ألعلاقة بين الخرافة الفلسطينية وعالم الاطفال



* أطروحة التي قدمتها السيدة حنان كركبي جرايسي من اجل نيل اللقب الثالث، دكتور *


هذا هو عنوان اطروحة الدكتوراة التي اعدتها السيدة حنان كركبي جرايسي بارشاد البروفيسور جاليت. ونالت عليها اللقب الثالث عام 2006. ولما بات الاهتمام بأدب الاطفال في السنوات الاخيرة كبيرا ومتزايدا يوما بعد يوم فان هذه الدراسة تأتي لتعرّف باهمية مثل هذا الادب في حياة الطفل العربي الفلسطيني من وجهة نظر اكاديمية. وبما ان انواع ادب الاطفال كثيرة تصل الى خمسة عشر نوعا لذلك فقد اختارت الباحثة نوعا واحدا من هذه الانواع الا وهو الخرافة، لأن دراسة كافة الانواع يتطلب عشرات الابحاث من اجل تغطيتها وهذا امر يكاد يكون مستحيلا في دراسة واحدة.
كانت معظم كتب الاطفال العرب مترجمة في الغالب عن اللغات العالمية لشعوب غير عربية. الا اننا لاحظنا في المدة الاخيرة اهتماما زائدا لدى كتابنا ومبدعينا المحليين فصدرت في العامين الماضيين عشرات الكتب باللغة العربية وضعت خصيصا كي تناسب الاطفال كل حسب سنّه. وقد قدم بعض المبدعين مجموعات من القصص الا ان ما صدر حتى الآن لم يتعرض للقصص الخرافية التي يرثها الابناء عن الآباء وعن الجدات بشكل خاص لأنهن يعنين بهذا النوع من القصص اكثر من الرجال، هذا وقد اتخذت الباحثة مجموعة من الخرافات التي سمعتها في منطقة الناصرة كنموذج لهذه الدراسة.
نحن لا ندعي ان كل ما صدر حتى الآن من كتب للاطفال قد بلغ المستوى المطلوب من مبدعي ادب الاطفال نثرا وشعرا. الا ان بعض هذه الكتب جاء جيدا ويتناسب مع سن الطفل وتطلعاته المستقبلية، فسدّت هذه الكتب فراغا هائلا في المكتبات العربية وقدمت خدمة جليلة للاجيال الناشئة الامر الذي سوف يشجع اطفالنا ابناءنا على المطالعة والقراءة في عصر قلّ فيه جمهور القراء بشكل كبير.

 

* منهج الدراسة في هذا البحث:

منذ المقدمة اكدت الدكتورة حنان انها اخذت بعين الاعتبار عدة امور اثناء دراستها لموضوع الخرافة وحياة الواقع في اكبر مدينة عربية في بلادنا – الناصرة عاصمة الجليل، فقد اعتمدت على: 1. علم النفس والتربية، 2. ادب الاطفال بشكل عام. 3. مجموعة كبيرة من المراجع باللغات الثلاث العربية، العبرية والانجليزية، وما ترجم عن لغات عالمية اخرى. 4. بعض دواوين الشعر. 5. كتب السلالات والموروث الثقافي العربي الفلسطيني (الفولكلور الحالي). 6. كذلك دراسة العلاقة الجدلية بين الخرافات وعالم الواقع الذي يعيشه اطفالنا والوقوف على مواقف العديد من الباحثين في الموروث الثقافي للطفل الفلسطيني. 7. كرست الباحثة فصلا خاصا لدراسة العلاقة بين النص والقرائن المتعلقة بالنص في القصص المختلفة لمختلف الاجيال خاصة، الخرافات الشعبية التي كان الاهل يروونها قديما لابنائهم والتي كادت تنسى من ذاكرة شعبنا – خاصة في مدينة الناصرة حيث تعيش الباحثة. 8. دراسة العلاقة القائمة بين الراوي/ة والطفل وبين الموقع وفحوى النصوص القصصية.
تركز هذا البحث اساسا على الاطفال ورواة القصص الشعبية خاصة النساء اللواتي يروين القصص اكثر من الذكور وذلك بناء على الابحاث السابقة في هذا المجال والتي تشير الى ان سرد الخرافات كان شائعا بين النساء – خصوصا الجدات – اكثر منه بين الرجال.
ولم تكتف الباحثة بذلك بل وجدنا انها تتطرق الى دراسة ردود فعل الاطفال اثناء سماعهم لنص الخرافة وتعليقاتهم في كل موقف، كما عملت على دراسة مضامين بعض الخرافات على اساس النظريات والابحاث التي عالجت قصص الاطفال لكتّاب بارزين امثال اريك فروم – 1947، جان بياجي – 1969، د.ج.يونغ – 1966، ودبورة كوبوبي – 1970 وبرونو بطلهايم – 1980 وعليزة شنهار – 1985، وأدير كوهين – 1990 وعبد التوّاب يوسف 1992، ونيبا بيري – 1994، وعبد اللطيف البرغوثي 1997.
كما اعتمدت نظريات اجتماعية وتاريخية لمفكرين امثال جاك زيفس 1974، ليئة فيرتانك 1978، سالينا فشج 1987، وشريف كناعنة وابراهيم موهاي 1989، وماريا خطار 1992، وعلي يسيف 1997 وآخرين. وفوق ذلك اضافت دراسة مقارنة للمجتمع العربي كما وردت في مؤلفات مفكرين كبار امثال هشام الشرابي 1987، داني ريبنوفتش 1996، مروان دويري 1987، حمد الله 2004 وآخرين. واضافت دراسة مقارنة في اعمال نمر خطيب 1984، عبد التواب يوسف 1992، جهاد عراقي 1992، محمود ابو فنة 1997 وآخرين. كذلك اجرت مقابلات مع بعض الرواة للوقوف على مواقفهم/ن عن القصص المروية وسبب اختيار هذه القصة او تلك وتطلعات كل منهم/ن الى ردود الفعل على رواياتهم/ن على ضوء ردود فعل الاطفال المتلقين لنصوص هذه القصص.
* الناصرة مركز البحث:
لما كانت دراسة الباحثة تدور حول قصص خرافية رواها الرواة لأطفال من مدينة الناصرة فقد وضعت مقدمة خاصة بالمدينة بيّنت فيها النقاط التالية، 1. موقع مدينة الناصرة. 2. احداثا تاريخية هامة مرّت بالمدينة. 3. تحول الناصرة من قرية عريقة بسبب بشارة السيدة مريم العذراء بأنها ستحبل بالروح القدس وتلد السيد المسيح، الى مدينة كبيرة، هي كبرى المدن الفلسطينية اليوم داخل الخط الاخضر أي في دولة اسرائيل. 4. وضعت قائمة مطولة بزيادة عدد السكان منذ العام 1800 عندما كان عدد سكان الناصرة 1500 نفس الى عام 2005 حيث بلغ عدد السكان 73000 نفس بموجب احصائيات بلدية الناصرة ووزارة الداخلية قسم تسجيل السكان. 5. بحثا عن تركيبة مجتمع الناصرة البشرية والانسانية. 6. كرّست الباحثة فصلا خاصة لتعريف بعض المصطلحات التي واجهتها اثناء دراستها واجرت مقارنة بين الحكاية والخرافة والاسطورة والروايات الشعبية المختلفة.
* اسلوب وطريقة البحث:
اعتمدت الباحثة حنان كركبي جرايسي في بحثها هذا اسلوب البحث الكيفي – التحليلي واسلوب تحليل النصوص من خلال ردود فعل الاطفال وموقف الراوي/ة في لقائه/ا مع الاطفال. كما ذكرت فحوى الخرافات الخمس التي اعتمدتها مستعينة بمصطلحات مثل: "الخيال الفعال او التأملية او الولادة من جديد او ملء الفراغات او مفهوم القصة المختارة او البحث الموسع" من خلال ابحاث السيدة دبورة كبوبي. من اجل ضمان عدم ضياع الدراسات والمقارنات لجأت الباحثة الى توثيق كل ما سمعته في مقابلاتها مع الرواة وردود فعل الاطفال على اشرطة تسجيل خاصة كي تتمكن من مراجعتها والتأكد من دقة التفاصيل من الناحية العلمية. بعد ذلك اخذت هذه النصوص الموثقة المذكورة واجرت دراسة خاصة لكل شريط بنظرة موضوعية مقارنة، الامر الذي تطلب مجهودا كبيرا من اجل الخروج بخلاصات دقيقة في كل حالة، فكان عليها ان تحلل مبنى كل خرافة ومضمون التناص لكل منها ولم تنس ان تكرس فصلا خاصا تحدثت فيه عن شخصية كل راو/ية وعلاقته/ا بفكرة الرواية ومضمون الرواية وسبب اختيارها.
اما الباب الرئيسي في هذا المجال فقد خُصص للناحية الفنية في الرواية والى جانب الديناميكا في التناص واسلوب السرد ومدى تفاعل الاطفال مع سير الروايات المختلفة، فكان من بين من درست اساليبهم المعلمة الراوية، الممثل الراوي، الجدة الراوية او الباحثة في الموروث الثقافي لأدب الاطفال. بعدها استطردت الى ذكر تفاصيل بعض الخرافات والاساطير مع ترجمتها من العربية الى العبرية. ولما كانت الدراسة شاملة فقد استعرضت وجهات النظر النفسية في ردود فعل الاطفال المتلقين لنصوص الروايات (الخرافات) ومدى اثر فحوى النصوص على عالم الطفل ومدى تفاعل الطفل مع شخوص هذه الخرافات التي تحمل في طياتها قيما ايجابية يحاول الراوي نقلها الى الطفل كما يتبناها بدوره. كذلك درست الباحثة مدى ما تعكسه هذه الخرافات على عالم الواقع الذي يعيشه الطفل الفلسطيني ابن الناصرة.
وفوق ذلك درست العلاقة بين الخيال الجامح احيانا في مضمون الرواية ومدى تأثره وأثره في عالم الواقع الذي يعيشه الطفل ومقدرة الطفل في التمييز بين الواقعي في الرواية والخيال المجنح الذي ينقل الطفل الى عوالم اخرى لا يمكن ان يتعرف عليها في حياة الواقع كما في خرافة "نص نصيص" او "جبينة" او غيرهما من الخرافات.
ان حكاية الخرافة هي فن خاص قائم بذاته وتكون الرواية ناجحة بمدى ما تحويه من عناصر التشويق المعروفة التي لا تخلو من روح الفكاهة والدعابة والمبالغة في تصوير الاحداث، الامر الذي يشجع الطفل كي يسرح في خيالاته مع سير عملية السرد، فيعيش الاحداث متلهفا لسماع المزيد من الخرافات الامر الذي يشجعه على قراءة روايات اخرى وحكايات خرافية او اسطورية او حتى واقعية عندما يتقدم به السن، وهكذا يكون لهذه الروايات اثر كبير في التشجيع على المطالعة والقراءة في مجتمع يفتقر الى القراء والقراءة.

 

* الخلاصة:

في نهاية البحث تصل الباحثة الى تلخيص النقاط الرئيسية في بحثها المطول فتقول: انها درست في بحثها هذا عن العلاقة بين الخرافات وعالم الواقع الذي يعيشه اطفال من مدينة الناصرة، وتؤكد انها وجدت ان عالم الابداع في الخرافات المروية للاطفال نجح في اثارة انتباه الاطفال وتمتعهم لدى سماع هذه الخرافات. فقد لاحظت ان الاطفال ارتبطوا بشكل واضح مع تفاصيل هذه الخرافات وتفاعلوا بشكل متواصل مع سير عملية السرد في انصاتهم انصاتا كاملا لسماع الروايات لدرجة ان الراوي/ة لاحظا ردود فعل الاطفال وبصوت عال قطع عملية السرد في تساؤلات حول امور لم ينتبه اليها الراوي/ة اثناء السرد، لم تهمل الباحثة الحديث عن الخرافات وموقفها من الحداثة في المجتمع المتطور لسكان الناصرة صغارا وكبارا. فمن جهة وجدت تمسكا بالخرافات والاساطير لدى الاطفال مقابل نزعة التحرر من هذا الجانر والميل الى ما نشاهده في حياتنا الحاضرة من تطور حضاري وثقافي يعيشه شعبنا على ضوء اللقاء المفاجئ بين الحضارة/ الثقافة العربية الاسلامية وبين حضارة الغرب، الحقيقة هي ان الدكتورة حنان كركبي جرايسي لم تتطرق الى موضوع العلاقة بين العولمة والحضارة العربية الاسلامية ولكننا نرى ان تلك الحضارة هي مزيج من حضارات مختلف مهاجر القادمين الجدد اليهود. فاليهودي القادم من امريكا جلب معه حضارة امريكية والقادم اليمني جلب ثقافة يمنية وهكذا المراكشي والفرنسي والالماني والروسي والهندي وغيرهم. لذلك كانت لدينا ردود فعل متفاوتة بين قبول ما يلائمنا من هذه الحضارات وبين رفضها والتمسك بتقاليدنا وعاداتنا الموروثة والاعتزاز بها.
أضف الى ذلك اننا لم نجد فوارق بين مصطلح حضارة عربية و/او ثقافة عربية لأن المصطلحين يحملان نفس المضمون مع فوارق قليلة جدا. لقد توصلت الباحثة الى ان هذه الخرافات اعطت صورة معبّرة عن قسم كبير من القيم التي يتمسك بها مجتمعنا بمركّباته الاجتماعية المختلفة. واوضحت السيدة حنان ان ثلاثة من رواة هذه الخرافات الخمس التي اعتمدتها ليسوا من الناصرة اصلا بل هاجروا اليها بعد عام النكبة 1948 او وصلوا اليها بحثا عن باب معيشة لهم.
ان تعدد منابع هؤلاء الرواة ينعكس على مضامين الروايات – الخرافات، وعلى اسلوب السرد وعلى علاقة الراوي بالاطفال بشكل متفاوت بطبيعة الحال.

* * *

* ألجماعة والفرد وأثرهما في عملية التناص: لاحظت الدكتورة حنان في خرافة جبينة ان الفرد لا يقرر مصيره، بل يشاركه باقي افراد العائلة في تقرير مصيره. وهكذا اكدت الخرافة ان مكانة العائلة ودورها في حرية الفرد هي احدى القيم التي تبحث فيها الخرافة، وتوصلت الى ان مكانة العائلة اهم بكثير من حرية الفرد التي يضمنها النظام الدمقراطي في العصر الحاضر.
ما نستنتجه في هذا المجال هو ان مجتمع الخرافة – كما في خرافة جبينة – لم يكن قد تعرف بعد على النظام الدمقراطي وعلى اهمية قيمة الحرية، حرية الفرد، في هذا النظام بدءا بالفرد الذي هو جبينة في هذه الحالة وانتهاء بالام والاب  والجد. ونحن نعرف ان الباحثة لاحظت محاولة تمرد الاطفال في عدة مواقف ضد تدخل الجماعة في تقرير مصير الفرد خاصة في موضوع اختيار الزوج شريكة الحياة.
وهنا اضيف ان ظاهرة تزويج البنات دون اخذ رأيهن في زوج المستقبل ما زالت قائمة في بعض شرائح مجتمعنا ولو ان هذه الظاهرة آخذة بالزوال. ذكرنا ان الاطفال اظهروا علامات تمرد في عدة مواقع خاصة ضد تدخل الجماعة في تقرير مصير الفرد او عند اختيار الفرد لشريكة حياته او شريك حياتها. ونحن نؤمن ان مثل هذه القيم قد تجذرت في موروثنا الاجتماعي وتركت آثارا سلبية في نفوس اطفالنا حتى عندما يكبرون، يظهر الامر جليا عندما يختار الفرد شريكة حياة من غير دينه او عندما تختار الفتاة شريك حياة من غير دينها. لذلك نحن نؤمن وندعو الى ان مجتمعنا اصبح بحاجة ماسة الى الخروج من قوقعة هذا الموروث الاجتماعي الذي يؤكد قيما تتعارض مع المضامين الدمقراطية ومع مفهوم الحريات الذي بتنا نؤمن به منذ ان تعرفنا كما ذكرنا على اسس النظام الدمقراطي كما فهمنا لعبة الدمقراطية قولا وفعلا.
يضاف الى ذلك ابراز ظاهرة القتل في الخرافة خاصة خرافة جبينة حيث قام الامير بقتل العبدة التي استبدلت جبينة وتزوجت من الامير دون ان يدري انه انما يتزوج من زنجية دهنت وجهها بطلاء ابيض وطلت وجه جبينة بطلاء اسود لتبديل المواقف. وقد قامت بذلك لأنها كانت تقاسي من التمييز اللاحق بها من اهل جبينة. نحن بحاجة ماسة الى تبديل جريء بالقيم للتخلص من هذا الموروث السلبي والانطلاق الى عالم متحضر يؤمن بالقيم الايجابية قيم التسامح والمسالمة التي نرجوها له.
في دراسة هذه القيم لاحظت الدكتورة حنان ان معظم الرواة اهتموا بالفصل بين دور الرجل ودور المرأة في تربية الابناء وتأكيد دور كل من الجنسين على الطريقة التقليدية التي يعيشها او كان يعيشها مجتمعنا العربي الذكوري الذي لم ولا ينصف المرأة في تعامله معها.
كذلك اكدت الباحثة اهمية تحويل مجتمعنا من مجتمع مستهلك الى مجتمع منتج وذلك كي يكون هذا المجتمع حضاريا حقيقيا. ان اهم ما توصلت اليه السيدة جرايسي حسب اعتقادي هو ان الخيال الجامح الذي تمثل في مختلف الخرافات، قد ترك اثرا كبيرا في العالم النفسي الداخلي والاجتماعي للاطفال وهو يقوم (أي الخيال) بدور الوسيط كي يعبّر الاطفال عن حياتهم العصرية فلا يقف امام تعبير الاطفال عن واقع حاضرهم بأنفسهم.
ويبدو ان هذه الخرافات وغيرها قد فتحت ابوابا جديدة امام الاطفال الى عالم متحرر من قيود الزمان والمكان، عالم فتح المجال امام التعبير عن الذات في جو داعم وآمن. وقد لمست الباحثة ذلك من ردود فعل الاطفال واحاديثهم ومواقفهم من شخوص الخرافات ومن تطور سير الاحداث في كل خرافة. فقد سمعت الاطفال وهم يتحدثون عن احاسيسهم، عن عالمهم الذاتي. عن انطباعاتهم وعن علاقاتهم بعائلاتهم (الاهل، الاخوة، الاخوات) وعن علاقاتهم الاجتماعية، كل ذلك تداخل مع عملية السرد للخرافات على مسامع هؤلاء الصغار.
كان واضحا للباحثة ايضا ان ردود الفعل كانت متفاوتة بين طفل وآخر وهذا امر طبيعي، فالخرافة قد تثير لدى هذا الطفل انطباعا خاصا مختلفا عما قد تثيره لدى طفل آخر، فهذا الطفل قد يتماثل مع احد شخوص الخرافة اما الآخر فقد يقف موقفا سلبيا منه!
ما لفت الانتباه ايضا ان بعض الاطفال تماثلوا مع شخصية البطل او البطلة القوية حتى ولو كان السلوك سيئا! هذا الامر يشير الى ميل الطفل الى الثورة على/ضد سلطة الاب او الام او أي من افراد العائلة المسيطرين فيها.
من الانطباع العام كنتيجة للبحث لعبت الفكاهة او النكتة دورا كبيرا في شد انتباه الاطفال لسير عملية السرد في التفاعل مع الخرافة مما زاد من عنصر التشويق لدى الاطفال لسماع المزيد. كذلك برز اهتمام خاص ببعض القيم لدى الاطفال ولكن بشكل متفاوت، ومع ان الراوي/ة لم يذكر هذه القيم باسمها الخاص الا ان الاطفال استوعبوا الرسالة من وراء الخرافة وكانت ردود الفعل متفاوتة بين السلب والايجاب، بين القبول لهذه القيمة وبين رفضها وذلك بسبب تفاوت خلفية كل طفلة الاجتماعية والاقتصادية. وقد درست الباحثة الفوارق بين تقبل الاطفال لبعض القيم التي تطورت في مفاهيم الاطفال او القيم التي تبناها هؤلاء الاطفال. فالطفل يرى الامور بمقاييس ذات طابع واحد ويميز بين القيمة الايجابية والقيمة السلبية من وجهة نظره الخاصة. فيتماثل مع القيم الجيدة ويرفض قيما اخرى. كما لاحظت الباحثة الفروق القائمة بين الرواة من ناحية سرد النصوص الى فنية السرد الى خانة التنفيذ العملي للمضامين في حياة الاطفال.
* تقييم الاطروحة: نعتقد ان السيدة جرايسي قد بذلت جهودا جبارة في دراسة موضوع الخرافة، تعريفها وتمييزها عن غيرها من الحكايات كالاسطورة او الحكاية الشعبية. فاذا كانت الخرافة عبارة عن تفكير يقوم على العلم ورفض مناهجه ويلجأ الى تفسير بعض الظواهر الجزئية في الكون في عصر العلم، بأساليب سابقة للعصر، فان الاسطورة هي ايضا حكاية ولكنها تحكي عن عصر لم يظهر فيه العلم الحديث ولا التقنيات المعاصرة التي تؤثر في الحياة وفي طريقة معرفة الانسان والعالم. فالفكر الاسطوري يقوم بتقديم تفسير كامل للعالم ولمجموعة من الظواهر في اطار بدائي، بينما تتعلق الخرافة بظاهرة واحدة او حادثة واحدة.
في العصور القديمة والبدائية كانت الاسطورة تمثل نظاما متكاملا في النظر الى العالم والى الانسان. وكان هذا النظام يتسم في كثير من الاحيان والتماسك الداخلي. اما الخرافات فكانت تتعلق بالتفاصيل، وهي قد تكون متعارضة او حتى متناقضة فيما بينها لأن احدا لا يحاول ان يوفق بين الخرافات المختلفة ويكوّن منها نظاما او نسقا مترابطا.
لم تذكر الباحثة اثر الالحاد في الخرافة وهو موضوع تناوله بعض الباحثين الذين رأوا في الخرافة محاولة للوصول الى الالحاد. هذا السؤال يطرحه رجال الدين خاصة المتطرفون منهم ممن يعتقدون ان كلا النوعين أي الخرافات والاساطير يعتمد ان الالحاد كآخر صيحة في عالم الجانر الادبي. والسبب في ذلك يرجع الى ان تفكير الانسان الملحد في تفسير العالم وظواهره الكونية ونظرته للانسان يتشابه بشكل كبير مع تفسير الخرافات والاساطير، لذلك يقف الالحاد مع الخرافات والاساطير مقابل العلم والدين. فالخرافات ترفض الكثير من المبادئ العقلية (كالسببية والتلازم وبطلان الترجيح بلا مرجح وبطلان التسلسل وغيرها) وتستغل الحقائق العلمية لاثبات وجهات نظرها.
الحقيقة هي ان الكثيرين من الملحدين على الرغم من تحصيلهم لمكانات عالية في العلوم يظلون متمسكين بالفكر الخرافي في كثير من جوانب حياتهم التي لا يمسها العلم مسّا مباشرا (كمن يدرس اللاهوت مثلا!).
ملاحظتي الثانية على هذا البحث هي في تعريف مضمون مصطلح الخرافة. فقد جاء في قواميس اللغة اكثر من تعريف ولكن اقربها الى المعقول هي انها مستملح مكذوب. وهي معتقد لا يعتمد على اساس من الواقع او من الدين مثل الاقوال والافعال او الاعداد التي يظن انها تجلب السعادة او النحس. وقد تنشأ الخرافة عندما يتوهم الانسان علاقة علمية ضرورية بين ظاهرتين بينما هي عرضية وطارئة.
فالكلمة مشتقة من الفعل خرف كنصر وفرح أي خرف فلان أي فسد عقله! وخرافة هو اسم رجل من بني عذرة استهوته الجن فكان يحدث بما يرى في عين خياله فكذبوه وقالوا حديث خرافة او خزعبلات! وفي حديث الناس فان الخرافة تعني الكذب والكلام غير المعقول وغير المنطقي أي من فعل الخيال. وهي لذلك مصطلح يشير الى البعد عن المنطق والمعقول. فاذا فشل الافراد في تفسير الاشياء تفسيرا منطقيا فيتصورون انه اذا قرأ احدهم برجه في احدى الصحف ووجد طالعه بمفاجأة سارة في الايام المقبلة فانه يمتلئ بهجة وسرورا ويصبح اكثر نشاطا لمجرد قراءة تلك السطور، حتى وان لم تحدث تلك المفاجأة السارة، وهكذا يلجأ البعض الى قراءة الكف وفنجان القهوة والاشباح والغول وما الى ذلك من الغيبيات التي لا تفيد في شيء ولو صدقت في بعض الاحيان فسيكون ذلك من قبيل الصدفة.
اما الملاحظة الثالثة فهي انني بحثت عن اسباب صياغة الخرافات في هذا البحث فلم اجدها، ونحن نعرف ان الخرافات انما تنتشر في مجتمع ما اذا كان ذلك المجتمع اكثر تخلفا وذلك لأن الخرافة ترتبط اكثر ما ترتبط بعناصر التشاؤم والتفاؤل والطيرة!
على الرغم مما ذكر فان هذا البحث المتعمق في اثر الخرافة على المجتمع هو بحث قيّم في القصص الشعبية بشكل عام وفي اثر اللقاء بين الراوي/ة ومضمون السرد وبين الاطفال، فالباحثة الدكتورة حنان كركبي جرايسي اهتمت بفهم الديناميكية القصصية وهي عنصر اساسي في مبنى الخرافة وفي فهم العلاقة بين عالم الراوي/ة وعالم الخرافة وعالم المتلقين الذين هم الاطفال في هذا المجال، فقد ظهر ان للسياق اثرا لا يقل اهمية عن النصوص ذاتها. كذلك لمسنا ان هذا البحث يؤكد اهمية ادب الاطفال بشكل عام وادب الاطفال العرب بشكل خاص، ذلك لأن هذا المجال لم يحظ حتى الآن بالكثير من الابحاث في وسطنا العربي الفلسطيني في اسرائيل.
في نهاية البحث قدمت الباحثة موجزا ملخصا لأهم ما جاء فيه وطرحت بعض التوصيات كي يؤخذ بحثها اساسا لأبحاث اخرى في هذا المجال. ولما كان البحث متركزا في مدينة الناصرة، فان تعميم النتائج على كل المدن والقرى العربية في البلاد سيكون مخطوءا وذلك بسبب ما تتميز به كل قرية وكل مدينة خاصة من قرى ومدن المثلث والنقب. اما اذا ما بادر باحثون آخرون لدراسة انواع اخرى من ادب الاطفال فان ذلك سيثري معلوماتنا ويوسع آفاقنا في فهم ادب الاطفال.
لذلك تقترح الباحثة – ونحن نؤيد فكرتها – اجراء دراسات مستفيضة في مجالات اخرى غير مجال الخرافة وهي كثيرة كما ذكرنا، كما تؤكد ان المجال واسع لدراسات اكاديمية اخرى خاصة اذا ما اقيم مركز خاص في اطار الدراسات الاكاديمية يستطيع ان يطور الدراسات والابحاث في هذا الموضوع الهام والمثير.
هذا وقد اطلعنا على رسالتي تقييم لهذه الاطروحة احداهما بقلم البروفيسور جاليت حزان روكام التي اشرفت على سير البحث وكانت المرشدة للدكتورة حنان في كتابة البحث والثانية بقلم الدكتورة هاجر سلمون الباحثة في الموروث اليهودي المقارن، وقد اكدت كل من الباحثتين ان دراسة الدكتورة حنان كركبي جرايسي هي دراسة متعمقة وجادة وتستحق منحها لقب دكتوراة على هذا البحث القيّم.
تهانينا لك ايتها الباحثة الدكتورة حنان كركبي جرايسي المتميزة، على هذا الابداع الذي جاء بلغة عبرية سليمة وممتازة وعلى الجهود التي بذلت لدراسة موضوع الخرافة وأثرها في عالم الطفل العربي النصراوي قديما وحديثا.
لكِ الحياة ايتها السيدة الجليلة.


(كفر ياسيف)

د. بطرس دلة *
الأربعاء 13/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع