عن المتشائل، وعن أبنائه وأحفاده

لا أنوي التطرّق، في هذه المداخلة القصيرة، إلى مشروع إميل حبيبي الأدبي العظيم، فهناك الكثير من الكتـّاب والنقـّاد ممّن يمكنهم القيام بهذا خيرًا منّي.
تعرّفت على إميل بالأساس كصيّاد هاوٍ، فأنا أيضًا كنت وما زلت من هواة الصيد المتحمّسين. وعلى الرغم من فارق السنّ بيننا، فقد التقيته على شواطئ البحر من جسر الزرقاء حتى رأس الناقورة، وفي عمق البحر لاحقًا، حين "تقدّمنا" في كار الصيد واقتنينا قواربَ صيد - هو مع شريكيه محمود أبو الدخل وأحمد الشيخ من الناصرة، وأنا مع شركائي نصرات إيراني، كمال جيّوسي، طيّب خلايلة وبشير بيّاعة، من عكا – ثم شرعنا نبحر بها عند الغروب؛ نخرج من ميناء عكا مع حلول الظلام ونعود مع بزوغ الفجر.
يغريني الإبحار في قصص الصيد هذه. منذ كنت طفلاً أمسكُ بصنّارة الصيد مع والدي، ابن جيل إميل وابن بلده، نقف كلانا على طرف أحد الخلجان الصغيرة في مصبّ وادي التماسيح في جسر الزرقاء، بينما يقف إميل ورفاقه في الصيد على الطرف الآخر، وحتى رحلات الصيد المشتركة من ميناء عكا في قوارب فرمي وأحمد القيعة أو في قواربنا.
كان في وسعي القيام بذلك، ولعلـّي كنت سأمتـّعكم بهذا وأسلّيكم وأسلّي نفسي بعدّة نهفات وحكايا لا بأس بها. لكن اختياري أن أستهلّ الحديث بالصيد لا يمتُّ، عمليًا، بأيّة صلة لحكايا الصيد والصيادين. بل يتعلّق بحقيقة أنّه بعد أخذٍ وردّ بيني وبين منظـّمي هذا الحدث الثقافي الهام، انتهى الأمر بأن تـُقدّم محاضرتي في افتتاح "شهر الثقافة والكتاب العربي"، وعن إميل حبيبي بالذات، صيّاد الأسماك الذهبية في الأدب الكلاسيكي الفلسطيني وأحد أعمدته، باللغة العبريّة!
هذا الاختيار فوائده مفهومة ضمنًا، فمن غير اللائق، في غياب الترجمة الفوريّة، أن يجلس الكثير من الضيوف المحترمين ويصغوا إليّ بأدب جمّ، من دون أن يفهموا عمّا أتحدّث.
أمّا أثمان هذا الاختيار، فبعضها جليّ ظاهر للعيان وبعضها الآخر أقلّ وضوحًا، إذ لا تكفي نظرة خاطفة لكشفه. ولعلـّي أحسن صنعًا إن أوضحت القسط الأخير بحكايتيّ صيد، واحدة لإميل حبيبي والأخرى لي.
أبدأ بحكايتي، وإليكم ما جرى: بعد أن حدثته مرارًا عن مغامراتي في صيد السمك، ناشدني أحد أصدقائي اليهود أن أصطحبه معي إلى الصيد على متن القارب الذي كنت شريكًا فيه. فكان له ما طلب. ذلك المساء حالفني الحظ - وهو ما لا يحدث كثيرًا – إذ علقت سمكة كبيرة بصنّارتي. في مثل هذه الحالات، يترك بقيّة الصيادين، للحظة، صنانيرهم وخيوطهم المدلاّة أمامهم في البحر، ويروحون يركزون جلّ اهتمامهم في صاحب الحظ. هنا، يصبح الجميع شركاء في الحدث، وهم يصيحون مشجّعين بانفعال: "على مهلك، سايرها، الله... الله... الله"، فإذا ما سار كلّ شيء على ما يرام ورُفعت السمكة إلى القارب، يفرح الجميع بفرحتك: "صحّة... صحتين" وما إلى ذلك من تحيّات. لكني يومها شعرت بالإحراج وقد ظلّ صديقي اليهودي خارج دائرة الانفعال ومشاعر الجماعة، وهكذا فبدلاً من أن أقول "والله شكلها عفيّة" رحتُ أردّد بالعبرية: "בחיי, נראה דג גדול" ، وبدلاً من "الله... الله... الله" صرت أبحث عن تعابير مثل "أوي، أوي، أوي... واي، واي، واي"، وما لبثت أن انتبهت إلى أنّه بدلا من إشراك صديقي في الحدث، فقد أخرجت نفسي منه.
بعد هذه الحادثة المحرجة، فهمت على مستوى التجربة العميقة أنّ الإنسان يجيد الإحساس والحلم والحبّ والكراهية والانفعال بلغة أمّه.
أورد هذا القصة، أيضًا كي أقول أنني لو بدوت لكم عقلانيًا، فليس في الأمر دلالة على أنني وُهبتُ "عقلانية أصيلة". وإذا ما أخفقت في التواصل مع الشاعرية التي يتردّد صداها في كل جملة، بل في كل كلمة كتبها إميل حبيبي، فليس في الأمر دلالة على محدوديّة شعورية فيّ. بل إنّه، وببساطة شديدة، من الصعب عليّ لعب هذه اللعبة في ملعب خارجيّ.
قصص البحر وصيد السمك منثورة في الكثير من أعمال إميل حبيبي، وخصوصًا في روايتيه المدهشتين "خرافية سرايا بنت الغول" و"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، اللتين أنجز لهما أنطون شمّاس ترجمة عبرية رائعة. وقد اخترت من بين قصص إميل العديدة عن الصيد، قصةً وردت في الفصل الثالث عشر من "المتشائل"، تحت عنوان "آخر الحكايات حكاية السمك الذي يفهم كل اللغات".
فبعد أن يتمرّد ولاء، نجل سعيد، على والده وعلى تربيته المِطواعة والانهزاميّة، يقوم حاملا السّلاح ويتحصّن في قبو خرب على شاطئ الطنطورة. وحين يحاصره الجيش، تنضمّ إليه أمّه – زوجة سعيد – فيختفيان في عمق البحر. بمرور الأيّام يعتاد سعيد القدوم إلى شاطئ الطنطورة، وهذا ما يقوله إميل على لسان سعيد:

"وكنت أذهب إلى شاطئ الطنطورة، وقد أصبح عامرًا بالمستحمّين، فأقعد قعدة ولاء على صخرته في لسان البحر، وأرسل خيطي وأناديه بقلبي أن يرد عليّ.
فإذا بطفل يهودي وقد قعد إلى جانبي دون أن ألحظه يفاجئني بسؤال: بأية لغة تتكلم يا عمّاه؟
- بالعربية.
- مع من؟
- مع السمك.
- والسمك، هل يفهم اللغة العربية فقط؟
- السمك الكبير، العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب.
- والسمك الصغير، هل يفهم العبرية؟
- يفهم العبرية والعربية وكل اللغات. إن البحار واسعة ومتّصلة. ليس عليها حدود وتتسع لكل السمك.
- أوي فافوي".

في هذه الاستعارة المأخوذة من عالم البحر، يمثـّل السّمكُ العجوز الآباءَ والتراث. وفي استعارة "من عالم البرّ" هو بمثابة الجذور.
يتحدّث السمك العجوز العربية، وبرأيي المتواضع، هناك سمك عجوز يتحدّث العبرية، أيضًا. في تربتنا القاسية توجد جذور للثقافة وللـّغة العربيّة وجذور للثقافة وللـّغة العبريّة.
أما السّمك الصغير، وفقـًا لإميل حبيبي، فيعيش في عالم متعدّد الثقافات، وهو يختلط ويتحادث بلغات عدّة.
أحقـًا؟
إنّ ماضي الثقافة واللغة العبرية في الدولة، في أمان، وكذلك مستقبلهما. فماذا عن حضارتنا ولغتنا العربيّتين؟ هل قـُيـِّض لهما الإقصاء إلى الهامش والكفاح من أجل مكان تحت الشمس في وجه المحاولات المؤسّساتية وغير المؤسّساتية لطمسهما ومحوهما؟ لقد كـُتب الكثير عن الجهود الرسميّة وشبه الرسميّة لمحو آثار وجودنا وإضعاف ومحو ثقافتنا، ولا أنوي هنا الإسهاب في هذا، بل أكتفي بتذكير السّامعين بالحدث النادر، والفريد من نوعه، حين قـُدِّم في الكنيست اقتراحٌ لحجب الثقة عن الحكومة في أعقاب إدراج قصيدة لمحمود درويش ضمن منهاج التعليم العبري.
إلى هنا عن الصيد والصيّادين.
إخترتُ لمحاضرتي عنوان: "عن المتشائل، وعن أبنائه وأحفاده". وفي هذا أقول إن ردّة فعلي الأولى، حين قرأت رواية "المتشائل" مع صدورها عام 1974، تميّزت بالنفور. نفرتُ من شخصيّة البطل الضّعيفة والمتزلـّفة أمام مديره يعقوب وأمام "الرجل الكبير- قصير القامة". ومن نفاق سعيد ولعبه على الحبلين. فهو يغيّر اسم ابنه البكر الى "ولاء" بغية المحاباة، لكنه يركض خفيةً ليحتضن "الترانزيستور" حين يسمع عن خلية فدائية تدعى "خلية الطنطورة". باختصار، لقد تحفـّظت على شخصية سعيد المتشائل، ولم تشفع له، بنظري، فصاحته ولا سخريته اللاذعة التي كان يطلقها من خلف ظهور أسياده ومشغـِّليه. لم تشفع له حتى رأفته بأبناء شعبه المهجّرين الذين جرى قذفهم إلى ما وراء الحدود، ولا حنينه الصادق إلى أحبّائه الذين غادروا إلى غير رجعة، تاركينه وحيدًا.
وفي اعتقادي، فإن هناك أكثر من مجرّد لمحة خاطفة من الشّبه بين نفوري من سعيد في أيام صباي، وبين نفي المنفى والشّـتات. فقد كان يهمّـني، في ذلك الحين، التواصل مع كلّ ما يقوّيني أو يعزّزني؛ كلّ ما يجعلني أشعر بالفخر ويتيح لي المشي "بصدر قوميّ منفوخ".
في الفصل قبل الأخير من "المتشائل"، يقعد سعيد على خازوق مرتفع ويتوسّل إلى "شيخ الفضائيين" أن ينقذه من عذابه، لأنّه لم يعد قادرًا على تحمّل عبء واقعه التعس. فيُركـِّبه "شيخ الفضائيين" على ظهره محلقًا في الفضاء. ينظر سعيد تحته فيرى يُعاد وأبا محمود، ويرى العامل من وادي الجمال يحمل مزودته متوجهًا إلى عمله. تنظر الجارات إلى أعلى ويزغردن، فيقول سعيد: "ورأيت يعاد ترفع رأسها إلى السماء وتشير نحونا وتقول: حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس!".
مستاءً من شخصية سعيد، كنت أنا أيضًا كمن يقول: "حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس".
كنتُ بحاجة إلى عشرين عامًا من الزمن الأصفر، المصفرّ من المِحن الشخصية والجماعية على حدّ سواء؛ الزمن الذي وقفتُ فيه أنا أيضا أمام "يعاقبة" و"رجال كبار- قصيري القامة"، كي ينفرج صدري فأتمكـّن من النظر في دواخلي، ورؤية ما حاول إميل حبيبي قوله لأبناء شعبه/شعبي في الجملة التي اختارها خاتمةً لروايته، وهو يخاطب من يحاول اقتفاء أثر سعيد أبي النحس المتشائل، دون طائل: "فكيف ستعثرون عليه، يا سادة يا كرام، دون أن تتعثـّروا به!؟".
كان عليّ أن أجلس وقتًا طويلاً على خازوقي الخاصّ، لأبصر خازوق سعيد، ولأدرك ما قاله الشّاعر محمود درويش في الرثاء الذي ألقاه في جنازة إميل: "في كل واحد منـّا واحد منك ونحن جميعًا فيك".
يعيش في كل واحد منّا، نحن الفلسطينيين في إسرائيل، بهذا القدر أو ذاك، متشائلٌ يحاول البقاء. يحاول إعالة نفسه وعائلته، والحفاظ على ما تبقى له من كرامة. يحاول أن يبني بيتًا هُدم، وأن يرسم المرّة تلو المرّة ملامح ذاكرة امَّحت. جميعنا متشائلون نصارع قوىً أعتى منّا تحاول، المرّة تلو الأخرى، استنساخ المتشائل الذي فينا.
وما هو ذلك الشيء الذي يغذّي ويحيي المتشائل الذي فينا وفي آبائنا وأبنائنا؟
إنه بكلمة واحدة: الخوف!
قرأت قبل عدّة سنوات مقابلة مع إميل حبيبي قال فيها إنه كلّما كان يسمع ضجيج محرِّكٍ قرب بيته، كان الخوف يعتريه ويخيَّل له أن الشّاحنات قد جاءت، وأنهم سيحمّـلونه وجيرانه عليها ويلقون بهم وراء الحدود.
فهل بلغنا تلك الأيام التي بات في إمكاننا أن نشعر فيها، أخيرًا، بالأمن والأمان في وطننا، كسائر البشر؟
إنّ مُحاولات مصادرة الأراضي وهدم البيوت العربيّة تتواصل، والأصوات الدّاعية إلى تصعيدها تتعالى أكثر من أيّ وقت مضى. فمجرّد بقائنا في وطننا - ولو على هامش المواطنة الإسرائيلية - ليس مضمونًا، فاللجان الرسميّة والسّاسة العاديون، وغالبية الجمهور اليهودي، يرون فينا مشكلة ديموغرافية، و.. و.. و.
قبل أسبوع واحد فقط، قال أفيغدور ليبرمان من على منصّة الكنيست، إنّه يتوجّب الحكم بالإعدام على أعضاء الكنيست العرب. فيما عدا الإدانات والتحفّظات، التي كان بعضها واهنًا، كان السيّد ليبرمان ولا يزال داخل حدود الشرعية الإسرائيلية، فيما نحن وممثـّلونا خارجها، ويبدو أنّنا سنظلّ.
غيومٌ سوداء كثيرة تغطي وجه السّماء وتلقي بظلـّها الثقيل علينا جميعًا؛ غيوم التمييز والاضطهاد واستبداد الغالبيّة؛ غيوم إقصاء حوالي مليون مواطن عربيّ عن حدود المواطنة الشرعية.
نحن بحاجة إلى ريح قويّة؛ ريح تأتي بالاعتراف بنا وبمواطنتنا المتساوية والتامّة وبحقنا في الحفاظ على هويتنا وتطويرها.
ونحن بحاجة إلى رياح عاتية؛ بل نحتاج إلى عاصفةٍ جبارّة تكنس الاحتلال الذي يسحق أبناء شعبنا الرازحين تحته، ويُفسد محتلـّّيهم.
فقط بهبوب هذه الرياح الخيّرة ستتبدّد غيوم الظلام؛ ومعها، كما أرجو، ستنزاح غيمة المتشائل وتشرق الشّمس.

(نصّ المداخلة التي ألقيت في ندوة افتتاح "شهر الثقافة والكتاب العربي" في حيفا يوم 7 أيّار الجاري، والتي خصّصت لمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المناضل والأديب الشيوعي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي – تنشر هنا بالتنسيق مع فصلية "مشارف").

* الكاتب باحث ومحاضر في قسم علم النفس في جامعة حيفا، وعضو هيئة تحرير فصلية "مشارف" الثقافية.

بروفسور رمزي سليمان
السبت 27/5/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع