حكاية من بلدي
صفحات ناصعة من تاريخ الحزب



يُحكى ان ضابطا يدعى (الشويلي) وكنيته (ابو خضر) كان ظالما فظا غليظ القلب، وكان مسؤولا اداريا وامنيا عن قرى سخنين وعرابة ودير حنا، وذلك في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ابان الحكم العسكري البغيض، تمرس على ملاحقة المواطنين العرب والوطنيين منهم.وكان دائم الزيارات لدار المختار ويحل ضيفا يعزز ويكرم بحفاوة، ويقدم له من القِرى ما طاب من الطعام وما لذ من الشراب، وكان مساعده الشاويش (ابراهام) لا يقل سوءا وفظاظة عنه، بذيء اللسان سيء الخلق خشن الطباع اوكل اليه مهمة استفزاز الناس، فكان عليه ان يطوف حارات القرية شوارعها ازقتها راجلا وفي يده عصا ، يصول بها ويجول نافشا ريشه كالطاووس ، ينتهر النساء ، ويضرب الرجال، لا فرق بين شيخ او طفل ، او كهلٍ او شاب يزرع الرعب وينشر الذل ، استوبق الناس فكوى الرجال بالنار من دُبر وضربهم بعنف من قُبل.دخل البيوت عنوة دون حرمة او استئذان، استباح المحرمات ، بلا رادع من خلقٍ او وازعٍ من ضمير.
وذات يوم عاد مسعود الى القرية من عيلبون في استراحة آخر الاسبوع وهو يحمل رزما من جريدة "الاتحاد" من المسؤول هناك، وكان عليه ايصالها الى نفر في القرية تنادوا نكاية وتلاقوا مناكفة بالمختار. وصار بيت عائلة العامل مسعود المحطة الاولى للجريدة من كل اسبوع. كانت عائلة مسعود عائلة من الفلاحين الفقراء وعاشت في فقر مدقع ، تعيش على كد وكدح ابي مسعود لعشرات الدونمات التي ورثها عن والده .فكان دخلها زهيدا في وقت كانت فيه البطالة تستشري فطال غول البطالة جميع الناس،فعانت العائلة من ضنك العيش وصلف الحياة ، امتلكت العائلة فرسا لحراثة الارض وزراعتها، وحمارا، وبقرة حلوبا مدرارة، وكلبا ضاريا جسورا، تذمر من ضراوته السابلة وتأذى منه الجيران ، وعددا لا بأس به من طيور الدجاج البياضة، وكانت ام مسعود امرأة عصامية صبورة ذات سيرة حسنة شجاعة ، شاطرت زوجها في تحمل وزر الضائقة عاضدته وشدت ازره في السراء والضراء، ووجدت نفسها المسؤولة عن ضمان وتوفير الطعام للعائلة لابنائها الستة. اعطت جل اهتمامها للبقرة والدجاجات رأت فيها مصدرا لتوفير الطعام فمن الحليب صنعت اللبن، واللبنة والجبنة وخضت اللبن في الممخضة ، فاخرجت منه السمن ، واخرجت الشنينة ، فجرشت القمح، وجرشت الذرة ومن الجريشين صنعت انواعا من الطعام استعاضت به احيانا عن تناول الخبز عندما تعذر الحصول على الطحين .اشتدت المعاناة في مطلع سنوات الخمسينيات اذ ضربت البلاد موجة من القحط والجفاف وكانت تلك السنوات عجافا . اختفت الحنطة والذرة من السوق فاضطر الناس الى طحن الشعير وصنعوا منه الخبز. وفي السنة الاخيرة من سنوات القحط تعذر على العائلة وفي فصل الربيع وفي احد الاسابيع الحصول حتى على الشعير فخرجت ام مسعود الى الحقل،ابتقلت ما تيسر، من الخبيزة ، والعلت ، والعكوب ، والمرار . وعادت به لتصنع منه وجبات من الطعام المخلوط باللبن تقدمه للعائلة ليسدوا رمقهم . اهتمت بالدجاجات اهتمامها بالبقرة، للاستفادة من البيض والفراخ كغذاء،ووسيلة للمقايضة،فاستعمل البيض كالنقود لشراء الحاجيات الضرورية والحيوية من سكر ، ملح ، وكاز لاشعال القنديل ، كانت ام مسعود امرأة كظومة ، استكتمت الابناء سرّية الضائقة ، وكانت تؤكد  دائما بعدم البوح عما اكلوا وعما شربوا. وهددت بالويل والثبور لمن يتدانأ عند قريبٍ او جارٍ او بعيد . وذات يوم خرج احد الابناء  العاق منهم عن التوصية ، فوشت الاخت به للام بانه اكل موزة عندما الّح عليه احدهم.فكان عقابه صارما ووخيما ، فركة اذن وجلدة بقضيب من رمان اعد خصيصا لمعاقبة من ارتكب من الابناء ذنبا من الذكور او الاناث او خرج عن نطاق الادب. فراح فطاما ابديا عن الموز .
قرأ ابو مسعود جريدة "الاتحاد" ، وطالعها الابناء في البيت من كل اسبوع فوجدوا في كلماتها تعبيرا عن بؤسهم ، ومكانا لآمالهم ، وقبسا انار طريقهم .فانتشر ما حملته "الاتحاد" في طياتها ومن على صفحاتها من افكارٍ جديدة ومفاهيم ومضامين بين العمال والفقراء، والبؤساء،تمخض فيما بعد واثمر عن اقامة فرعٍ لمؤتمر عمال العرب اتحاد النقابات ثم فرع للحزب الشيوعي حيث صار بديلا لذلك النفر . فتولى فرع الحزب مسؤولية توزيع "الاتحاد" لكل المتضررين من سياسة السلطة ، ومن عبث ومظالم الضابط (الشويلي)والشاويش (ابراهام) وكان ابناء تلك العائلة الفقيرة سباقين في الانتماء الى الحزب الشيوعي.
كان ابو مسعود رجلا متدينا ورعا ، ذا طويّة حسنة ومتنورا تقدميا.تعاطف بالفطرة وبحسه الصادق في الحرب العالمية الثانية في الاربعينيات مع الاتحاد السوفييتي في حربه الضروس مع المانيا النازية ، في حين ايدت فيه القيادة العربية في فلسطين هتلر والمانيا .بالغ ابو مسعود في تمجيده وحبه بالتأييد الى الاتحاد السوفييتي نسج من خياله قصصا عن بطولة وشجاعة الجندي السوفييتي ليحكيها لابنائه منها ان الجندي السوفييتي لا يعرف التراجع او التقهقر في الحرب ضد هتلر حتى ولو اخترقت جسده قنبلة من مدفع فيظل يتقدم. فظل على تأييده للاتحاد السوفييتي حتى انتهت الحرب العالمية الثانية وما آلت به من انتصار الجيش السوفييتي الاحمر على النازية الهتلرية.
اغضب انتماء الابناء الى الحزب الشيوعي المختار فاستشاط غضبا وغيظا ، فحاول اولا الضغط على الوالد فلم يجدِ نفعا فاوغل صدره للعائلة وتعقّب الوالد ، وحرض عليه بين اترابه ورجال القرية، نابزه الناس والرجال بلقب (ستالين) تكفيرا وتجريحا له ، ثم اوشى به للضابط (الشويلي)، فلم يبخل هذا الضابط بالادلاء بدلوه في التكالب في ملاحقته ، وتنغيص حياته ، فقام تارة باستدعائه الى دار المختار لتجريحه وتهديده ، وتارة الى مركز الحاكم العسكري في شفاعمرو يتلقى مزيدا من وجبات التقريع والشتائم، عجموا عوده فوجدوه عصيّا لا يعجم .امعانا في التنغيص والملاحقة سوّلت له نفسه ذات يوم ذلك الضابط ، ان يداهم بيت ابي مسعود ويقتحمه عنوة ، بذريعة التفتيش والبحث عن بضاعة من الاقمشة والتبغ هُربت من جنوب لبنان . اقدم على ذلك الاقتحام برفقة شرطيين والشاويش ( ابراهام) اوقف مركبته بعيدا فالطريق الى البيت عسيرة ووعثة ، وكان وقت المداهمة في ساعات بعد الظهر وفي احد ايام الصيف القائظ ، حيث كانت الشمس تبعث بأشعتها الحارقة على الارض . شاهد الجيران تلك الزمرة من الشرطة وهم يتقدمون في طريقهم الى بيت ابي مسعود ، استدلوا وادركوا ان وراء الاكمة ما وراءها ، سارعوا وهموا ودخلوا البيوت واوصدوا الابواب واخذوا يرصدون خطوات الضابط وزمرته من فوهات صغيرة ، ونوافذ في الجدران صممت واعدت لدخول الضوء والهواء الى داخل البيوت. اقترب الضابط (الشويلي) رويدا رويدا وفي يده عصا يتوكأ عليها ويتبختر بها لمن عصى ، استنبح ابو مسعود كلبه الضاري الجسور ، فانخرس الكلب ، ولم يقوَ على العواء ، ولم يلبِ النداء ولم يتقن الاداء ، وضع ذنبه بين رجليه وراح يلحس ساقي الضابط ، ادرك ابو مسعود فقام مخاطبا الكلب(تبا لك من كلبٍ خائن وتبا للضابط فالكلب لا يعض اخاه) ، همهمت الفرس ونهق الحمار ورفع ذيله ، واستدار نحو الضابط وبال ونثل ثم اخذ يطلقها صواريخ من الغازات بروائحها الكريهة، قذفها في وجه الزمرة بلا خوفٍ او وجل ، تأفف الضابط وتفل وتقدم ووقف على عتبة البيت وامر زبانيته فعاثوا في البيت فسادا.
ومن الجهة الخلفية للبيت وفي هذه الاثناء وفي هذا الوقت وبعد موسم الحصاد كانت الزوجة ام مسعود تتفيأ تحت ظل شجرة تين ظليلة افترشت حصيرا وجلست، طوت ساقها ومدت ساقها الاخرى ، وبجانبها كوم من القمح تمسك بيديها غربالا تهزهز ما به من حبوب قمح ، شمر ثوبها وانكمش فبانت عورتها ، ومن حولها تدور بعض طيور الدجاج يتوسطهما ديكٌ احمر اللون ضخم وجميل الشكل ، يزين رأسه عرفٌ احمر كالتاج على رأس ملك ، منشغلا بزوجاته ينتهي من كبس واحدة فيغير على الاخرى يقتحمها وهي تتسابق في التقاط ما رمته ام مسعود من حثالةٍ وزؤان ، وعلى بعد امتار منها وقفت ابنتها الصبية ، رفعت خمارها عن رأسها فاستبان شعرها انشغلت بمراقبة قدر السليق من القمح على النار ، فتقدم الضابط ورهطه بعربدته المعروفة وعلى غفلة من المرأة وابنتها لاكمال مهمته في التخريب غير متورعٍ بشيء فضرب ديك الدجاج بعصاه فاماته وانتهر الام وزجر ابنتها فاستشاطت ام مسعود غضبا انهضها ذلك التصرف الخسيس لملمت نفسها ، فلم تربأ لزجره فانقضت على الضابط انقضاض الاسد على فريسته لطما بحذائها ، فتعالى صراخ ابنتها تستغيث الجيران فلبوا الاستغاثة ، وهبوا لنجدتها وهرعوا وهم مدججون بالعصي والفؤوس ، والشواعيب، وهي في عنوان سورتها ، اشبعتهم ضربا ، واسبغهم الجيران شتما واغرقوهم تفالة ، استفاق الضابط من غشيته ، ووجد نفسه وسط حشد من الناس ، فانسل يطأطئ رأسه صاغرا ، خاسئا ، وضيعا .

(عرابة)

عمر سعدي *
الأحد 10/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع