شادية تعود إلى حيفا



عندما يطارد طفل رضيع، و عندما تطارد امرأة نفاس مباشرة بعد انجاب طفلتها، و عندما يعتبر الانسان متسللا في بيته و في وطنه فلا بد ان تكون الامور مقلوبة رأسا على عقب و أن الظلم و الاستبداد قد اصبحا سيدا الموقف.
هكذا كان حال الرضيعة حديتة الولادة شادية عودة الأشهببعد ان حملت بها والدتها المطاردة بتهمة التسلل الى وطنها وبيتها ملتحقة بزوجها الذي تنحصر مشكلته في عدم رضى السلطات عنه. و حين جاء المخاض وأتت ساعة الولادة يسارع طبيب من أصل يوغسلافي يعمل في قسم الولادة في المستشفى الحكومي و يأخذ على عاتقه ادخالها و توليدها. و يقود القدر شادية بعد خمسة و خمسين عاما الى نفس المستشفى لتلفظ فيه انفاسها الاخيرة بعد صراع بطولي مع المرض.
و بعد ولادتها بثلاثة أيّام يأتى الطّبيب مُخبِرًا أبا عدنان (والد الطفلة) بتحرير الأم وشاديتها من قسم الولادة على أن تكون ساعة مُغادرة القسم مُتزامنة مع انتهاء دوام عيادة الأمهات الجديدات، حيث تكون "عجقة كبيرة" ولا ينتبه أحد للدّاخل والخارج من القسم. هُرِّبت شادية وأمّها واستقرّت العائلة في حيفا بعد أن أُصدر لهنّ، أمّ عدنان وعائدة وشادية، تصريح إقامة بعد صراع استمر عدة سنوات مع السلطات.
في أواخر العام 1972 خرجت شادية من حيفا للدراسة في العاصمة التشيكية براغ و هناك كان لقائي الأول معها.. و كأن القدر كان يرسم لنا خط المستقبل، فنلتقي معا في السنة التحضيرية. أنا الشاب القادم من قرية عمواس في الضفة المحتلة و التي قام الاحتلال بتدميرها و طرد سكانها بعد العام          1967 ، اذهب للدراسة في الخارج لألتقي بصبية جميلة رائعة المنظر و المظهر قادمة من حيفا و أقع في حبها.
كان لنا في براغ صديق يكتب الشعر و كان دائما يغششني و يكتب لي أبياتا من الشعر للتغزل بعيني شادية. و في يوم من أيام شهر كانون التاني نحتفل بخطبتنا في براغ في منزل عمها نعيم الاشهب، المناضل الفلسطيني الشيوعي الذي أبعدته سلطات الاحتلال.    و في نفس اليوم و بعد اثنين و تلاتين عاما تخلد شادية الى مهجعها الاخير في حيفا.
أكثر من ثلاثين عاما عبرناها  معا و حافرين الصخر بأيدينا لنضمن مستقبلا نرتاح فيه مع أولادنا و أحفادنا. لم يكن رحيل شادية هاجسنا طوال هذه الفترة بل رحيلي أنا، و كما يقال " من مأمنه يؤتى الحذر" فقد فاجأنا المرض و الموت و نحن نرسم و نخطط لأيام جميلة قادمة.
ألم فراق شادية ليس مثل كل الم ، فهي الحبيبه و الزوجة و ام الاولاد و هي الشريكة  المعطاءة..الم فراقها صعب على التحمل، و انا أعجب من الشاعر الكبير "جرير" الذي منعه الحياء من بكاء زوجته المتوفاة، فيقول في رثائها:

لولا الحياء لهاجني استعبار        و لزرت قبرك و الحبيب يزار

أما انا فلا أخجل من بكائي شاديتي فهي الساكنة ليس فقط في ذهني و جوارحي، بل في كل ذرة من ذرات حياتي.. فكل فكرة او صورة او زاوية او غرض توجد فيه شادية.. من يصدق أن شادية الرقيقة الناعمة  قد تحملت من شظف العيش في حياتنا تعجز الكثير من الزوجات عن تحمله،  و حين جاءت ساعة القطاف و الراحة لم تجد شادية مكانا لها، فرحلت.
 نامي قريرة العين يا شادية.. يا صاحبة اجمل عينين.. انت باقية في الذهن و الوجدان، تمتزجين مع نبضات قلبي.. أنت باقية في ذكريات السنين المشتركة بحلوها و مرها..
لقد تركت بفراقك لي و لأبنائنا ابراهيم و ضرار و رزان الالم و المرارة و لكن ذكرى حبك لعائلتك و اهلك و اصدقائك و ذكريات عطائك الذي لم ينضب، سوف تبقين إلى جانبنا عندما نحتاجك معنا. سوف تبقين معنا تشدين من أزرنا لتستمر سفينتنا التي بيناها معا في الابحار.

 

شكرا لكل من وقف الى جانبنا في محنتنا.. شكرا للطواقم الطبية الثى عملت على ثخفيف المعاناة عن شادية.. شكرا للاغاثة الطبية (مكان عملي) التي مكنتني من التفرغ الى جانب شادية في شهورها الأخيرة .. شكرا لرفاق الحزب الشيوعي و  الجبهة و الأصدقاء في حيفا على وقفتهم معنا.. شكرا لحيفا و أهل حيفا الأوفياء..
لم تتردد شادية لحظة واحدة بعد اكتشاف المرض في اللجوء الى حضن حيفا الدافئ تقضي فيه أبامها الأخيرة و مقر مهجعها الاخير.
لك المجد يا شادية يا طيبة و يا صاحبة الوفاء

* القدس

حيدر أبو غوش*
الأحد 10/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع