عيد الحب، ذات ليلة مقدسية..



بارد حالك وكالح هو الليل المقدسي. باردة، فجّة وفاجرة هي العزلة المقدسية. رنين بعض القطع النقدية في جيبه يبعث شيئا من الدفء في جسده. كل الظروف، إذًا، مهيأة لارتكاب الجريمة، قال بسخرية مرّة وعرّج نحو زقاق مكفهر. تنهّد بعمق: آه فقط لو كان ذاك الشيء رجلا، لشنقته من خصيتيه- قال لنفسه وأردف- لكنه، ما العمل، ليس من صنف البشر..
ما نفعته، من قبل، كل محاولات الكر والفر، كل محاولات الكبت والوأد والتنكر. أفلست سياسة العصا كعقم الجزرة. ما عاد في اليد حيلة، وما عاد له من رفيق سواها. ثلاث كؤوس أو أربع من البيرة المثلجة تفرح قلب الانسان وتخلِّصه من وغد لا ينفكُّ يلاحقة، قال في ذاته وشرع يحتسي نهما.
فجأةً..
وعندَ الساعةِ
الثالثةِ
والنصفِ
وخمسِ كؤوس.
العمى!
شو وين أنا ؟
داهمته المفاجأة، فلا فكه السفلي ارتخى، لا رأسه ثقلت ولا الهزال عربد. الضحكة لا تزال معاقة متثاقلة، بل انكمشت حد الموت. يودّ لو يدندن برضا وارتخاء. حتى هذه خذلته. العمى، شو، معقول طحت الجنة، حيث لا كحول في الكحول، ولا فحشاء في الفحشاء؟ حاول أن يفنطز على حلمه القديم ذاك. لم ينجح. لم ينجح حتى باسترجاع حلم، كان كلّما استذكره يغرق بدمع الضحك. كان يرى نفسه ترتجف من البرد في منطقة جليدية، هي سيبريا الفردوس، وكان يسألها، ما الذي جاء بك الى هنا. نفيتُ. وما الذي صنعتِه لتضيق بك رحمة الربّ، بعدما وسعتك وأدخلتك فسيح جنانه، وأنت أنت الماجنة. قلتُ، أكون عند حسن الظن والرحمة وألعبها قديسةً، فأخذتُ حصتي من حور العين، لكنني- وأنت سيد العارفين- ثورية من الصغر، لا أطيق اعوجاجا حتى صححته، إما بلساني أو بلساني، وإن لم تزبط فـ..بلساني.. المهم، أخذت حصتي، لكنني، وبدلا من الأورغيا، أجلستهن في منزلي، لأحدثهن عن الحرية. أكرمتهن، والله الشاهد، حرّضتهن على التوحد والمطالبة بحقوقهن، قلت لهن، حتى الزانيات بدأن يُقِمن النقابات، ولكن، صدق من قال "خيرا تعمل شرا تلقى" فقد كانت بينهن جاسوسة أو ربما أكثر، وشت أو وشين لدَرَك الفردوس الذي نفاني الى هنا. خَرْجِكْ يا، قال وانصرف. حتى هذا الحلم، يا للهول، ما عاد يخاطبه.
هذه المحاولة، إذًا، فشلت أيضا. لملم أشياءه بسهولة قياسية، بسهولة قاسية لا تطاق. المعطف مكانه وكذا النظارة وعلبة السجائر، حتى الولاعة مكانها. آه من الولاعة، ما كل هذا الأدب ولِمَ تندسّ في جيبه دون مشاكسة، كعهده بها اذ يثمل فتنتهز الفرصة راقصة الستربتيز، شم ولا تذق. تعذبه فيخرّ عند قدميها، تعالي يا بنت المحروق، دوّختني يا بنت العرص، فضحتني قدام الأجانب وجعلتني فرجة.
لحظة، قبل أن تهم بالرحيل، عندي لك زوج كلام. خاطبه مباغتا، هذا الذي آه فقط لو كان رجلا. جاءه من الخلف، ربّت على كتفه. استدار نحوه، فرآه ولم يره. ببرود السمك الميت، قال: أردتَ أن تغرقني بمشروبك نتن الرائحة. حقك، ولكن كيف نسيت، يا مغفل، أنني أتقن السباحة؟! كيف نسيت وأنت، أنت من علمني السباحة والرماية وركوب الخيل، شددتَ ساعدي فرميتك وركبتك وما أغرقتني.
قال وصمتَ لحظة يجس النبض. وجده ميتا، تمادى، همهم، وأضاف بما لا تعوزه الشماتة: ركبتك وأنت جحش والخيل منك براء. إخرس يا ابن الكلب، صرخ صاحبنا يرد المهانة، أو كاد. ظلّ الذي آه فقط لو كان رجلا صامتا. إنصرف، بل كاد. لكمه صاحبنا، بل كاد. تراجع كل منهما خطوة، تقابلا تماما. صارا في وضع يسمح بالمبارزة. وفجأة..
طارَ.
هرّبتِهِ، هرّبتِهِ، يا خائبة. أين، أين سأجده لجولة أخرى.. لمبارزة حقّة؟! انتهر نفسه متسائلا نزقا، فلم توفره هذه وكسرت صمتها الطويل: وكيف، كيف تجد، ثم كيف تبارز من لا ترى؟! من لا تعرف؟! ما هو ذا الذي جعلك تتشاجر وإياي في هذه الأماكن العامة لتجعلنا فرجة مجانية؟! تريد الإنتصار؟ إعرف عدوك أولا.. لا، أنت لا تعرفه، تقول أنه أحد اثنين، إما الحب أو الحزن، للتهوين عليّ. أنا في غنى عن خدماتك، وأسألك، لم لا يكون مزيج الإثنين معا، لم لا يكون حبا حزينا، أو حزنا محبا؟. بدأ يهدأ. يسمعها باهتمام. كأنه يقتنع فيما تقول. صمت. يطول. تهتكه: أو لم لا يكون شيئا ثالثا، لا هذا ولا ذاك؟. صمت آخر، أطول هذه، تمزقه إذ تردف متسائلة: كـ..الموت مثلا؟!. إلا هذا يا وجه النحس، إلا هذا.. خرج عن طوره صارخا. ارتعش جسده بهستيرية لم تطل. سرعان ما خبا كالكبريت. ارتبكت. أدركت أن الشعرة أوشكت تنقطع. اقتربت إليه. هدوؤها متسول. حضنها دفء أم. إستسلم بين يديها. أدرك أنها موشكة على البوح بما لا يجرؤ الإعتراف به. أنت يا حبيبي، لن تنتصر، فالظلال، عصية على الهزيمة، عليك بالأصل، يا بني، عليك بالأصل. وأين أجده؟ أنت أعلم. حد الله. بالطبع تعلم، وأول الخطوات، أن تصدقني القول. أنا لم أكذب. لكنكَ استهبلتني. أنا؟. لأ أنا!!
كيف ومتى؟ يوم قررتَ أن ما أسميته، آه فقط لو كان رجلا، ليس من صنف البشر. لكنه ليس رجلا بالفعل. صح، ولكن من قال أن ليس في البشر إلا الرجال. صمت ثالث، أطول من سابقيه. مرماكِ؟ سأل كمن يتوقع جوابا يخشاه. "هي"، أجابت كارهة كمن يبصق. صدّها حازما: خسئتْ. أصرّت:
ظلُّها إذًا؟!
مُسْـ..
قلتُ لا تكذب.
ربما،
إذًا..
أجاب منكسرا..

 


- شباط 2007

اللوحة المرفقة للفنان أمير سمارة، الطيرة- ميلانو.

بقلم: أمجد شبيطة
الجمعة 15/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع