"لهب الحنين"



لذكرى الشاعر الراحل ومرور سبع سنوات على وفاته، شاعر عبلين المرحوم جورج نجيب خليل (2/2/1931 – 26/1/2001)

 

وأخيرًا وليس آخرا..
في احدى جلساتي معه، وقد كنت شابا يافعا لا اتخطى عتبة السنة الثالثة والعشرين من عمري، حينها كنت مديرا "للنادي الاهلي" في عبلين والذي تأسس سنة 1977 من الشباب الموهوب في القرية، وشكل وأسس مسرحا محليا اشترك في بعض عروض المسرح التي كانت تقام في المنطقة ان كان في عكا والناصرة وشفاعمرو، وقد منعت السلطات عرض مسرحية "ثمن الحرية" في مهرجان المسرح العربي الاول والذي جرى في شفاعمرو سنة 1984، حينها توجهت اليه بان يؤلف للنادي نشيدا، وتزامن هذا الطلب مع افتتاح مخيم النادي الاهلي الاول سنة 1983، فما كان من شاعرنا العظيم، الا ان لبّى الطلب، وأوفى بوعده وحضر الافتتاح في 4/8/1983 وأنشدنا النشيد على وزن اغنية "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" حتى تردد صداها في كل جانب، ورددتها حناجر كل الاطفال والاهالي خلال المخيم، وعلى مدى بقاء وصيرورة عملنا الثقافي وكان النشيد:


بلادي، بلادي، بلادي
   لك حبي وفؤادي
قريتي رمز السماح
   والوفا في كل ساح
وإذا جدّ الكفاح
   لبّت الصوت المنادي

يا (عبلين) اسمعي
   صوت شعب المعي
واشرئبي واسطعي
   كوكبا في كل ناد
انت للعلم منار
   يجعل الليل نهار
فالبسي تاج الفخار
   واشمخي فوق النجاد


هذه البلاد التي احبها، وهذا البلد الذي احبه، ويفخر انه ضم ثراه وجسده والذي لا تسعه حفر القبور، فكيف استطاع القبر ان يتسع لقلبه الواسع الكبير، وكأن الشاعر المعتصم عناه حين قال:

"يا واسع المعروف هل وسع الثرى
    في الارض صدرك وهو فيه اوسع"

وقد اهتزت مشاعره وهو يسمع المذيع يقول: من فلان الفلاني في اسرائيل الى اخيه فلان، مجهول محل الاقامة، نحن بخير، بالنا قلق من نحوكم!! فقال في قصيدته "نحن بخير" – ص20-24 من ديوان لهب الحنين سنة 1971.

ايّ خير هذا الذي أنت فيه
   وأخوك الحبيب عنك بعيد؟!
وجراح القلب تزداد عمقا
   وبأغوارها دم وصديد

ويعود بالذكر ليطمئن الكنيسة المهجورة، كنيسة المجيدل بعد ان نزح الظعن، وبقيت الكنيسة صامدة في وجه النوازل، تهزأ بالمارين ويهزأون بها "قصيدة الكنيسة المهجورة – ص 25.

اطمئني يا كنيسة
فإلهي سيلبي الطلبا
وسنبغي الأربا
عندها الناقوس يقرع
وعيون الناس تدمع
فرحا بالقادمين
ويعيش الكل اخوانا كِرام
بسلام ووئام


ولا يغيب عنه رغم ذلك الموقف الشمولي والانساني والأممي الواسع، والعالم الذي يتمنى ان يسوده النبل والتآخي ويقول في قصيدته "رياح تشرين" – ص 31-33.


كلنا اخوة.. نشيد ونعلي
   وبنا الكون يستقيم بناؤه
فلنخفف دموع كل اليتامى
   فعسى الكون ان يزول شقاؤه
ويذوق الجميع خمر الاماني
   في محيط تبددت اذواؤه
فاسألوا الله ان يسود التآخي
   وأخو النبل لا يخيب رجاؤه


وبقيت في رأسه افكار وافكار.. تتصارع داخل جمجمته فتؤرقه ليلا ونهارا، وشعرت كأنك تحمل اعباء الكون وأنت المحتار، والدنيا، الم تقل..
الدنيا!!! آه من الدنيا   بقساوتها عمتِ الأبصار
ودخلت التجربة ولكن دخلتها دون استهتار، وجعلت ايامك باسمة متصديا للدنيا بوقار، وكان هذا اول المشوار، في ديوانك "قوافل الحيارى الصادر في كانون الاول سنة 1979، هؤلاء الحيارى الذين انشدت وغنيت لهم: الشاعر، الملاح، الفلاح، وللحارس، والعالم، والطبيب، والممرضة وللعامل ص20-22.

أنا رمز التضحية الكبرى
   انا خدن القوة والاصرار
لكن حقوقي ضائعة
   في كون تملؤه الاقذار

وأخيرا...
قل لي يا شاعري كيف رأيتَ الموت؟؟ هل لونه ابيض؟ هل لديه قاعة استقبال وبساط احمر؟ هل ما زال الملائكة يعزفون نشيد الخلاص من غناس الامس ووحشية العالم؟ قل لي يا اخي هل يستقبل الشعراء هناك كما يليق بالقصائد والموسيقى؟ هل ناخت لك جمال الخليل بن احمد الفراهيدي؟ هل جثم كل العروض بين يديك؟ هل قابلت المعري حاشدا الشعراء كما جمعهم في رسالته، وهل استقبلك دانتي الياجوري ضاحكا من الموت؟
هل احتفى بك الانقياء هناك كما يجب ويليق؟! وهل وجدت حكمة الحياة ملقاة خلف القبر؟
كنت تحترم الاصدقاء والزملاء كثيرا في حياتهم ومماتهم، فلا يوجد زميل عزيز عليك فارق الحياة، الا ورثيته وحزنت عليه، حيث كان من طبيعتك كشاعر الحزن والشفافية، فكنت انسانا حزينا، ولكنك لم تظهره لأحد ذلك الحزن، فمن جالسته لا يلاحظ ذلك، وهذه ميزتك.
وكنت ترثي الزملاء لأنه حسب رأيك، قد فقد الشعر والادب احد اهله، وكذلك رثيت كبار المطربين امثال ام كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الاطرش وغيرهم، ورثيت الشعراء ايها الشاعر الاصيل.
وهناك كثير من اشعار الرثاء خطها لبك الحنون الملتهب، لم تنشر او تجمع في كتاب وكم حلمت ان تصدر ديوانا بعنوان "مراثي جورج نجيب خليل"، وقمت برثاء كبار الفنانين عندما ودعوا حياتنا جسدا وبقيت ذكراهم روحا وانتاجا وفنا وابداعا، فرثيت كوكب الشرق ام كلثوم التي توفيت في 3/2/1975 بقصيدة مطلعها:

"عملاقة شمخت بوادي النيل
   فطغت على أعلام هذا الجيل
لو كان موتك قبل الفي حجة 
   لرثيت في القرآن والانجيل
ولسوف يبقى عطر ذكرك خالدا
   في قلب كل نبيلة ونبيل


(ديوان "دموع لا تجف" ص 26)
ورثيت العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ المتوفى بتاريخ 30/3/1977 ومطلعها:


غاب عبد الحليم في ميعة العمر
   وغصن الشباب منه رطيب
سوف تبقى ذكراك في كل قلب
   فبذكرى العظام تسمو القلوب


(ص40)
ورثيت الفنان الكبير فريد الاطرش المتوفى بتاريخ 26/12/1974 ومطلعها:


يا فارس اللحن كم خلفت من اثر
    يبقى على الدهر محمولا على العنق
وظل صوتك جبارا يهدهدنا
    بساحر الجرس حتى آخر الرمق


ولم تجف دموعك بقيت مدرارة غزيرة، على من رحلوا وتركوا لنا آلامهم وذكراهم العطرة الساحرة العبقة التي لا فكاك منها. وفيض الاحزان التي ابت الا ان تفجعنا بكل حبيب عزيز قد سالت من يراعك دموع وفاء. وبقيت في وادي الدموع، تؤبن وترثي الاصحاب والاحباب، حتى اهديتهم ديوانك "فليخجل التاريخ" سنة 1981 هؤلاء الذين يؤمنون بشرف الكلمة، مفتتحا غضبك "هذا قدرنا ان نحمل لكم قلوبنا على الراحات، وان تدوسوها بالنعال المرقعة. ان نحاول استقطابكم بأنبل الوسائل، وان تشيحوا بوجوهكم عنا زهوا وخيلاء.
عرفتنا في حياتك وقطفت لنا من حقل قلبك احلى الازهار، ووضعتها لنا كباقة على شكل اشعار، نثرتها في دربنا، عرائس كالدر ولم نقبل هذه الازهار، وبقيت تعزف الحانك لتطربنا.. ولا تسمع الا اصداء القيثارة، فلم تيأس. وقلت لنا:


فما يئستُ، ولا لملمتُ اشرعتي
    وان تصدى لفلكي الف تيار
كلا، ولم اترك الاحقاد تنهشني
    وان حقدتم على نبلي وإيثاري
ففي عروقي سرت – نشوى – محبتكم
    وفي دمي امتزجت، فأبيض منظاري
قلبي... كبير... واعصابي عمالقة
    والصعب يعتو لدى عزمي واصراري


(ديوان لهب الحنين ص 135)
فليلك سهادا كان، تتواصل من اجل الشعر ومن اجل اسعاد البشرية.. ورصيدك من الدنيا لم يكن دماغا مبلبلا.. ولا قلبا كسيرا اثقلته المشاكل، فجسمك النحيل حقا تصوّف الوجد والجوى، ولكن حظك كان كبيرا وهائلا لم تذوّبه النوازل، فاترع الكأس باسما، في روضك المليء بالجداول والبلابل، ونم قريرا مرتاحا ايها الشاعر المعذب المخلد المتكامل.
ان الحديث عنك يطول، ويطول، والتعويض لا يمكن ان يكتمل في ذكر مناقبك وتضحياتك لأهل بلدك ولشعبك فقط، فندائي الى كل الذين احاطهم بعنايته وساعدهم ليشقوا اولى خطوات حياتهم في عالم الادب والشعر. لنتناد كلنا من اجل العمل على اصدار كل دواوين المرحوم في ديوان واحد شامل لاشعاره ولنثره، ليكون بمتناول اليد لكل ناشد علم ومعرفة وادب، ولننفض الغبار عن الابداعات والمؤلفات والكتب التي لم ينشرها ولم تفسح له امكانياته المادية في اصدارها، مع ان ما ميز شاعرنا الكبير ان اغلبية كتبه ان لم نقل كلها اصدرها على حسابه الخاص، مضحيا من اجل لغة الضاد ومن اجل كلمة العرب وديوانهم الشعر على حساب قوت زوجته واولاده.
وهل نعطيه جزءا بسيطا مما اعطانا، فما اصعب الذاكرة المثخنة بالطعنات، وما اقبح حياتنا حين تملؤها فقط اللعنات، لعنات، لعنات، ولم ندر الا متأخرا انك كنت الشمعة المضيئة في ظلام نفوسنا اللعينة، فيا ايها الطلاب على جميع اجيالهم احفظوا هذا التراث وتناولوه وادرسوه واحفظوه. وما اسعدني عندما علمت ان لشاعرنا مسوّدات كثيرة لكتب لم تنشر وهو حي، فحفظها لابنائه ولزوجته، وما احوجنا ان يعرفها الجميع وتنشر، ولضيق ذات اليد، لا شك عندي انه سيتنادى الخيرون لاصدارها ونشرها لفائدة الادب والشعر والدراسة والبحث والثقافة، والتي سأسعى واشجع اهل بيته الزوجة والاولاد والاقرباء بالعمل على تجنيد الامكانيات المادية من اجل اصدارها ونشرها ردا منا لبعض الجميل الذي نرده لهذا الشاعر صاحب العطاء العظيم لمصلحة بلده ووطنه، ودعوتي هذه عبر صفحات الاتحاد لكل الذين يحبون الشاعر ويعتزون بشعره ويقدرون تراثه وميراثه الثقافي والادبي الرفيع الخالد، المساعدة في ان ترى هذه الكتابات النور وهي:
- امجاد، (مطوّلة شعرية) – نشيد العودة (مطوّلة شعرية) – الدر النظيم في القرآن الكريم (بحث) – في ساعات التجلي (خواطر) – فصول في علم العروض (كتاب تدريس) – دموع الوفاء (مراث شعرية) – مختارات من شعر جورج نجيب خليل – تطور الغزل في الشعر العربي (دراسة) – حكاية الازل (ملحمة شعرية) – عبلين جوهرة الجليل – الشعر فن وادب (بحث) – نفثات من القلب (خواطر).
فنم قرير العين يا ابا الانور، فلقد تركتَ لنا ما ينفعنا حتى الممات.. والسلام..!

(انتهى)

يوسف حيدر
السبت 9/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع