وداعا أبا سلام!
ألـلـقـاء الأخــيـر

صباح يوم الجمعة الاخير من شهر نيسان 1996، اتصفح ملحق "الاتحاد" باحثا عن مقال اميل حبيبي فلا اجده. الملحق ناقص.
هل تعرفون ما يعنيه عدد "الاتحاد" يوم الجمعة، بدون اميل حبيبي؟
منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حينما التقيت برفيقة العمر "الاتحاد" بفضل جار شيوعي، نصف أمّي، اعتدت ان اقرأ فيها "اسبوعيات" جهينة. هذا المقال الاسبوعي السياسي الساحر، الجارح الساخر. واستمرت قراءتي له حتى انقطع اميل حبيبي عن كتابته بعد خلاف عاصف مع الحزب الشيوعي في العام 1989 فخسرت وخسر قراء "الاتحاد"  "خفة دم" اميل وسلاطة لسانه وقلمه، وبعد نظره، ورؤياه ورؤيته التي ورثها عن زرقاء اليمامة.
وقبل اشهر من ذلك الصباح النيساني عاد اميل حبيبي لكتابة ونشر مقال اسبوعي في ملحق "الاتحاد" وهذه العودة القصيرة افرحت البعض، وهم كثر، واغاظت البعض الآخر.
وفيما انا ابحث عن المقال لفت نظري اعتذار من المحرر يبلغ القراء فيه ان اميل لم يتمكن من كتابة مقاله الاسبوعي بسبب المرض الذي ألمّ به.
قلت في نفسي: يبدو ان الرجل في وضع خطير، وضع لم يمكنه من الكتابة التي احبها وعاش من اجلها.
كنت اعرف ان اميل حبيبي مريض، ومرضه خطير. واذكر انه قبل اشهر عندما دعيت الى لقاء في فندق فلسطين في مدينة غزة للتشاور حول اقامة متحف فلسطيني ومكتبة وطنية قد التقيت به عند مدخل الفندق. كان يسير مع سهام داود بوهن، كان يحمل بيده كيسا من النايلون، وحينما رآني اشار الى الكيس قائلا: احمل دوائي في هذا الكيس واتناول يوميا عددا كبيرا من الاقراص!! وذكر عدد الاقراص التي يتناولها.
تلفت ثم قلت! سلامتك!!
وتابعنا سيرنا.
لم يكن اميل الذي اعرفه والذي زاملته عدة سنوات في صحيفة "الاتحاد" محررا للصفحات الثقافية.
كان جسده هزيلا.
وكان عنفوانه غائبا.
واميل العاصفة التي تسير على قدمين صار هادئا ناعما واهنا مثل النسيم.
هل اراد اميل ان يعاتبني؟ ام اراد ان يلومني؟ ام اراد ان يصالحني؟
كانت بيني وبينه قطيعة طويلة.
تراشقنا بالكلمات امام الناس في ندوة في مدينة القدس الغربية في العام 1991 وبلغ خلافنا ذروته حينما نشرت في جريدة "كل العرب" في 13-3-1992 مقالي الساخر الجارح "وراح أطيّر حمام بعيدك يا حبيبي!" متناولا ترشيحه لنيل جائزة اسرائيل للادب بمناسبة عيد استقلال دولة اسرائيل.
كان الحب والتقدير لاميل حبيبي يتضوع من مقالي... اميل الكاتب.. واميل القائد السياسي.. واميل المناضل.. وفي الوقت نفسه سخرت بشدة من موافقته على قبول الجائزة.
لم اتصور ان يوافق اميل على قبول الجائزة، جائزة اسرائيل في يوم استقلال اسرائيل في حين يعيش شعبنا الانتفاضة الاولى بشهدائها وجرحاها واسراها.
ولم اتصور ان يوافق على مصافحة اسحاق شمير، رئيس الحكومة اليميني المتطرف الذي وصفه اميل بأقذع الاوصاف في مقالاته السابقة.
اعتقدت بسذاجة ان مقالي سيؤثر على اميل حبيبي ويقول له: اصحَ يا رجل! وعندئذ يفعل ما فعله جان بول سارتر حينما رفض جائزة نوبل.
ولكن مقالي اغضبه واحزنه كثيرا كما علمت.. وبدأ يتعرض لي بمقالاته غامزا احيانا ومصرحا احيانا اخرى.. ثم اوعز لاحد مقربيه ان يكتب مقالا بذيئا عني فيه افتراء وكذب وشتائم.
وكانت قطيعة طويلة.
في ذلك الصباح، يوم الجمعة الاخير من نيسان 1996 قرأت اعتذار محرر"الاتحاد" عدة مرات.
قلقت على اميل.
وهاتفت سهام داود وسألتها عن صحته.
اجابتني انه مريض ووضعه صعب.
سألتها: في أي مستشفى يرقد؟ واخبرتها بأنني ارغب بزيارته.
قالت لي: لا.. ابو سلام لا يرغب برؤية احد. وضعه لا يسمح بزيارات.
قلت لها: سلّمي عليه!!
ومضت ساعة، ساعتان.. وزاد قلقي على الرجل.
ورن الهاتف في بيتي.
 رفعت السماعة واذا سهام داود تقول لي: ابو سلام يبلغك تحياته ويقول لك: تستطيع ان تزوره في المستشفى، انه في المستشفى النمساوي في الناصرة.
كانت زوجتي، عندئذ، مشغولة باعداد الكعك استقبالا لعيد الاضحى فلما علمت بفحوى المكالمة طلبت مني ان انتظرها كي ترافقني وذكّرتني انها لامتني اكثر من مرة على هذه القطيعة مع صديق احببناه وأحبّنا.
في عصر ذلك اليوم سافرت وزوجتي لنعود ابا سلام في المستشفى. وحينما ترجلنا من السيارة التقينا بالشاعر العبري نتان زاخ، صديق اميل فبادرني بالتحية واضاف: انه في الطابق الثاني في غرفة رقم...
سرنا معا ودخلنا المستشفى.
وجدنا اميل شبه نائم... ربما كان في غيبوبة...
ولما أفاق صافحناه بحرارة..
ورحب بنا.
كانت البلاد في تلك الايام تمر بأيام صعبة جدا.
يميني متطرف اغتال اسحاق رابين، رئيس الحكومة، قبل ستة اشهر.
وعمليات فدائية في حافلات الباصات وفي المدن الاسرائيلية.
واسرائيل تغتال يحيى عياش.
والعمليات الفدائية تزداد.
واسرائيل تتورط في حرب في جنوب لبنان.
والجيش الاسرائيلي يرتكب مجزرة قانا.
والانتخابات للكنيست الرابعة عشرة قريبة جدا.. وشمعون بيرس زعيم حزب العمل يتنافس مع بنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة.
وكانت الانتخابات لرئاسة الحكومة مباشرة.
وصار الاختبار بين بيرس وبين نتنياهو صعبا.
انتخاب شمعون بيرس مر جدا.
وعدم الانتخاب معناه فوز نتنياهو وهو امر مرّ جدا ايضا.
وكانت قد ارتفعت اصوات عربية من سياسيين ومثقفين، تدعو لمقاطعة انتخابات الرئاسة وهذا الامر يصب في مصلحة الليكود واليمين.. بالاضافة انه دعوة لتهميش الجماهير العربية اكثر فاكثر وابعادها عن اتخاذ القرار.
وكنت قد نشرت مقالا شديدا ضد شمعون بيرس على اثر مجزرة قانا في العاشر من نيسان.
نظر الي اميل وسألني: ما موقفك من الانتخابات؟
سألته وانا ادري ما يعنيه: الكنيست ام لرئاسة الحكومة.
قال: ان ما يهمني هو رئاسة الحكومة.
قلت: امس كتبت مقالا وارسلته لـ"الاتحاد" اعارض فيه المقاطعة وادعو للتصويت لشمعون بيرس للاسباب التالية...
قال: كفى، الاسباب نعرفها جميعا.
وحدّق بي طويلا ثم قال: هذا ما توقعته منك.
انت شجاع.. وتجيد السباحة ضد التيار.. وانا الآن مرتاح.. مرتاح!!
وفي هذه الاثناء دخل الغرفة القائد الشيوعي الكبير توفيق طوبي يصحبه اخوه جورج.
صافحا اميل.
وشعرت ان مسيرة خمسين عاما قد ملأت غرفة ابي سلام.
خمسون عاما من النضال... في عصبة التحرر الوطني.. وفي الحزب الشيوعي.. وفي البرلمان.. وفي المظاهرات .. وفي المؤتمرات.. وفي الشوارع!
خمسون عاما من النقاش الفكري بين الرجلين.. او بين القطبين في الحزب الشيوعي.
نقاش وخلاف وصداقة ومودة.
نقاش استمر طويلا حتى استقال اميل من الحزب في العام 1991.
وكانت القطيعة بين القائدين...
شعرت ان زيارتي لاميل انتهت..
ووجدت من المناسب ان اخلي فضاء الغرفة لاميل وتوفيق.. لابي سلام وابي الياس!
ودعناهم وخرجنا..
وبعد يومين غادر ابو سلام الحياة الدنيا لينام في حيفا الى الابد.
غادر الدنيا الكاتب الكبير الذي كتب السداسية والمتشائل واخطية وسرايا بنت الغول.
غادر الدنيا الصحافي الكبير الذي ملأت مقالاته الدنيا واشغلت الناس.
غادر عالمنا الخطيب الكبير الذي كان صوته الجهوري يلعلع في ساحة الأول من أيار، وفي ساحة بيت الصداقة.. وفي الاجتماعيات الشعبية والمظاهرات.. والذي كان يأسر الآلاف بكلماته وسخريته.
غادر دنيانا رفيق عزيز وصديق غالٍ.
وتذكرت سنوات القطيعة..
وتذكرت اللقاء الاخير..
وبكيت...
ووداعا أبا سلام!

محمد علي طه
الأثنين 1/5/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع