حكايات من بلدي
حكاية من حكايات آذار لم تُحكَ بعد



كثيرة هي حكايات آذار، حكايات واقعية وليست قصصا خيالية، تفوق في عددها حكايات الف ليلة وليلة، تختلف عنها في الجوهر والواقعية، في الزمان والمكان.
تكثر هذه الحكايات، بكثرة عدد المشاركين من الرجال والنساء والشباب الذين اصبحوا بعد 31 عاما شيوخا او كهولا، اولئك الذين ساهموا في نشاطهم، وفعالياتهم قبل وفي يوم الارض الاول سنة 1976.
واذا ما جلست مع احد ذلك الرعيل تجد في جعبته مخزونا كثيرا من القصص والحكايات، شاهدها، او سمعها او مارسها، يحكيها وبانجذاب وبافتخار واعتزاز، وبشكل مشوّق وعذب، عذوبتها تفوق حكايات الف ليلة وليلة او حكايات الزير سالم.
كانت الساعة تقارب الخامسة من يوم الـ29/3/1976 خرجنا مجموعة من الرفاق، وصلنا الى ساحة الزاوية في مركز البلد عرابة، ننتظر قرار لجنة الدفاع عن الارض المحلية، كانت الشمس ترسل بأشعتها الذهبية تتدلى نحو البحر، كتلك الفتاة التي ارخت جديلتها الشقراء وتركتها تنساب وتتحرك بحرية على ظهرها وبين منكبيها.
كان الطقس في ذلك اليوم ربيعيا ورائحة ازهار الربيع وازهار البراعم المتفتحة تفوح لتملأ اجواء القرية، وكانت تلك النسمات اللاذعة اللطيفة تلفح وجوهنا المتكدّرة الغاضبة العابسة، المتجهة نحو الغرب. وقف الرفيق توفيق كناعنة قلقا ومتسائلا ومصرّحا كمن يحكي مع نفسه، طال الاجتماع، ما لهم لم يخرجوا بعد. تساؤلاته تنم عن نفاد صبره اذ عليه مهمة لا بد من تنفيذها قبل غروب الشمس، مان ان عبر توفيق كناعنة عن نفاد صبره اذ بالرفيق ابراهيم شمشوم برفقة الصديق احمد جربوني يطلان ثم يقتربان منا في طريقهما الى نادي الحزب الشيوعي المجاور لمكان تواجدنا. اقتربا وقد علت على وجهيهما علامات البؤس وعدم الرضى، تعبر عن شيء غير طبيعي، ومع اقترابهما انبرى نحوها كاتب هذه السطور من بين ذلك اللفيف من الرفاق والاصدقاء متجها نحو الاثنين فبادرهما بالسؤال ما الامر، وكانت خطواتهما وئيدة متثاقلة فشدا به جانبا وابلغاه بقرار لجنة الدفاع عن الارض المحلية، الذي لم يرق لهما، بأن "نعم" للاضراب، بشرط ان يكون اضرابا هادئا وسلميا، فلا مظاهرات مساء اليوم ولا تحرك غدا، ويتسرع الرفيق عمر المعهود أقسم أمام الاثنين ابراهيم واحمد: لأحرقنّ الارض تحت اقدام السلطة.
كانت السلطات قد غالت بالتهديدات وبالغت بنشر قوات الجيش في ارض المل وتركيزها كأنها قادمة على شن حرب ضد احدى الدول المجاورة. انفرد كاتب هذه السطور لتوه عن المجموعة ليذهب الى بيت صديقه الرفيق محمود موسى بدارنة، ذلك الرفيق المتحمس والمتوقد نشاطا وحيوية، فوجد في بيته في هذه الاثناء صديقه الرفيق اسماعيل عطا قراقرة. غادر الثلاثة البيت وانطلقوا في مهمة الى ان وصلوا مدخل القرية من الجهة الشمالية المسماة بـ"أرض البركة" من تلك النقطة كانت تمر آليات الجيش وكل التعزيزات العسكرية والذين كانوا يلوّحون بأيديهم وباصابعهم الوسطى باشارات التهديد وهم يعبرون الشارع، كان صوت الرفيق توفيق كناعنة في هذه الاثناء يجلجل ويصدح من مكبر صوت عُلّق على ظهر سيارة، يناشد الجمهور بالالتزام بقرار لجنة الدفاع عن الارض، مبلّغا عن قرار الاضراب ويُذكرهم بقرار المصادرة المشؤوم، ويحذرهم من نوايا السلطات المبيّتة ويحثهم بأن ليس امامهم الا الصمود والاضراب. في حين بقي الرفيق ابراهيم شمشوم، والصديق احمد جربوني في نادي الحزب ينتظران عقد اجتماع لكادر الحزب الشيوعي والجبهة الدمقراطية لتبليغ الرفاق والاصدقاء بقرار لجنة الدفاع عن الارض المحلية، ولاعداد الكوادر والاستعداد ليوم غد الثلاثين من آذار.
اختفت الشمس عن الانظار، وأطلّ الغسق بلونه البرتقالي ليبدأ الليل بارخاء سدوله. كانت في هذه اللحظات فرق من الجنود تتمركز بين اشجار الزيتون على الشارع الرئيسي الذي يربط سخنين وعرابة ودير حنا. كانت لحظات حساسة وحاسمة، كان الجيش المتمركز في الجهة الغربية من القرية على الشارع، ينتظر حلول الظلام للتسلل الى القرية والانقضاض على جماهير عرابة لكسر صمودهم وشوكة كفاحهم، كانت عرابة مستهدفة في ذلك الوقت لنشاط رفاقها وتحركاتهم في هذا المضمار. كانت هواجس الناس كثيرة، كما كانت تقديراتهم وتخميناتهم حول نوايا السلطات وما كانت تضمره وتبيّته لاهالي عرابة بالذات، كانت ظنون الاهالي وهواجسها واقعية وصحيحة.
تزامن وصول الرفاق الثلاثة محمود واسماعيل وعمر بوصول ثلاثة فتيان. خلت المنطقة من السكان والمارّة لحساسية الموقع والوضع، الا من شخص واحد، يمت لمحمود بدارنة بصلة القرابة، وكأني قد انيطت به مهمة طرد كل من تواجد، إما حرصا على سلامة الناس او استفزازا لهم.
وبسبب سلوكه المستهجن نشبت مشادة كلامية ما بين ذلك الرجل ومحمود بدارنة. لحظات اختلى محمود بدارنة مع اثنين من الفتيان اما الثالث فقد غادر المكان لمواصلة المهمة، كما شاءت الصدف في هذه اللحظات ان يصل الى المكان وعن طريق حي الجلمي عدد من اتراب سليمان نمر نعامنة واسماعيل شحادة نعامنة، ذلك الصبيان اللذان اختلا بهما محمود بدارنة. مع وصول الاتراب اندفع الشابان بالهتاف واخذت حناجرهم تصدح: "ليطلق سراح فضل نعامنة، بالروح بالدم نفديك يا جليل". كانت السلطات قد اعتقلت احترازا منها الرفيق فضل نعامنة فجر يوم 29/3/1976، ظنا منها انها تستطيع اخماد لهيب اصرار جماهير عرابة على تنفيذ الاضراب.
انطلقت هذه المجموعة من الفتية والشباب بهتافاتها الحماسية لتهز الاجواء، وقطعت في مسيرتها حي الجلمي وأخذت جموع الشبان تنضم بجموعها زرافات ووحدانا الى هذه المجموعة، لتلتحم بمجموعة من اعضاء الشبيبة الشيوعية في حي النعامنة، كانت قد هيأت نفسها لتنظيم مسيرة في القرية بقيادة الرفيق كمال محمد نعامنة سكرتير فرع الشبيبة الشيوعية. فاختلط هتاف المتظاهرين بجلجلة الرفيق توفيق كناعنة في نفس الحي لتواصل المسيرة طريقها، لتقطع حي النعامنة ثم حي القراقرة، ثم حي الخطبا، ثم حي الكناعنة، لتدور من باب الزاوية وتلتقي في حي البدارنة ثم حي نصار ياسين، لتشكل اعظم واضخم مسيرة شبابية، ولتتوقف عند محطة سونول في عرابة في الطرف الغربي من القرية يفصلها عن الشارع الرئيسي حوالي 300 متر. وما ان توقفت هناك اذ حدث ما كان متوقعا وصدقت هواجس الاهالي وتخميناتهم، فقد التقوا بمجموعة من الجيش، وكان الظلام قد خيّم على القرية فانقضت على الجمهور بوابل من الرصاص فجرحت العشرات ومن بينهم كانت جراح الشاب اسماعيل شحادة نعامنة جراحا خطيرة، نقل على اثرها الى المستشفى.
أتوقف عند هذا الحد من الحكاية لتتبعها حكايات اخرى، حكاية استشهاد خير ياسين وحكاية ماجد أبو يونس وغيرها.

(عرابة)

عمر سعدي *
الأربعاء 4/4/2007


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع