"عندما تصبح كرة القدم كل شيء"!!

هذا هو في الحقيقة عنوان ندوة نظمتها بلدية سخنين والرابطة الاكاديمية واتحاد ابناء سخنين يوم الثلاثاء الماضي. وهو عنوان مرعب كما اراه على الاقل، وحسنًا فعل القيّمون على الندوة ان اضافوا علامتي تعجب. فبالرغم من الايجابيات الهائلة الكامنة في الرياضة، اذا اُحسن استخدامها وتوجيهها (كالسيارة مثلا) فإني اريد ان ادعي انه "عندما تصبح كرة القدم كل شيء نفقد كل شيء"!
في زمن غابر كانت ضريبة الدخل المفروضة على معاش المعلم تتناسب مع عدد اطفاله دون الثامنة عشرة. فكان "النِشط من نشاطتو" في هذا المجال" اكثرْ نسلا تزدد معاشا". وكنا نفعل ذلك غير عابئين باعباء متطلبات تربية من نجني عليهم دون ذنب اقترفوه. احد المعلمين في مدرسة ما التحق بالجامعة، وحصل على اللقب الاول فارتفع مرتبه بضع ليرات، وصار بمناسبة وبغير مناسبة، يتبجح بشهادته الجامعية وبالزيادة المالية التي حققتها له، حتى عيل صبر زميل له ذات مرة، فأفحمه بعبارة ذكورية غير قابلة للتسجيل على الورق، مفادها ان بامكانه في ليلة واحدة ان يكسب اكثر مما أكسبت زميله تلك الشهادة الجامعية. وقد يكون منطق الزميل ذاك قد اقنع الكثيرين في حينه بعدم جدوى الشهادات الجامعية، وبجدوى توظيف الطاقة الحيوية في غير الرأس العلوي!
معنى الكلام ان من المجدي في نظر الكثيرين بذل الجهود حيث تتحقق الارباح المادية. وربما ليس صدفة ان كرة القدم اصبحت كل شيء، فهذا كما يبدو هو واقع نعيشه لا مجرد شعار. نأكل كرة ونشرب كرة ونتنفس كرة، ونستيقظ على صوت الكرة في صباحات العطل المدرسية.
في كل زقاق وفي كل زاروب وفي ساحات المنازل صبية وطابة. دلوني على طفل واحد يطلب من والده ان يشتري له الكتاب الفلاني كي يطالعه! دلوني على واحد في المئة من الآباء يهدون ابناءهم ذلك الكتاب. زوروا المكتبات العامة، هل تجدون فيها صبية يقرأون او يطالعون؟
تذاكر مباراة كرة القدم "لا يلحق دمها الوطاة"! تنفد خلال ساعات، وتباع في السوقين: البيضاء والسوداء! تتدفق الالوف المؤلفة على الملعب، وبات من الضروري توقيت المناسبات بحيث لا تتعارض مع موعد المباراة. فهل هذا الواقع معقول؟؟ وماذا بشأن المجالات الحياتية الاخرى؟ لا اريد ان اسأل هنا كم من جماهيرنا مستعد للمشاركة في مظاهرة ضد هدم البيوت العربية وغيرها من مظاهر الظلم اللاحق بنا، لئلا تتهموني بالسياسة! لكني اريد ان اسأل كم منا مستعد ان يرفع صوته ضد فقره هو؟ (ربع سكان الدولة فقراء!!) وماذا بشأن التخصصات الاخرى الفنية والعلمية والاجتماعية؟
الملحق الرياضي لصحيفة "يديعوت احرونوت" اورد في عدده يوم 28/12/2005 صورا لكبار الرياضيين الاسرائيليين الذين قادتهم اقدارهم و... اقدامهم الى الحلبات الاوروبية، وما يتقاضونه من اجور بالاسترليني اسبوعيا. اليكم فيما يلي ملخصا للصورة:
1. يوسي بنيون 23000... جنيه استرليني في الاسبوع (بروطو).
2. طال بن حاييم 6500 جنيه استرليني في الاسبوع حاليا، قريبا سوف يرتفع المبلغ الى ما بين 10,000 و 12,000 جنيه استرليني في الاسبوع.
3. بيني غرشون مدرب كرة سلة 600,000 دولار اجرة سنوية صافية (لا تشمل المنح المختلفة).
4. ينيف كاطان كان سيتقاضى في مكابي حيفا حوالي 170 الف دولار صاف في الموسم، لكن بانتقاله الى فريق ويستهام الانجليزي، سيقفز معاشه الى عشرة آلاف جنيه استرليني في الاسبوع (غير صاف) أي حوالي 550 الف دولار صاف، في الموسم الواحد فضلا عن الامتيازات الاخرى، سيارة، شقة...
5. ديفيد بلاط (هذا هو اسمه لا مهنته!): 600 الف دولار في الموسم الواحد.
6. طال بورشطاين: 300 الف دولار في الموسم الواحد...
7. وتطول القائمة.
اللهم لا حسد.
ولكن أي فتى يقرأ هذه المعطيات وغيرها ويبقى عنده دافع للدراسة العلمية؟ واي والد لا يأمل في ان يصبح ابنه يوسي بنيون او طال بن حاييم او فيني غرشون؟! وبالتالي أي حافز سيدفعه الى حث فلذة كبده على التعلم وتنمية قدراته العقلية؟
يكفي ان ينمي قدرة قدميه وعضلاته بصورة اساسية.
وما ينطبق على اوروبا ينطبق على اسرائيل ايضا. فما معنى ان يتقاضى احدهم 90 الف دولار في السنة أي معدل 2000 دولار في اليوم، في حين ان الطبيب الذي قد يجري له عملية جراحية في ساقه ذات يوم، بالكاد يحصل في الشهر على ما يحصل عليه هذا اللاعب في اليوم!  هل هذا وضع معقول؟ وما هو دور الدولة؟ هل مهمتها "التفرج" على نشوء هذا الثراء الفاحش والاكتفاء باصدار تقرير عن الفقر سنويا، يؤكد تزايد عدد الفقراء من عام الى عام، ويؤكد ان الكثيرين من الاطفال يخلدون الى النوم وهم جياع؟! الا يكفي الرياضي انني اصفق له واهتف باسمه واحمله على كتفي، فيعمد الى سحب الشواقل القليلة من جيبي؟! الا يكفيه ان يتقاضى عشرة اضعاف معاش المعلم مثلا؟! شيء ما فاسد في هذه المجتمعات الغابيّة. فهي مليئة بالثروات والمليارات، لكنها في نفس الوقت مليئة بالفقراء والجياع والمحرومين وما  من مسيح يرحمهم وما من ارغفة خمسة ترد عنهم غائلة المسغبة وانا اتساءل هنا بكل جدية والله، ما هو الهدف من تكديس كل هذه الاموال، اليست هذه هي اقرب الطرق الى تفشي الانحرافات بشتى اصنافها من قتل وتحشيش وسطو وسرقة وبلطجة!! ديفيد بكهام، اللاعب العالمي المشهور "اكتفى في سنة 2004 بمبلغ 22 مليون جنيه استرليني! فما الذي يمنع جائعا من سلب "الفراطة" في جيبه الصغير تحت تهديد السلاح!! واي قانون هذا الذي يمكن ان يعاقب هذا الجائع على فعلته!!
المصيبة ان المنتفعين من هذا الواقع يقنعوننا بأنه الصحيح! ففي اوروبا وامريكا، قدوتنا ومثالنا، تسير الامور على هذا النحو. ننسى نحن العرب في هذه البلاد على الاقل، اننا حالة خاصة، ولا يخامرنا ادنى شك بأن تعويدنا على هذه الثقافة قد يكون مقصودا.
هذه ثقافة امريكية اسرائيلية تجعل الفقير ينسى جوعه وهو يلهث وراء الفرق الرياضية.
والسؤال هو هل بالامكان تغيير هذه الثقافة؟
انا اقول ان ذلك ضروري، وممكن اذا ما وزعنا جهودنا واهتمامنا توزيعا عادلا بين الرأس العلوي والرأس الاوسط، بين تنمية العقل وتنمية القدم. فعندما يشعر الجميع بالاكتفاء تسود القيم الرياضية.
واخيرا ماذا كنت سأكتب لو لم تنعقد تلك الندوة وتحت ذلك العنوان المخيف بالذات "عندما تصبح كرة القدم كل شيء"!!؟
******************

* تنقير
ألمؤكد ان مؤسس حزب كديما لا يمكنه ترؤس الحكومة التي سيقيمها حزبه بعد فوزه في الانتخابات القادمة، لا لأنه مريض، بل لأنه لم ينتسب رسميا بعد الى حزبه!!

يوسف فرح
الجمعة 27/1/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع