خواطر انتخابية

"الجبهة" كانت الوحيدة التي أيَّدت تعديل قانون الأحوال الشخصية للطوائف العربية، فيما عارضته "الموحدة"، أما "التجمع" فقد تهرّب من المواجهة معتبرا المحاكم الدينية جزءا من "الأوتونوميا الثقافية" لا يجوز التفريط به! * في نهاية المطاف، يصبُّ نهج التقوقع والانعزال من جهة، ونهج التذلّل والانهزام من جهة أخرى، في نفس البقعة الخطيرة التي تريد السلطة وأحزابها محاصرتنا فيها

* أما قبل

مضى أسبوعان على الانتخابات الداخلية في جبهتنا الدمقراطية، وأعتقد أن ما حدث منذ ذلك الوقت أثبت النضج السياسي لهذه الجبهة وهذا الحزب الشيوعي، وأثبت أن النقاش الداخلي الموجود – وهو موجود ولا عيب في ذلك – ليس شخصيا ولن نسمح بشخصنته، وسنتابعه بكل مسؤولية وموضوعية بعد الانتخابات.
إن مسألة وحدة الحزب والجبهة هي خط أحمر لا يمكن اجتيازه، وأعتقد أن بعض ما حدث من تسريبات وتصريحات كان ضارًا ومنحَ بعض المغرضين والمطبوعات الصفراء فسحة من المياه العكرة يصطادون فيها. لذا علينا تجفيف هذه الفسحة الضحلة، ونفض جسدنا الحزبي والجبهوي من بعض البعوضات الانتهازية التي تعيش في تلك الفسحة الآسنة وتعتاش عليها. وهذا شأن يتوجب علاجه بعد الانتخابات. ولكل حادث حديث.

* ألموقف أَم الموقع؟


من الملحوظ تزايد المطالبة بالتمثيل النسائي في هذه المعركة الانتخابية بالذات، ولكن المثير للإزعاج هو نزعة تجويف هذه المطالبة (في غالبية الأحيان) من أي مضمون سياسي أو اجتماعي جوهري، يتعدى مقولة التمثيل بحد ذاته، وهو ما جعلها مطالبة أحادية البعد بشكل أو بآخر.
صحيحٌ أن وجود نساء عربيات في قيادة العمل السياسي والبرلماني هو بحد ذاته مقولة هامة، وبحد ذاته مركب هام في قضية مكانة وحقوق النساء في مجتمعنا، ولكنه ليس الأهم وبالتأكيد ليس الحاسم. ومثلما أنه من الخطأ عدم الاكتراث لهذا المركب فمن الخطأ أيضا المبالغة في أهميته، مثلما فعل بعض رفيقاتنا للأسف.
إن السؤال الأساسي في هذه القضية ليس الموقع بقدر ما هو الموقف؛ السؤال هو من التيار الأكثر التزاما، بالفكر والقول والفعل، بموقف تقدمي وشجاع وثوري في قضايا المرأة؟ وما هي الطروحات التي تضمن للنساء مساواتهن ومكانتهن وحقوقهن في البيت والعمل والتعليم والشارع والمجتمع ككل؟
تعالوا نتذكر تجربة ائتلاف المؤسسات النسوية والنسائية العربية قبل بضعة أعوام (في الكنيست  الـ14 والـ15) في محاولة تعديل قانون الأحوال الشخصية*: فمن بين القوى الفاعلة على ساحة الجماهير العربية، كانت الجبهة الوحيدة التي أيَّدت التعديل، وعارضته – كالمتوقع - الموحدة، فيما خنع التجمع للضغوطات التقليدية وتهرّب من المواجهة، لا بل وسوّغ خنوعه بادعاء (كان قد يكون فكاهيا لولا مأساويته) مفاده أن المحاكم الدينية جزء من "الأوتونوميا الثقافية" لا يجوز التفريط به!
والسؤال الذي تدحرجه هذه الحقائق إلى عتبة أصحاب وصاحبات نزعة التمثيل النسائي أحادية البعد هو هل كان التجمع أو الموحدة سيصبحان أكثر تقدميةً منا فيما لو رشحا امرأة عربية في "مكان مضمون"؟! وهل – بربكنّ - المحك الحقيقي لهذه القضية وغيرها هو الموقع أم الموقف؟
سأكون آخر من يقول إننا في الجبهة وصلنا إلى درجة مرضية في هذه القضية، ومسألة التمثيل هي جزء صغير من عدم الرضا، وسأكون آخر من يستهين بحيوية وجود امرأة في جميع مواقع اتخاذ القرار من أجل دفع العجلة في الاتجاه الصحيح؛ لكني سأكون أوّل من يؤكد أنه ليس بالضرورة أن تسير كل عجلة تستقلها أو تقودها امرأة في الاتجاه الصحيح، وسأكون أوّل من يدّعي بأن الجبهة - رغم العصي المغروسة في عجلتها - تسير في هذا الاتجاه.

* ألتحدي والرسالة


أية قراءة موضوعية لساحة الجماهير العربية لا بد أن تفضي إلى ملاحظة كون الجبهة أقلَّ المتضررين انتخابيا من تكالب أحزاب السلطة الصهيونية وحزب العمل بالذات على الأصوات العربية.
النواة الصلبة من جمهور الجبهة بعيدة عن التصويت لأي حزب صهيوني بعدَ القطب الشمالي عن ذاك الجنوبي، وليس صدفة أن تظهر غالبية الاستطلاعات حفاظ الجبهة على قوتها بل وزيادتها، وتراجع تأييد قائمتي الموحدة والتجمع مقابل تغلغل الأحزاب الصهيونية.
لكننا لا نقيس الأمور في ميزان الربح والخسارة الانتخابي، فالتاريخ لا يصنع بعضو كنيست أكثر أو أقل، وما هو موضوع على الميزان ليس حجم تمثيل هذا الحزب أو ذاك بل ما هو أهم من ذلك بكثير؛ إنه هوية جماهيرنا السياسية الكفاحية وموقعها كقوة سلام وكقوة دمقراطية تقدمية في المجتمع الإسرائيلي.
إن هذا التغلغل الصهيوني ناتج عن ثلاثة عوامل أساسية: الأول هو الحملة على شرعية مواطنتنا من خلال نزع شرعية منتخبي الجمهور العرب والتحريض الدموي عليهم وتحميلهم مسؤولية الوضع الذي أنتجته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بليكودها ومعراخها. والثاني هو سياسة الإفقار الرأسمالية وتحويل الاحتياجات المتراكمة للمواطنين العرب إلى مساحات من الاستجداء بدلا من أن تكون مطالب شرعية لمواطنين.
وكنت قد تطرقت إلى هذين العاملين في السابق، لذا سأكتفي بالإشارة إلى معطًى هام ومثير في هذا السياق، وهو أن وضع السلطات المحلية العربية الملتزمة وطنيا عموما والجبهوية خصوصا أفضل بكثير من وضع السلطات المحلية التي يديرها أشخاص و/أو قوى مقرّبة من السلطة وأحزابها. أي أن امتهان الكرامة الوطنية غالبا ما يعني الانتقاص من الحقوق والخدمات اليومية أيضا وليس العكس. وينسحب هذا على الصعيديْن القطري والمحلي على حد سواء: فهل أنجز عرب أحزاب السلطة شيئًا لقضية عامة واحدة على مر كل هذه العقود؟!
العامل الثالث هو إلغاء الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة والعودة إلى طريقة الورقة الواحدة. فحين كان الانتخاب مباشرا (في انتخابات العامين 1996 و1999) انخفضت نسبة تأييد الأحزاب الصهيونية في الشارع العربي (وليس بسبب أي "مدّ" قومي أو إسلامي كما ادّعى البعض في حينه)، لكن هذا الانخفاض لم ترافقه تغييرات جوهرية في الوعي السياسي لمن هجر الأحزاب الصهيونية، لذا نراهم يعودون أدراجهم إلى هذه الأحزاب بعد هجران لم يدم طويلا لأنه ارتكز على الجانب المصلحي النفعي المحض دون غيره، وهكذا صار المد جزراً!
في انتخابات العام 2003 لم يؤثر إلغاء الانتخاب المباشر بشكل كبير لأن حزب العمل لم يظهر كبديل سلطوي واقعي، كما لم تكن الأوضاع الاقتصادية شديدة الوطأة كما هي اليوم، فقسمة المواطنين العرب من النمو النتنياهويّ ليست إلا مزيدا من الفقر والبطالة، بل وأكثر من المعدّل العام في الدولة.
كل هذا يؤكد مجددا جدلية القومي واليومي في نضال جماهيرنا العربية، جدلية الكرامة والخدمات، جدلية الوطن والمواطنة؛ تلك الجدلية التي اجترحها الحزب الشيوعي وتابعتها الجبهة الدمقراطية وجعلاها نهجا وطريقا إلى بر الأمان. كما يؤكد أن نهج التقوقع والانعزال، من جهة، ونهج التذلّل والانهزام، من جهة أخرى، يصبّان – كلٌ بطريقته – في نهاية المطاف في نفس البقعة الخطيرة التي تريد السلطة وأحزابها محاصرتنا فيها لتمرير مخططاتها العنصرية لا سيما تهويد النقب والجليل وسحب مواطنة أهالي المثلث.
إن واجبنا في هذه المعركة هو إيصال هذه الرسالة وهذه الجدلية التاريخية، لأن هذه المعركة تحمل في طياتها تحديا حقيقيا لهويتنا السياسية الكفاحية التي شهدت في العقد الأخير سيلا من العبث بلغ زبى اللغوَصة.
*  تعديل يتيح للنساء من الطوائف العربية ما يتاح للنساء اليهوديات، من امكانية التوجه في قضايا الأحوال الشخصية إلى محاكم العائلة (أي محكمة مدنية)، ويكسر احتكار المحاكم الشرعية والكنسية التي غالبا ما تكرّس دونية المرأة في المنظومة الأسرية.

رجا زعاترة
السبت 28/1/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع