ذكرى الرجل الذي عرفتُ وأكبَرْتُ وأحببتُ وخالفت
إمـيـل حـبـيـبـي واحـد مـن هــؤلاء

تذكر الشعوب أبناءها، ولكنها تحتفظ بمكانة خاصة لهؤلاء الذين عرفوا كيف يعملون لخير هذه الشعوب ورفاهيتها، ورفع شأن مكانتها وتطوّر حضارتها وبلورة ثقافتها ودفعها للمُشاركة مع الشعوب الأخرى، في دفع عجلة مستقبل العالم والبشرية الى الامام.
وشعبنا العربي الفلسطيني، وخاصة مواطني دولة إسرائيل منذ عام النكبة 1948، يذكرون هؤلاء الرجال الذين عرفوا، في أحلك الأوقات، كيف يحمون أبناءَ شعبهم من الضياع القومي والمَعرفي والاجتماعي، وصانوا هويّته وحافظوا على لغته وقادوه في مسيرة نضال طويلة وشرسة، حتى تمَكن أن يُعلنها قويّة هادرة في يوم الأرض الثلاثين من آذار عام 1976.
وكان إميل حبيبي أبرز هؤلاء الرجال وأكثرهم حيويّة وعملا ورأيا ثاقبا وجرأة وذكاء وتأثيرا. ويكاد يكون الوحيد الذي ترك أثره في مختلف مناحي الحياة العربية الخاصة والعامة للجماهير العربية في إسرائيل، منذ عام النكبة حتى سنوات التسعين الأولى من القرن العشرين.
لقد التزم إميل حبيبي نهج حزبه الشيوعي وآمن بمبادئه، وطرحها بكل الجرأة في كل مَحضر ومناسبة، وأعلنها صريحة: أنّ الحلّ السياسي الوحيد لقضية الصراع العربي الإسرائيلي هو قيام دولتين مستقلتين واحدة لليهود وأخرى للعرب الفلسطينيين. يومها، وعلى مَدار سنوات، اعتُبر هذا الكلام خيانة بالنسبة لليهود وللعرب. ونشهد اليوم أن هذا هو المَطلب العربي والفلسطيني والإسرائيلي والعالمي. صحيح أنّ الرّياح جرَت بما لا تشتهي السفن، ولكنّ قراءة الواقع واستقراء المستقبل هي من خاصيّة البعض.
وكان إميل حبيبي ورفاقه مَن عملوا على حفظ الثقافة العربية في البلاد ومَن صانوا اللغة العربية السليمة أمام الخطة السلطوية التي هدفت إلى جعل اللغة العبرية السائدة والوحيدة التي يُعمَل بها ويُدَرّس بها في المدارس. وكانت صحف الحزب الشيوعي هي الأمل وهي النافذة ومن ثمّ البوابة التي على صفحاتها تبلورت الحركة الثقافية العربية في البلاد وتطوّرت الحركة الأدبية وترسّخ الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
كان إميل حبيبي في ذلك الإجتماع الذي ضمّ النخبة من مثقفي الحزب في سنوات الخمسين الأولى الذي أعلن عن الحاجة لاصدار مجلة ثقافية تقود الحركة الثقافية والأدبية لعرب هذه البلاد وتُعرّفهم على ما يجري في العالم من تطوّر في الفكر الانساني والثقافي والأدبي. وصدرت مجلة الجديد، بداية كملحق شهري ثقافي لجريدة الإتحاد ثم مجلّة شهرية مستقلة استمرت بالصدور حتى عام 1991، وكانت مُبلورَة ومُرسخة ومُوجهة الحركة الثقافية والأدبية في البلاد، ومع جريدة الاتحاد ومجلة الغد، استطاعت أن ترفد الحركة الأدبية العربية بأنقى ما عرَف الشعرُ العربي على مدى تاريخه، وهو شعر المقاومة الفلسطيني الذي بهر كبار مثقفي العالم العربي، وأن تُنَصّبَ في مقدمة شعراء وكتّاب العالم العربي رموزَ حركتنا الأدبية المحلية إميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم. 
وكان إميل حبيبي من الأوائل الذين دعوا بعد يوم الأرض عام 1976 إلى إقامة الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة ونجحت في شدّ الجماهير العربية وإسماع صوتهم في مختلف القضايا. وكان إميل حبيبي هو الذي عمل ونفّذ مشروع حياته الذي طالما حلم به وهو إصدار جريدة الإتحاد جريدة يوميّة، وكان له ما أراد.
نحن الذين كبُرنا على كلمات إميل حبيبي وأفكاره ومواقفه لا نستطيع أن نتجاهل هذا التاريخ العظيم لهذا الرجل. حتى ولو كانت لنا معه بعض الخلافات في المواقف والآراء، فيظل إميل حبيبي هو إميل حبيبي الذي احترمناه وأحببناه وآمنا بما دعانا إليه على مَدار عشرات السنين. وكانت كلماته في كل يوم جمعة في جريدة الاتحاد الموقعة بجهينة زادَنا الفكري والتنويري ونبراسنا لمتابعة درب المستقبل.
وكان لإميل حبيبي فتحُه الكبير في عالم القصة القصيرة بقصصه التي بدأها بقصة "بوابة مندلباوم" ثم قصص "سُداسيّة الايام الستة" التي اعتبرها الكثيرون مشاهد متكاملة لرواية طويلة. وثم كانت : رواية "المتشائل" التي فَضّلتُ اعتبارها لوحات مَشهدية، هذا الابداع الذي أدّى إلى هزّة في عالم الإبداع العربي وتناولته الأقلام النقدية في الداخل والخارج، وحتى الآن يُعتَبَر أهم عمل إبداعي نثري عربي صدر في السبعينيات، وقد كان سببا لظهور تيّار أدبي جديد اتخذ اسلوب إميل حبيبي هاديا له. ثم كانت مسرحية "لكع بن لكع" التي لم تلق الاهتمام الكافي من قبل النقاد كما المتشائل ثمّ رواية "اخطيّة" وأخيرا رواية "سرايا بنت الغول" التي حاول فيها تلخيص تجربته الحياتية والسياسية والنضالية والفكرية، واختلفت الآراء والمواقف منها.
لقد تناولتُ في دراساتي كلّ إبداعات إميل حبيبي، كما وناقشتُ في بعض ما كتبتُ مواقفَ وأفكارا تبنّاها إميل حبيبي في سنواته الأخيرة، ولهذا أكتفي بكلمتي هذه في ذكراه، ذكرى الرجل الذي عرفتُ وأكبَرْتُ وأحببتُ وخالفتُ، ولكنّه ظلّ الأثير، وظلّ الكبير: إميل حبيبي.

د. نبيه القاسم
الأثنين 1/5/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع