''لا تلوموا الضحية''
كأنّ "ظلم ذوي القربى" قدَرٌ يرافق إميل حبيبي وقومه

تحت العنوان "اتهامات جديدة في كتاب للناقد خضر محجز ... هوية إميل حبيبي المبعثرة تحن الى التئام جروحها"، كتبت السيدة أمينة غصن (جريدة "الحياة" اللندنية، 11.11.06) مقالة ذات شجون تثير الشجون.
فقد تناولت كتابًا عنوانه "إميل حبيبي الوهم والحقيقة" لخضر محجز، صدر عن دار قدمس (دمشق، 2006). وهو ما لم أقرأه بعد، كونه لم يصل بعد للباقين في هذا الجزء من الوطن، الذي نسيه كثيرون من "ذوي القربى" حتى أمسِ القريب؛ والذي كان حبيبي أحد أشدّ الدروع لأجل بقاء أهله فيه، أسوة برفاقه الذين كتبت ذاكرة أهلنا أسماءهم بحروف من نور، مثل: توفيق طوبي، توفيق زياد، إميل توما، حنا نقارة، وتلامذتهم (الكبار بنفوسهم ممّن يعترفون بمعلّميهم ولا يعرفون لهم جحودًا) كمحمود درويش وسميح القاسم وآخرين.
باستسهال يجافي التحليل بل حتى التأويل تكتب الناقدة أنه "مذ تسلّم إميل حبيبي جائزة الإبداع الإسرائيلية من يد رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق شامير، في عزّ الانتفاضة الأولى، أمسى كاتب البُدع الداعي الى ضرورة تطبيع العلاقات الثقافية مع الكتّاب والأدباء الصهاينة". وهنا يروح كل الحديث ينصبّ على السياسة ضمن مسعى عجيب لتقييم الأدب. كيف؟ هكذا، لا جواب.
إن قبول حبيبي بالجائزة أثار جدلاً واسعًا، وهناك متّسع كبير للتأييد والمعارضة ولو بأحدّ أشكالها. هذا شرعيّ بل حيويّ. لكنّ المسافة تظلّ شاسعة جدًا بين هذا الجدل التعدّدي المُثري وبين التلميح والتلويح بأشباح التخوين. هذا سيكون اغتيالاً أكيدًا للتفكير وللفكر. والاغتيال ليس من وظائف المثقف.
إنّ من لا يعرف حيفا والناصرة واللد ويافا، الشقيقات الباقيات رغم كل العنصرية والتعسّف، ومن لم يسمع حبيبي يهتف بضراوة في سخنين يوم الأرض، سيسهُل عليه الخروج ببُدع كتلك. من لا يعرف سوى العناوين البرّاقة العابرة، قد يجد نفسه متورّطًا في صفقة تسويق لم يمحّص في محتواها فيضطلع فيها، لاهيًا عما تنطوي عليه من استغلال مريب مؤلم للعقل والنفس داخل الوعي العربي المُنهك من المحيط حتى الخليج. فوكيل الاستسهال غير المجتهد لا يعرف، أو لا يهمّه أن يعرف، على سبيل المثال، إميل حبيبي الصارخ في ثمانينيات القرن الماضي، في خان العمدان، من قلب عكا القديمة، مواجهًا دعاة الترانسفير أمام آلاف من الجماهير، حيث كنت يومها بينها فتىً يتعلّم دروس الحياة، بما مفاده: "إنّنا نجتمع هنا وقد عدّى السبت في أقفية كل ذوي دعاة الترانسفير، كي نقول لهم وللعالم أجمع: هنا باقون..". أولئك لا يعرفون إميل حبيبي الذي قاد إحدى أهم مؤسسات بقائنا الثقافية والسياسية، صحيفة "الاتحاد"، التي طالما أغلقتها السلطات الإسرائيلية، لشدّة عناد وبهاء تطاولها الثوريّ "كالعين التي تلاطم المخرز". وهو مثلٌ باتَ لازمةً لملحمة أهلنا التي انزرعت، أيضًا، بفضل حبيبي ورفاقه في أذهاننا، نحن الشباب الفلسطيني الذي يصرّ على البقاء في وطنه، الذي لا وطن لنا سواه، وهي المقولة التي دأب إميل حبيبي على استخدامها في مقالاته وخطاباته.
الناقدة تتوقف عند مجلة «مشارف» التي تصفها بلغة تنزع للتسطيح عديم العمق بأنها مجلة "تجاورت (فيها) مقالات الكتاب الفلسطينيين والإسرائيليين". من هم أولئك الإسرائيليون؟ ما هذا التعميم المريب؟ هل سمعت عن مناهضي الصهيونية والحروب منهم؟ هل تعرف مواقفهم الواضحة الأقرب الى قضيتنا من كثيرين كثيرين من ذوي القربى المتحكّمين؟ هل قرأت ما كتبوه في المجلّة نفسها؟ لا بل إنّها تمدّ مدادها متماديةً متهمة حبيبي بتبنّي "حق تقرير المصير لليهود في فلسطين"، مضيفة بلهجة هوليوودية الطابع في إثارتها كيف "هبّت كل الجبهات الثقافية العربية مشتعلة في مواجهته، وحاسمة في رفضه". هكذا يتم تشويه التاريخ والحاضر؛ بهذه الطريقة يتم تحويل ملحمة بقاء الباقين من شعبنا في وطنهم الى هامش هزيل تحت فجاجة نصّ/ كذبة "بطولات" النّظم العربية المتحكمة التي تركتنا كالأيتام على موائد لئام الاستعمار. هكذا يجري تناسي أيام حالكة شكّلت فيها معركة البقاء آخر الصخور وسط تلاطم أمواج الهيمنة والتواطؤ، وهما اللذان لا يحلان سوى متلاحمَين.
السيدة الناقدة تسخر، بلهجة تنسجم مع اللغة الريغانية البائدة، من إيمان حبيبي بـ "حتمية التحوُّل الطبقي في المجتمعات، وصولاً إلى الكمال الشيوعي وجناته الموعودة". لربما أنها تمكنت من رؤية ما لم ترَه شعوب فلسطين والعراق ولبنان، من مغازي الأمركة المناهضة للشيوعية، ونعمها الدمقراطية التي بها اليوم نرفُل.. لكن أشدّ ما في الأمر من تراجيكومية تجلى في ذلك الوصف المُجافي للمعنى وتاريخيته. ولنقرأ التالي:  "إميل حبيبي ينضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة 1940، وبعد فشل ثورة 1936 (...) تحوَّل من الأممية إلى القومية، وانخرط في عصبة التحرّر الوطني بحثاً عن سلطة تتلبس أيديولوجية حزبية تزعم رفض الكولونيالية الصهيونية". لا حاجة للإطالة في هذا التشويه المريع على مستوى المعلومة التاريخية البسيطة والمؤرشفة، لأن "عصبة التحرّر الوطني" الموسومة هنا بألوان قومية من النوع الضيق، والمشكَّك بها كمن "تزعم رفض الكولونيالية الصهيونية" ليس أكثر، هي هي الحزب الشيوعي الفلسطيني قبل 1948. أهكذا تتعامل الدراسات واستطراداتها النقدية مع معطيات تاريخية يفترَض أن تقع في متناول كل طالب جامعي في سنته الأولى؟ بالله عليكم وعلينا. قليلا من الجدّ والجدية. إن الحركة الشيوعية في منطقتنا تستحقّ لأهميّتها علاجات متأنّية بمبضع النقد، بأحدّ أشكاله، كأيّ حركة سياسية. بالمبضع وليس بالبلطة ولا المسدّس. ففي النهاية، الشيوعيون هم أصحاب مقولة إن المعصوم عن الخطأ هو وحده ذاك العازف عن العمل. ولكن النقد سيكون طائشًا حين يتم إغفال استيضاح الحقائق الأساسية المرتبطة به. النقد ليس حقًا بل إنه واجب، شرط التزام الاستقامة الفكرية لدى من يأخذ على عاتقه همّ مهمّة النقد.
على سبيل النوادر الساعية لتدعيم النصّ الذي لا يصادق الوقائع كثيرًا، تنير الناقدة ألبابنا بكشف تاريخيّ غير مسبوق، لربّما استقته من الكتاب الذي تستعرضه، واصفة كيف "أحرقت الجماهير مقرَّات عصبة التحرّر الوطني، وهرب إميل حبيبي إلى لبنان. وظلَّ طوال حياته المُدافع المستميت عن حق إسرائيل في الوجود". أين تم إحراق هذه المقرّات؟ من أين هذه المعلومات؟ من أحرقها، افتراضًا؟ الجماهير؟ أهؤلاء الباقون الذين وقف حبيبي ورفاقه بأجسادهم معهم لمنع تشريدهم مع بقيّة شعبهم؟ هل تعرف السيدة الكاتبة، مثلاً، أنّ أحد أهمّ مقرّات "عصبة التحرّر الوطني" المسمى "مؤتمر العمال العرب" لا يزال عامرًا محميًا في كنف أهله، داخل حي وادي النسناس العريق في حيفا، حتى اليوم؟ هل تعرف أنّ أحفاد "العصبة" الباقين يحافظون عليه كقرّة العين. يوم الجمعة الماضي، حين اشتريت خضاري وأغراضي العاديّة من "سوق الوادي" مررت بمحاذاة مؤتمر العمّال. لا يزال شامخًا. وعلى جداره لوحة فنيّة، ضمن معرض جماعيّ، كُتب عليها "درب إميل حبيبي". هل تعرف الناقدة معنى كل هذا؟ هل تشعر به؟
لا أعرف الكاتبة لكني أرغب في الدفاع عنها هي نفسها في وجه قلمها، والذي كتب: "لمّا قامت دولة إسرائيل العتيدة، عاد إليها إميل حبيبي بالتعاون مع قوّة الاستخبارات التابعة للوكالة اليهودية، كما يقول معارضوه". أهكذا يكون إنتاج الثقافة؟ أهكذا يُلقى الكلام على عواهن نخيله المتيبّس؟ أهكذا تُصاغ الادّعاءات النقدية وكأنّه يكفي إضافة جملة "كما يقول معارضوه"، لتمسي دليلاً ثاقبًا على صحّة الادّعاءات الواهية؟ أبهذه الصيغ المستسهلة الواهية تُثقَّف الأجيال العربيّة؟! ثم أنّه ما معنى تفشّي المحاولات المريبة لدمغ مثقفينا الفلسطينيين المناضلين في هذا الجزء من الوطن بعلامات سؤال قاتمة على تاريخهم؟ من يخدم هذا بالضبط؟ هذا سؤال للتفكير بتبعات الاستسهال.
 لكنّ الحقيقة هي أنّ هناك ما أثار فيّ ابتسامات ساخرة. مثلاً، التفسير العجيب الغريب للمُقتبس التالي عن إميل حبيبي، ونصّه: "مليح ان صار هكذا، وما صار غير شكل". (الاقتباس غير دقيق، بالمناسبة، وهو من رواية "المتشائل"). فكيف فسرت الناقدة أو تبنّت تفسير هذا الاقتباس؟ هكذا تكتب: "وعى حبيبي ان طقس التطهُّر من الماضي وكوابيسه لا يتم إلا بالاعتراف الكامل بتحول الماضي حاضراً لا يشبهه، بل ينقضه ويهدمه". يا لقسوة وإحراجات عدم فهم المقروء لدى من يُفترض فيهم سعة المدارك الدراسية والنقدية. فقد وردت تلك المقولة في ذروة من السخرية الذاتية السوداء المرّة، بصدد ما وقع للباقين من شعبنا الفلسطيني في وطننا، حين وجدوا أنفسهم يبحثون ولو عن أخفّ بصيص من نور لمواجهة العتمة الباردة الحالكة التي أحاطت بهم، "وبفضل" غير قليل ممّن امتلكوا ولا زالوا يمتلكون متّسعًا من "جرأة" للوم الضحيّة. فرانتز فانون رفض لوم الضحية، في سياق رفض الاستعلاء الأخلاقي للاستعمار على مقاومة ضحاياه. في مسرحيته "لكع بن لكع" يكتب إميل حبيبي "لا تلوموا الضحية" في سياق الدفاع عما يضطرّ عليه المقهورون لضيق الحال. يمكن استعارة الفكرة لتلائم سياق جدلنا هنا، ومطالبة ذوي القربى بالتمعّن قليلاً في تعقيدات مسيرة هذا الجزء الحيّ من الشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال قابضًا على الجمر، قبل أن يُقدموا على فعل المحو. خاصة إزاء من هبّوا وتمرّدوا على كافة ممارسات محوهم.

هشام نفاع
السبت 9/12/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع