيمنة الامريكية الاسرائيلية. هذا اضافة الى هدف اقامة نظام مدجن امريكيا في بيروت يكون احد المداميك الاساسية في بناء "الشرق الاوسط الكبير" من الانظمة المدجنة امريكيا العربية وغير العربية واسرائيل وبزعامة الامبريالية الامريكية. ورغم جرائم الحرب التي ارتكبها الغزاة الاسرائيليون من مجازر ضد المدنيين اللبنانيين وتدمير البنية التحتية والاحياء السكنية في جنوب بيروت وقرى الجنوب اللبناني الباسلة بأهلها وبمقاوميها، رغم كل ذلك فقد فشلت الحرب الاسرا-امريكية عسكريا وسياسيا وحققت المقاومة اللبنانية انتصارا تاريخيا بتمريغ انف غطرسة الجيش الذي لا يقهر في الوحل اللبناني. وقد اقر تقرير فينوغراد بهزيمة المعتدين الاسرائيليين.
وفشل الحرب الاستراتيجية الاسرا-امريكية في تحقيق اهدافها العسكرية والسياسية وتصاعد واتساع شعبية المقاومة اللبنانية لم يردع قوى 14 آذار ويجعلها تستخلص النتائج والمعطيات الجديدة التي تمخضت عن الحرب التدميرية الاجرامية. فبعد انتهاء الحرب طالبت المقاومة اللبنانية باقامة حكومة وحدة وطنية من مختلف الاطراف، وذلك بهدف اعادة اعمار لبنان لترميم واعادة بناء ما دمره همج البشر، وكذلك انتخاب رئيس جمهورية توافقي. ولكن تحالف 14 آذار رفض هذا المطلب الوطني مراهنا على دعم الاختراق الاجنبي للبنان، وخاصة الامريكي وخدامه العرب، في حسم الموقف لصالحهم. وردا على هذا الموقف المعادي للمصالح الوطنية اللبنانية انسحب نواب حزب الله وجماعة عون من الحكومة ليشغلوا مقاعد المعارضة، واصبحت حكومة السنيورة عمليا لا تمثل غالبية الشعب اللبناني، فخروج الاحزاب الشيعية حزب الله وأمل ومجموعة عون جعلت من حكومة السنيورة حكومة غير شرعية. وبرزت قضية انتخاب رئيس للدولة بعد ان انتهت المدة القانونية للرئيس اميل لحود في شهر تشرين الثاني الفين وسبعة. وتحولت هذه القضية الى ازمة سياسية حيث ان كل طرف، لا الموالاة ولا المعارضة، لا يملك ثلثي اعضاء البرلمان لانتخاب رئيس من مجموعته. ولهذا جرى ويجري التفاوض وبتدخل قوى خارجية اجنبية وعربية لحل الازمة من خلال الاتفاق على مرشح رئاسة توافقي. ووافق الطرفان على مرشح توافقي هو القائد العام للجيش اللبناني الجنرال ميشيل سليمان، ولكن المعارضة توجهت بطلب حل الازمة من جذورها وبشكل يضمن وحدة لبنان في بناء لبنان المستقبل.
طالبت المعارضة الا تستأثر الموالاة – حكومة السنيورة غير الشرعية – بالسلطة، حيث يجري الاتفاق على مشاركة المعارضة بالسلطة في تسلم وزارات حكومية وان يجري تقاسم وظائفي في الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والاكثرية والمعارضة. هذا اضافة الى مطالبة المعارضة بتعديل الدستور الحالي القائم على المحاصصة الطائفية والانتخابات المنطقية الذي اصبح يتناقض مع معطيات التغيرات السياسية والديموغرافية الحاصلة في لبنان.
ان رفض قوى الموالاة لمطلب المعارضة بالربط العضوي بين انتخاب رئيس جمهورية توافقيا وبين "سلة تفاهمات توافقية" في مركزها تركيبة الحكومة ونهج عملها، هذا الرفض يكمن في تعميق حدّة الازمة السياسية واطالة امدها. وعدم رضوخ المعارضة لاملاءات الموالاة جعل بعض قادة الموالاة يفقدون اعصابهم ويهددون باشعال نيران حرب اهلية مدمرة في لبنان. وللاسف الشديد ومنذ اغتيال الحريري يشغل رئيس الحزب الاشتراكي التقدمي دور بوز مدفع التحريض على المقاومة اللبنانية وسوريا لدى تحالف 14 آذار والمدافع الامين عن استراتيجية الاختراق والهيمنة الامريكية – الفرنسية في لبنان والتحالف معها. فعلى خلفية فشل مهمة الامين العام عمرو موسى، خرج وليد جنبلاط من حبال عقله واخذ يهدد بشكل جنوني حيث صرح "بان قوى الرابع عشر من آذار قد تضطر الى حرق الاخضر واليابس اذا استمر الصراع في لبنان"، وفي تهديد موجه الى حزب الله يقول "اذا كنتم تظنون اننا سنقف مكتوفي الايدي، فهذا امر من الخيال، تريدون الفوضى؟ اهلا وسهلا بالفوضى، تريدون الحرب؟ اهلا وسهلا بالحرب، لا مشكلة السلاح نأخذ الصواريخ منكم"؟! وتصريحات شبيهة من الفاشي سمير جعجع وغيره. ولكن رد حزب الله وحلفائه على هذه التصريحات الجنونية كان متعقلا وحكيما وحاسما في رفضه لهذا النهج وتمسكه بأهمية حل الازمة عن طريق الحوار وبلورة وفاق وطني يخدم المصالح الحقيقية لتطور الشعب اللبناني والوطن اللبناني.
ان ما يثير القلق ان يشعل "محراك الشر" من الخارج والداخل نيران الفتنة الطائفية والسياسية في اجواء مشحونة بالعداء وبالتحريض الدموي التي سترافق النشاطات التي تنظمها مجموعة 14 آذار بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال الحريري التي تصادف في الرابع عشر من هذا الشهر. ما يثير القلق ان ينجح "محراك الشر" في تأجيج وتيرة "الفوضى الايجابية" من خلال استغلال حشود الالوف المؤلفة في ذكرى اغتيال الحريري لتفجير صراعات دموية.
هنالك انقسام خطير في لبنان، لبنان اصبح لبنانين، لبنان الموالاة ولبنان المعارضة، ولا يمكن ان يكون الحل "رأس يطبش رأسا"، فهذا حل كارثي قد يمزق وحدة لبنان ويقسم لبنان اقليميا ووطنيا، ومصلحة شعب لبنان ودور جميع الحريصين على وحدة واستقلال وتطور لبنان بذل كل الجهود من اجل وأد الازمة ومخاطرها من خلال التوصل الى وفاق وطني ووحدة وطنية تنقذ لبنان وشعبه من براثن اخطر مؤامرة تستهدف وحدته واستقلاله ومستقبل تطوره.
فيما كنت اختتم كتابة هذه المعالجة استمعت الى الخبر المفجع بقيام "محراك الشر" بارتكاب جريمة جديدة، باغتيال القيادي العسكري البارز في حزب الله الشهيد عماد مغنية في سوريا، فعماد مغنية من قادة المقاومة اللبنانية الذي كان له الدور البارز في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في لبنان وفي مقاومة قوات المارينز الامريكية والقوات الفرنسية الاستعمارية في لبنان. وبرأينا ان الايدي القذرة التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري هي نفسها الايدي المجرمة التي اغتالت عماد مغنية قبل يوم فقط من الذكرى السنوية الثالثة لمقتل الحريري. واختيار هذا الزمان والمكان في سوريا يعكس حقيقة الاهداف الاستراتيجية والسياسية المتوخاة من وراء هذه الجريمة والتي تندرج في اطار الاستراتيجية الاسرا-امريكية لتأجيج حدة الصراع وتفجير بؤرة "الفوضى الايجابية" خاصة في ظل الازمة السياسية الخانقة في لبنان. ومصلحة لبنان والشعب اللبناني يستدعيان في هذا الظرف المصيري وأد المؤامرة الجديدة من خلال التوصل الى صياغة اتفاق وفاق وطني بين الموالاة والمعارضة يقطع الطريق في وجه مخططات محور الشر الامريكي – الاسرائيلي السوداء.

د. أحمد سعد
السبت 16/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع