أكتوبر: أين نجحت السلطة، أين أخفقنا، وما العمل؟



* المطلوب دراسة اسقاطات اعتداء اكتوبر 2000 على جاهزيتنا النضالية وسيرورتنا كمجتمع، دراسة آليات النضال والوعي للمخططات السلطوية لتدجيننا، والأهم من هذا دراسة الوسائل لمواجهة مخططات السلطة واسقاطاتها على كافة الأصعدة في مسيرتنا النضالية. *

قرار المستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، باغلاق ملفات التحقيق في قتل 13 مواطنًا عربيًا في أكتوبر 2000، لم يفاجئ أحد. لا أظن أنه كان لدى حد شك بأن مزوز سيوفر غطاءً لأفراد الشرطة وقسم التحقيقات مع الشرطة (ماحش)، فمجرّد وصول القضية إلى مزوز، وعدم قيام "ماحش" بواجبها منذ اللحظة الأولى لسقوط الضحايا، ومن ثم قيام لجنة أور التي أصدرت تقريرها بعد ثلاث سنوات من اعتداءات أكتوبر، دون إشارة كافية للمذنبين، ومن ثم تمييع تقرير أور بإقامة لجنة لبيد الوزارية والتي التفت على تقرير أور وأصدرت توصيات أقل ما يقال فيها بأنها تكرّس التوجه الفوقي للسياسة الإسرائيلية. هذا كله كان مؤشرًا كافيًا لنفهم بأن مزوز لن يغير شيئًا من هذا التوجه.
مزوز هو جزء من جهاز متعفن، ويثبت مرة بعد أخرى فشله في التعامل مع الممارسات العنصرية والهمجية لشرطة اسرائيل عندما يتعلق الامر بالمواطنين العرب. مزوز هو جزء من منظومة الدولة العنصرية. من الناحية القانونية، الأمر الوحيد الذي حصل، هو أن قرار مزوز هذا يقنع من لم يقتنع بعد بأنّ التعويل على القضاء الإسرائيلي هو وهم كبير جدًا.
صحيح أن المطلوب اليوم هو تطوير آليات عمل ونضال ترفع القضية إلى الصعيد الدولي وتفضح سياسة اسرائيل وجهازها القضائي. ولكن الأهم هو إفشال مخطط اعتداء اكتوبر 2000، والذي أراد إخضاعنا وتدجيننا ومنعنا من الخروج الى الشوارع للمطالبة بحقوقنا والدفاع عن حقوق أبناء شعبنا في الاراضي المحتلة.
إن إفشال هذه المحاولات هو الوفاء بعينه لشهداء أكتوبر، وليس فقط الخروج الى المحافل الدولية لملاحقة المعتدين والقتلة. الآلية الدولية لا يمكنها أن تشكل في أي حال من الأحوال بديلا عن النضال الشعبي والمواجهة.

 

* مبادرة الربع مليون


مبادرة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة تجيب بشكل أو بآخر على هذا التحدي، من خلال طرح عريضة تطالب بلجنة تحقيق حيادية بمشاركة مختصين دوليين، وجمع تواقيع ربع مليون مواطن عربي. هذه المبادرة تعبّر عن رؤية جوهرية بأنه لا بديل لمشاركة الناس في النضال السياسي. لكن على الرغم من أهمية العريضة في احتوائها على نوع من المد الجماهيري، فإنها لا تلغي الحاجة إلى نقاش أوسع وأعمق حول أساليب نضالنا الشعبي والجماهيري.
أولا، يجب علينا ان نكون حذرين من آلية العرائض كأسلوب عصري للنضال. فالتوقيع على عريضة لا يتطلب الكثير من الجهد. وفي العديد من الأحيان لا يتطلب حتى الخروج من البيت، فإذًا هي تختزل، نوعًا ما، واجب المواطن العربي، حيث يشعر انه بتوقيعه هذا، قد ادى واجبه الوطني. ثانيًا، ان القسط الجوهري من العمل، بعد العريضة أو بموازاتها، سيكون في ايدي جمعيات أهلية، واحدة أو أكثر، أي أن المواطن العربي لن يكون شريكًا مباشرًا فيها. وأنا هنا أحاول أن أضع نفسي في مكان اي عربي مواطن في البلاد، غير ملتزم حزبيًا وليس ناشطًا سياسيًا، فهو بتوقيعه على العريضة سيعتقد انه ادى واجبه، وحين يسمع ان الخطوة التالية هي التوجه لمحافل دولية، بواسطة جمعيات أهلية، فهذا سيعني أن دوره انتهى، وأن الدنيا بخير وما علينا إلا أن ننتظر انجازات هذه الخطوة.
وعليه، فان العرائض والتوجه للمحافل الدولية، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها. ويجب ان ترافقها نشاطات شعبية واسعة. ولكن.. هل حقًا يمكننا أن نعوّل اليوم على نضال جماهيري واسع النطاق لا يقتصر على مظاهرة حاشدة في سخنين؟
ومن هنا تأتي الحاجة لمناقشة إسقاطات عدوان أكتوبر 2000 على الجماهير العربية، بشكل واضح. وهذه هي النقطة الثالثة، والتي لا تحظى بنقاش جدي وصريح.

 

* واحد-صفر للسلطة


لقد كان عدوان أكتوبر مواجهة قاسية مع الدولة، لكنها لم تكن الأولى، ولكنها الأخيرة تقريبًا (إذا ما استثنينا احداث البقيعة الأخيرة) فالتاريخ مليء بالأحداث التي انتفضنا فيها، وحاولت الدولة قمعنا خلالها، وفي جميع الحالات بوسائل عنيفة ومسلحة: يوم الأرض، مجزرة صابرا وشاتيلا، مجزرة الحرم الابراهيمي، أحداث الروحة وغيرها. منذ هذه الاحداث، سياسة الدولة لم تتغير الى الأفضل، والفاشية في تزايد مستمر ومخططات مصادرة الاراضي وهدم البيوت لا زالت تنفذ، والمثال الاخير التهديد بهدم أكثر من مائة بيت في وادي عارة. وهنالك اسباب عديدة ما زالت قائمة، هي نفسها كانت تجعلنا في السابق نخرج الى الشوارع بعشرات الألوف وننتفض غضبًا.
وقد يدعي البعض أن وسائل النضال اليوم تطورت، وما كان ناجعًا بالأمس ليس بالضرورة ناجعًا اليوم. هذه مقولة صحيحة جزئيًا، ولكن هل حقًا درسنا وسائل النضال لكي نقرر ما هو الأفضل؟ وكيف يُدرس النضال الشعبي أصلا؟ هل خرجنا الى الشوارع في أكتوبر 2000 لأن أحدًا ما جلس ودرس وخطط أن هذه هي الوسيلة الأفضل للاحتجاج؟ وهنا يجب أن نسأل: ما الذي حدث إذًا؟ لماذا لم يعد أي من الاحداث يغضبنا ويستنفرنا؟
وهنا، اعتقد بأنه إذا كانت السلطة قد نجحت في شيء في اكتوبر 2000، فهو بجعلنا نخشى أن نهب ونغضب على ما يحدث لنا، وجعلنا نهرب نوعًا ما من المواجهة الشعبية مع أذرع الدولة العنصرية، ونفكر مرّتين قبل الخروج الى الشوارع والتعبير عن غضبنا لأننا صرنا نعرف أن الموت ينتظرنا. أضف إلى ذلك تردّد منتخبي الجمهور في قيادة مواجهة يمكن أن تدفع الجماهير العربية ثمنها دمًا.

 

* تراجع مقلق


هذا الأمر مرتبط بشكل كبير مع أمور اخرى، منها تراجع قدرة الأحزاب على قيادة نضالات شعبية واسعة. ولكي لا نضع جميع الاحزاب في سلة واحدة فيجب ان لا نعمم نفس المقولة على جميع الاحزاب بنفس المقدار. فالحركة الاسلامية مثلا، قادرة على اخراج عشرات الآلاف من بيوتهم، فقط عندما يكون سبب التظاهر له علاقة بالدين، فعشرات الالاف قد يخرجوا احتجاجًا على رسومات الكاريكتير المسيئة للرسول (ص) أو من أجل الأقصى، لكن ليس احتجاجًا على الحصار على غزة. والتجمع، بطابعه النخبوي، النضال الشعبي ليس من اختصاصه. ما زال الحزب الشيوعي والجبهة الجسمين الأكثر عراقة في تجنيد الحشود الكبيرة للمظاهرات الشعبية، وعلى الرغم من هذا فيجب الاعتراف بأن هذه القدرة تشهد تراجعًا جديًا.
يعود هذا التراجع الى أسباب كثيرة، أهمها الاعتقاد (الخاطئ) السائد بأن المواجهة مع الدولة تختزل في أروقة الكنيست وفي الإعلام. والأمر الآخر، تنامي ظاهرة الجمعيات، والتي مع أهميتها، أصبحت في العديد من الأحيان تشكل بديلا عن عمل الأحزاب والنضال الشعبي.
ولكن هنالك أسباب أخرى لا تتعلق بالأحزاب والجمعيات وانما تتعلق بصيرورتنا كمجتمع والتي لا تختلف عما يحدث في مجتمعات أخرى في العالم.
إن إحدى أهم أسس الرأسمالية، هي إخضاعنا للتفكير الفرداني، بمعنى أن يفكّر كل فرد في نفسه وفي مصلحته بمعزل عن كونه جزءًا من جماعة. وفي ظل تنامي الثقافة الاستهلاكية وتزايد الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، فلا يبقى أمام الفرد مجال للتفكير بقضاياه الجماعية التي لا تخصه هو وحده، على الرغم من تأثيرها عليه كجزء من الجماعة، بل والاهم انها تقلل من اهتمامه بما يحدث لغيره ورغبته في نضال جماعي من اجل التغيير. هذا بالاضافة الى قوة النظام الراسمالي في قمع الوعي وجعل الناس يفقدون ثقتهم وايمانهم بالقدرة على التغيير.

 

* التغيير بالـsms


وعامل آخر، يندرج أيضًا ضمن تأثيرات الرأسمالية والعولمة على الوعي، هو ظاهرة الفضائيات والانترنت. والمشكلة ليست ان نشاهد أو نستمع او نستعمل ما تتيحه لنا منتجات العولمة والتكنولوجيا. المشكلة هي ان نشاهدها ونستعملها بدون نظرة ناقدة ووعي لتأثيراتها. المشكلة هي أننا نجعلها تؤثر على نمط حياتنا ورؤيتنا للامور. فمن أهم هذه التاثيرات اهتمامنا في الشكل وليس المضمون، فمثلا يصبح شكل المطربة أهم من صوتها، وصورة (image) السياسي أهم من رسالته! وكذلك غُمرنا ببرامج ترفيهية كتلفزيون الواقع من "الستار اكاديمي" الى "الرابح الاكبر" وغيرها، والتي تهدف الى الهائنا عن قضايانا المركزية والأساسية، ونسج حياة جميلة متكاملة في خيالنا بعيدة عن الواقع لتصبح "واقعنا المتخيّل"، وهذا صحيح لاي مجتمع، وليس فقط لنا، ففي كل مجتمع هنالك حاجة للتغيير الاجتماعي الذي يقوده الناس، واذا كان الناس يرون كل شيء جميل، لانهم يرون سطحه فقط، فكيف سيعملون من أجل التغيير؟ اضافة الى ذلك، فقد باتت الفكرة السائدة انه يمكننا احداث التغيير دون ان "نتزحزح" عن مقعدنا امام جهاز التلفزيون، فيكفي ان نصوّت او نتصل او نرسل ايميل، نصبح جزءًا من مجموعة كبيرة تؤثر على مجريات هذا البرنامج او ذاك. وهنا مربط الفرس، باننا نؤثر على مجريات برنامج تلفزيوني وليس على الواقع! فالمشكلة انه اصبح من الصعب التمييز بين الخيال والواقع، وصرنا نعتقد انه اذا صوتنا بواسطة الانترنت او الهاتف فقد انجزنا مهمتنا في احداث التغيير وقمنا بواجبنا المجتمعي.
ولكن يبقى الخروج الى الشارع والنضال الشعبي (ليس بالضرورة فقط من خلال التظاهر) هو ما يجعلنا نفرق بين الواقع والخيال ويمكـِّننا من احداث تغيير فعلي على واقعنا.
ان هذه التاثيرات لا تخفى على السلطة، فهي ليست ظاهرة محلية وانما عالمية تخدم رؤوس الاموال في العالم. ويتعاظم تاثيرها خاصة على الجيل الشباب، حيث تراه السلطة هنا، ليس صدفة، الحلقة الاضعف بيننا. ومن خلال تدجينهم يمكنها تدجين مجتمعنا.

 

* الشباب في المهداف


الشباب وخاصة الطلاب هم الطليعة في أي نضال، وإذا كنا نريد ان نعول على شبابنا وطلابنا فعلينا ان نتمعّن في ما يمرّون به ويتعرّضون له.
إذا أخذنا بعض المخططات التي تسعى إليها الدولة وما تطرحه من مشاريع لتدجين الشباب العرب وتشويه هويتهم الوطنية، فمثلا في عام 2008 تحضر اسرائيل للاحتفال بمناسبة 60 عامًا على إقامتها (وعلى نكبتنا)، وهي مناسبة كما يبدو تحظى بأهمية بالغة لدى المؤسسة الاسرائيلية، وقد بدأت "التطبيل والتزمير" لها غداة احتفالات الـ59 ليوم استقلالها.
وفي هذه المناسبة تخطط وزارة المعارف لإلزام طلاب المدارس العربية بالتوقيع على وثيقة استقلال دولة اسرائيل في احتفالات الـ60. هذا الأمر ليس وليد الصدفة، بل يندرج ضمن برنامج أكبر، يشمل ايضًا مخطط الخدمة المدنية، والذي أحد أعمدة تسويقه هو التوجه الفرداني وتنميته لدى الشباب العرب. وكذلك ظاهرة الهجرة المتزايدة بين الشباب العرب والتي يجب برأيي أن تُدرس وتُبحث لكي نعي حجمها وكيفية مواجهتها. وهي ترتبط ارتباطًا قويًا مع الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية، المخططة والمدروسة، على الشباب والشابات العرب. 

 

المطلوب دراسة اسقاطات اعتداء اكتوبر 2000 على جاهزيتنا النضالية وسيرورتنا كمجتمع، دراسة آليات النضال والوعي للمخططات السلطوية لتدجيننا، والأهم من هذا دراسة الوسائل لمواجهة مخططات السلطة واسقاطاتها على كافة الأصعدة في مسيرتنا النضالية.

عبير قبطي
السبت 9/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع