دافوس ضد دافوس



افتح التلفزيون الليلة وابحث عن القنوات الأمريكية والأوروبية، وقنوات الهند وروسيا.. وشاهد، أو استمع إلى تفاصيل أخطر مرحلة يمر بها النظام الاقتصادي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ أكثر من نصف قرن. لا تدع الفرصة تفتْكَ لأن لك نصيبا في ما يحدث وستتأثر بنتائجها أعمالك وأفكارك وأولادك ثم أحفادك. لقد شهدت ساحات الفكر الاقتصادي السياسي في الأسابيع الأخيرة تطورا لعله الأهم بين تطورات أكثرها مهم. إذ حدث أن تعرضت الرأسمالية بنمطها السائد حاليا إلى هجوم حاد من جانب قادة كبار في النظام الرأسمالي ورجال أعمال ومفكرين اقتصاديين. المهاجمون الجدد وهم بطبيعة الحال يمينيون ومحافظون لا يرددون الانتقادات التي يوجهها لهذه الرأسمالية المفكرون اليساريون مثل نعومي كلاين وغيرها الذين اتهموا الرأسماليين الجدد باستخدام أسلوب الصدمات كالحروب الأهلية ونشر الفتن وتدبير الانقلابات العسكرية ضمن أساليب دعم سياساتهم الاقتصادية المتطرفة، كما أنهم لا يرددون انتقادات المهاجمين من أصول رأسمالية مثل روبرت رايش وغيره من الذين يروجون لرأسمالية بوجه إنساني محل رأسمالية برأس وحش، ويتهمون هذه الأخيرة بأنها تسعى للهيمنة على ثقافات الأمم ووسائل الإعلام وتقف عقبة في وجه الممارسات الدمقراطية والحريات كلما دعت الحاجة والمصلحة.
الأمر جد خطير لأنه حين يكتب الرأسمالي الكبير جورج سوروس مقالا يقول فيه إن النظام الرأسمالي العالمي يمر في أزمة بالغة الخطورة لم يمر بمثلها على امتداد الستين عاما الأخيرة، فسوف يحظى باهتمام رجال السياسة والاقتصاد المجتمعين في دافوس ويفرض الموضوع على رأس أجندة المؤتمر، وسوف يشتد القلق في أسواق المال ويتعاظم الضغط على الدولار. وبالفعل خصصت صحف الغرب، بل وصحف كثيرة في آسيا، مساحات كبيرة جندت للكتابة والتعليق على الموضوع أشهر المحللين الاقتصاديين والسياسيين. وفي واحدة منها كتب أحد كبار المحررين الاقتصاديين الإنجليز يعلق على جورج سوروس بقوله إن الرجل كان على حق ولم يبالغ في تصوير الأزمة لثلاثة أسباب على الأقل. الأول: أن الأزمة هذه المرة تحدث في مركز أعصاب الرأسمالية العالمية، أي في أمريكا. الثاني: أنها تحدث وسط تطورات تنبئ بتحولات في ميزان القوى الاقتصادية العالمية لصالح آسيا والشرق عموما وعلى حساب الغرب. الثالث: أن الأساليب المعتاد اتخاذها في الأزمات السابقة لن تنفع في حل هذه الأزمة بسبب تعقدها ولكن أيضا، وهو الأهم، بسبب ارتباطها بأزمات أخرى. وخرجت تقارير من دافوس، ومازالت تخرج حتى ساعة كتابة هذه السطور، تنقل عن رأسماليين كبار انتقادات شديدة لما يسمى الآن بالأصولية الرأسمالية التي يمارسها ويدعو إليها مسؤولون ومفكرون يعتقدون أن الدولة لم تخلق إلا لخدمة مصالح السوق، وأن للسوق أولوية على مصالح الطبقة الوسطى التقليدية والفقراء وكبار السن والمرضى، أي على مصالح الأغلبية الساحقة في الشعب. هؤلاء مازالوا يعتبرون رونالد ريجان مثلهم الأعلى ويرددون في كل مناسبة عبارته الشهيرة “إن للسوق سحرا”. ويرد الرأسماليون الإصلاحيون على الأصوليين الذين يرفضون شعار أن السوق يصحح نفسه وأن الدولة يجب ألا تتدخل، بقولهم إن واقع الأمور وتجارب التاريخ من الرأسمالية تبرهن على أن هذا الشعار بعيد كل البعد عن الحقيقة، فما يحدث في الواقع المعاش حاليا في كثير من المجتمعات التي اختارت “الطريق الجديد إلى الرأسمالية” هو أن الدولة هي التي تتحمل عبء تصحيح أخطاء السوق ومسيرتها، وليس السوق هي التي تصحح نفسها. بل وأكثر من هذا، كانت قوى السوق هي التي تطلب من الدولة التدخل لإنقاذها كلما وقعت السوق في أزمة. ويضربون المثل بالمصارف العملاقة التي إذا حققت أرباحا احتفظت بها لنفسها وإذا حققت خسائر ركضت إلى الدولة لتنقذها، مع أنها الدولة نفسها التي لا يخفي رجال المصارف وقادة الأصولية الرأسمالية احتقارهم وكراهيتهم لها. لا يعترف أصحاب الشركات والمصارف الخاسرة بأن الأموال التي ستدفعها الدولة لإنقاذها هي أموال من حق أغلبية الشعب لتنفق على تحسين أحوالها الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتحمي أراضي الوطن من تجاوزات قوى معادية.
نسمع كثيرا من الأصوليين الرأسماليين، وممثليهم في المؤسسات الاقتصادية الدولية وفي حكومات بعض دول العالم النامي، عن ضرورة رفع الدعم، في الوقت الذي تواصل فيه حكومة الولايات المتحدة تخصيص أكثر من 90 مليار دولار سنويا لدعم كبار المزارعين الأغنياء وقطاعات رأسمالية أخرى غير الزراعة. ونسمع الآن عن المدى الذي وصل إليه توحش بعض الشركات العملاقة، وبخاصة شركة وال مارت Wal-mart التي حققت العائلة المؤسسة لها أرباحا في عام 2005 بلغت أكثر من تسعين مليار دولار، أي ما يعادل مجموع دخل أكثر من 40% من سكان الولايات المتحدة، أي جملة دخول حوالي 120 مليون نسمة ينتمون إلى الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
هناك ما يشبه الإجماع في وسائط الإعلام الدولية على أن دافوس لم تشهد منذ انعقاد أول مؤتمر للمنتدى الاقتصادي العالمي هذا القدر من التشاؤم الذي تشهده هذه المرة. سمعت في تقرير قدمته مراسلة لفضائية أوروبية وصفا ذا مغزى كبيرا، قالت عن قاعة المؤتمر في دافوس إنها في يوم الافتتاح كانت مثل ساحة “مزدحمة بأغنياء يفتقرون”. وقرأت لمراسل آخر تقريرا يلخص مزاج المؤتمر في خمس أسئلة ظلت تتردد بصياغة أو أخرى على ألسنة المشاركين منذ لحظة الافتتاح حتى انتهاء أعماله، وكان واضحا أنه يقصد بعبارة مزاج المؤتمر مزاج “النخب الحاكمة والمهيمنة” في معظم دول العالم. وهو المعنى الذي يضيف خطورة إلى وضع في جوهره خطير ومتدهور. أما الأسئلة فهي:
 هل ما زال الدولار شيئا مهما؟ أم أن اليورو يتقدم بسرعة ليحتل محله بعد أن بدأ الاقتصاد العالمي يفقد ثقته فيه، وأن مصير الدولار سيتقرر قريبا على أيدي الآسيويين؟
هل للدمقراطية مستقبل؟ إن الاهتمام بهذا السؤال يشير إلى مسألتين شديدتي الاتساع والعمق، إحداهما تتعلق بالقضية التي أثارها راوش الوزير الأسبق في حكومة الرئيس كلينتون عن الدور الخطير الذي تلعبه الأصولية الرأسمالية المهيمنة في أمريكا والعالم ضد الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. ثانيتهما تتعلق بالنموذج الناجح الذي تقدمه كل من الصين وروسيا لرأسمالية تقوم على أسس ومبادئ التسلط وليس على أسس ومبادئ الديمقراطية. هنا أيضا تتكرر عبارة أن مصير الرأسمالية المرتبط بالديمقراطية سيتقرر في آسيا على ضوء نجاح أو فشل التجربة الهندية؟
 هل يمكن التحكم في التغيير المناخي؟ أهمية السؤال أنه يتردد في ظل أزمة اقتصادية مستحكمة، فلا الولايات المتحدة أو الصين مستعدة للانتباه إلى مسؤولية تلوث البيئة وخفض انبعاث الكربون في وقت يتركز الانتباه على إنقاذ الاقتصاد العالمي من أساسه.
 هل الرأسمالية تنهار؟ ويعني هذا السؤال الذي تردد بشكل ملحوظ أن مشاركين في دافوس يتنبأون بسقوطها أو لديهم على الأقل شكوك في قدرتها على حل أزمة الاقتصاد العالمي إذا استمر النمط الراهن للرأسمالية قائما. وقد فاجأ سوروس المؤتمر باقتراح تعيين مفوض دولي تكون مهمته ضبط أعمال وسلوكيات المصارف العملاقة، بما يعني أن سوروس يحملها أكثر من أي قطاع آخر مسؤولية الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد انتقد مشاركون كثيرون هذا الاقتراح على أساس أن تنفيذه قد يتسبب في حالة فزع تسود الأسواق ويقيد حركة الرأسمالية وتقدمها.
 هل تتعرض البشرية لتهديدات حقيقية وماثلة؟ تحدث البعض في دافوس، كما يتحدثون عادة خارجها، وإن بنبرة تعكس درجة أقل من التفاؤل المعتاد، أو درجة أعلى من تشاؤم متزايد، عن مخاطر ناجمة عن أوبئة متوطنة أو جديدة وعن انتشار أسلحة نووية بين أيد غير مسؤولة وعن استمرار شح المياه. تحدثوا أيضا عن مستقبل "الدولة" في ظل تنامي صعود الأديان، وشارك في هذه الجلسة ممثلون عن الحكومة الإسلامية في إيران.
اللافت للنظر، أن التوتر الذي كان يصاحب انعقاد هذا المؤتمر ولكن من خارجه أي في شوارع دافوس والقرى المحيطة بها، انتقل إلى داخل المؤتمر. جرت العادة في المؤتمرات السابقة على أن يتظاهر الألوف من الناشطين المناهضين للعولمة خارج المؤتمر، وهو ما لم يحدث هذه المرة، الأمر الذي دفع إلى السطح بتكهنات بعضها طريف، إذ قيل مثلا إن أزمة الرأسمالية العالمية الناشبة في دول الغرب خاصة أغنت المناهضين للعولمة عن القيام بمظاهرات، إذ كانت وحدها دليلا كافيا على بعد نظر المناهضين الذين تنبأوا بوقوع انهيارات في الاقتصاد العالمي بسبب تطرف بعض الممارسات المرتبطة بالعولمة. ولكن قيل أيضا إن نجاح الصين والهند في تحقيق درجة أعلى من النمو وخطوات واسعة نحو التنمية باستخدام الرأسمالية تسبب في إضعاف إحدى أهم حجج مناهضة العولمة، وإن هذا النجاح ولّد تناقضا شديدا داخل الحركة العالمية المناهضة للعولمة، وربما دفع في الأجل القريب إلى انحسارها.

جميل مطر
السبت 9/2/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع